ورقة باراك على طاولة لبنان: ضغط أميركي – إسرائيلي بعد حرب إيران ومسار تطبيع سوري يربك الحسابات
ورقة باراك على طاولة لبنان: ضغط أميركي – إسرائيلي بعد حرب إيران ومسار تطبيع سوري يربك الحسابات
“مصدر دبلوماسي“
كتبت مارلين خليفة
لم يمض وقت طويل على توقف الحرب الكبرى بين إسرائيل وإيران قبل أيام قليلة، حتى بدأت ملامح ضغط أميركي – إسرائيلي مكثف تتشكل على لبنان وسوريا في محاولة واضحة لإعادة ترتيب التوازنات الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط بعد المواجهة المدمرة التي شهدتها المنطقة.
في هذا المناخ الملبد بالقلق حمل المبعوث الأميركي الخاص توماس باراك إلى بيروت منتصف حزيران/يونيو الجاري ما صار يعرف بـ«ورقة باراك»، وهي مقترح أميركي رسمي يطلب من الدولة اللبنانية وضع ملف سلاح حزب الله على طاولة مجلس الوزراء ليُناقش كقرار سيادي وشرعي بهدف نزع هذا السلاح. هذه الورقة تعتمد آلية «خطوة مقابل خطوة» حيث يُسلم الحزب سلاحه تدريجيًا مقابل انسحابات إسرائيلية محدودة من نقاط حدودية محتلة مثل الجزء اللبناني من بلدة الغجر أو مزارع شبعا مع ضمان مراقبة دولية لتنفيذ الاتفاق وضمن مهلة زمنية قصيرة تحدثت التسريبات عن ثلاثة أشهر فحسب.
الطرح الأميركي جاء في توقيت بالغ الحساسية. فالحرب الإيرانية – الإسرائيلية، التي خلفت دمارًا واسعًا في إيران وإسرائيل معًا، فتحت الباب أمام إسرائيل لاستثمار ما تسميه «انتصارها النسبي» في توسيع دائرة التطبيع وفرض شروط جديدة على جيرانها.
الورقة الأميركية لا تقتصر على ملف السلاح وحده بل تربط هذا المسار بتحسين العلاقة مع سوريا من خلال التعاون الأمني وضبط الحدود ومنع التهريب وترسيم الحدود اللبنانية – السورية. هذا البعد الإقليمي يُظهر بوضوح أن المقترح الأميركي ليس معزولًا عن السياق الأوسع لمحاولة واشنطن وتل أبيب إعادة هندسة المنطقة بعد الحرب.
في بيروت، جاء الرد الرسمي سريعًا لكن حذرًا. الرؤساء الثلاثة شكلوا لجنة من المستشارين لصياغة موقف موحد يرفض التعامل مع الورقة الأميركية على أنها أمر واقع أو إلزامي. مصادر متابعة أكدت أن رئيس مجلس النواب نبيه بري يقود توجهًا واضحًا يرفض خفض سقف المفاوضات إلى حد «الاستسلام السياسي»، مذكرًا بأن الدولة اللبنانية فشلت حتى في جمع السلاح الفلسطيني في مخيمات بيروت، فكيف يمكنها أن تفرض جدولًا زمنيًا ضاغطًا لتسليم سلاح حزب الله؟ اللجنة الرئاسية تعكف على إعداد «ورقة مقابلة» لا تكتفي بتعديلات تقنية، بل تقدم مقاربة سياسية ودبلوماسية بديلة تؤمن للبنان موقعًا تفاوضيًا أفضل وأكثر تماسكًا.
أما على الضفة الأخرى، فلم يتعامل حزب الله مع «ورقة باراك» كخطة قابلة للتطبيق أو النقاش الجدي تحت الضغط. في خطاب شديد اللهجة، رسم الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم خطوطًا حمراء واضحة، مؤكدا أن المقاومة تمثل عنصر ردع وطني لا يمكن التخلي عنه، وأن دعم الدولة اللبنانية في التفاوض لا يعني القبول بإملاءات تُفقد لبنان أوراق قوته. الحزب يرفض أي جدول زمني قصير أو مُلزم يفرض تسليم السلاح من دون ضمانات سيادية شاملة، ويرى في الطرح الأميركي – الإسرائيلي محاولة واضحة لفرض «استسلام كامل» على لبنان مستفيدًا من نتائج الحرب الأخيرة لإعادة صياغة توازنات القوة في المنطقة.
في خلفية هذا المشهد اللبناني المعقد، يلوح مسار آخر شديد الخطورة: الضغط المتصاعد على دمشق للانضمام إلى موجة التطبيع. مصادر دبلوماسية تتحدث عن وساطات إماراتية وروسية أعادت فتح قنوات اتصال مباشر بين تل أبيب ودمشق منذ الربيع الماضي، بدعم من إدارة ترامب. الطروحات الإسرائيلية تتضمن إعادة تثبيت اتفاق فصل القوات في الجولان لعام 1974، والبحث في مشاريع تنمية مشتركة على جانبي الجولان تحت مسمى «حديقة سلام». رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أعلن صراحة في خطاب أخير أن «الحرب مع إيران فتحت نافذة لتوسيع دائرة السلام لتشمل سوريا»، مؤكدا أن واشنطن «شريك كامل» في هذه المساعي.
ما يثير القلق في بيروت أن «ورقة باراك» تربط بوضوح مسار نزع سلاح حزب الله بأي تفاهم سوري – إسرائيلي محتمل، وكأن المطلوب من لبنان أن يلحق بالمسار السوري – الإسرائيلي في أي اتفاق سلام مستقبلي مقابل ضمانات أمنية واقتصادية، لكن بثمن سياسي باهظ يتمثل في إنهاء مقاومته بشكل كامل. الضغط السياسي لم يأت وحيدًا، بل ترافق مع تصعيد عسكري إسرائيلي محدود لكنه متواصل. شهد الجنوب اللبناني غارات ، أبرزها الهجوم المكثف في النبطية يوم 27 حزيران والذي أدى إلى سقوط مواطنة وأكثر من عشرة جرحى، فيما واصل الجيش الإسرائيلي مراقبة الحدود بطائرات الاستطلاع وشن ضربات موضعية لمواقع يُشتبه بأنها تابعة لحزب الله، وسط تهديدات متكررة في الإعلام الإسرائيلي بالقيام بضربة استباقية إذا لم يتم نزع سلاح الحزب.
يبدو أن إدارة ترامب تراهن على إنجاز صفقة إقليمية شاملة تستثمر نتائج الحرب الأخيرة مع إيران لتغيير قواعد اللعبة في لبنان وسوريا على حد سواء. لكن في المقابل، يرفض لبنان الرسمي وحزب الله المضي في أي مفاوضات تجري تحت تهديد الحرب أو العقوبات. الدولة اللبنانية تسعى إلى موقف تفاوضي موحد يحمي السيادة الوطنية ولا يفرط بورقة المقاومة دون مقابل، فيما يتمسك حزب الله بمعادلة الردع ويرفض تقديم «نصر سياسي» مجاني لإسرائيل بعد عجزها عن تحقيقه عسكريًا.
أما سوريا، فهي تتفاوض بحذر شديد ومن موقع ضعف، وتترك ملف لبنان معقدًا ضمن حساباتها الخاصة في هذه المرحلة الدقيقة.
ورقة باراك ليست مجرد مقترح تقني لنزع سلاح حزب الله، بل جزء من مشروع سياسي وأمني متكامل تسعى واشنطن وتل أبيب إلى فرضه بعد الحرب مع إيران. وهو مشروع يضع لبنان أمام ضغوط استثنائية لفرض «تسوية إقليمية» تشمل حدوده وسلاحه وعلاقاته بسوريا في ظل رهانات كبيرة وتحديات أكبر، في بلد يعاني أصلًا من انهيار اقتصادي وانقسام سياسي حاد.
في نهاية المطاف، يبدو أن المعركة المقبلة في لبنان لن تكون عسكرية فحسب بل سياسية ودبلوماسية بامتياز بما يحمله ذلك من رهانات على مستقبل البلد وهويته وخياراته السيادية.
