“مصدر دبلوماسي”
مارلين خليفة
في الحرب المدمّرة التي يعيشها لبنان منذ 23 ايلول الفائت، باتت النظريات السياسية والعقائدية والدينية تتخذ مكانا لها في الوعي الجماعي، فتختلط الوقائع بالتوهمات في نوع يشبه البارانويا الذي لن تنكشف حقيقته إلا بعد انجلاء غبار الحرب بين اسرائيل وحزب الله.
“مساحة إسرائيل تمتد من نهر النيل مصر إلى نهر الفرات في العراق”، قالها يوما تيودور هرتزل وهو الأب الروحي للدولة اليهودية، ويقوم رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو الذي يشنّ حربا ضارية ضد لبنان بالتذكير دوما بهذه المقولة، ليس فقط بالخريطة التوراتية التي اعتاد على رفعها عن أعلى منبر في الامم المتحدة أي الجمعية العامة للامم المتحدة بل أيضا عبر تغيير الواقع الديموغرافي في لبنان. فقد قامت الطائرات الحربية الاسرائيلية بجرف معالم كاملة للضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان والبقاع حتى بلغ عدد من نزحوا يقارب المليون بحسب رئيس لجنة الطوارئ وزير البيئة ناصر ياسين.
وتكثر التحليلات ومنها لدبلوماسيين لبنانيين بأن” الضربات الاسرائيلية الاخيرة للبنان تحفز اسرائيل على اجراء تغيير التركيبة السكانية في لبنان وترحيل شيعة لبنان الى العراق”.
سيناريو صعب التحقيق
“إن هذا الموضوع مبالغ فيه، فإذا تهجر الشيعة من أرضهم حاليا فهي لا تزال موجودة ويستطيعون بناءها” يعلّق وزير الخارجية اللبناني الاسبق عدنان منصور، ويشرح:” إن هذا السيناريو لا يمكن السير به لأسباب عدة ترتبط بالمنطقة وليس فقط بالطائفة الشيعية في لبنان. إذا حصل هذا الأمر في لبنان فسينعكس سلبا على كل الطوائف الموجودة في المنطقة، ولن يقتصر الامر على الشيعة، فيكون الامر وكأنه يتم خلق كيانات مستقلة رويدا رويدا، ومشروع الشرق الأوسط الجديد المطروح من قبل الغرب منذ فترة طويلة هو نظرية ولكنه غير قابل للتطبيق طالما توجد حركات مقاومة في المنطقة”.
ولكن هذه الحركات هي عرضة للضربات الموجعة التي تقوم بها اسرائيل، فكيف لها أن تكون فعالة؟ يقول منصور:” إن المعارك ضارية، وفي نهاية المطاف، سيحصل وقف لإطلاق النيران بتسويات معينة وبحل معيّن ولكن ليس لذلك اي علاقة بتهجير الشيعة وهم ثلث سكان لبنان”.
إن المكونات القومية الموجودة في المنطقة متشعبة في كلّ بلد، وترحيل طائفة ما سينعكس على بقية الطوائف او القوميات،” هذا يعني ضمنيا أن بقية الطوائف سيأتي دورها للترحيل”.
دمار واسع
إن مشهد الدمار مخيف في ضاحية بيروت الجنوبية كذلك في الجنوب والبقاع وفي بيروت العاصمة وفي جبل لبنان. وبات الناطق الرسمي باسم الجيش الاسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي جزءا من يوميات اللبنانيين في تلك المناطق لأنه يذيع البيانات الرسمية التي تطلب منهم اخلاء منازلهم او البقاء فيها.
“الجيش الإسرائيلي يدعو المدنيين اللبنانيين في 25 بلدة جنوب لبنان إلى الإخلاء الفوري، يُطلب من المدنيين الإخلاء والتوجه شمالاً. “انتباه، لا تتحركوا جنوباً! أي حركة جنوباً قد تعرض حياتكم للخطر.”
هكذا بهذه الكلمات البسيطة التي ينطق بها أدرعي تتحول حياة الكثير من اللبنانيين الى جحيم.
ما يتبع هذه الأوامر وفي إطار زمني قصير هو قصف جماعي. تحوّل اسرائيل تحول مساحات واسعة في لبنان إلى أراضٍ قاحلة وتخلق ضغوطًا داخلية على البنية التحتية للبلاد والمدن الأخرى.
مهى يحي وهي مديرة مؤسسة كارنيغي كتبت على حسابها على منصة أكس:” الجيش الإسرائيلي يأمر عشرات الآلاف من السكان بإخلاء أجزاء كبيرة من جنوب لبنان بعضها شمال الليطاني. مدينة النبطية وحدها تضم ما لا يقل عن 50,000 نسمة، وقد استقبلت خلال العام الماضي العديد من النازحين من القرى الحدودية. غزة اثنان تحت انظاركم”.
تهجير البلدات المسيحية والاستعانة بالفاتيكان
بعد البلبلة التي أحاطت بموضوع الإنذارات إلى القرى الحدودية لا سيما عين إبل ورميش ودبل بضرورة الإخلاء تدخل الفاتيكان على خط المعالجة، لا زال أهالي هذه البلدات يعيشون هاجس الخوف مع ظروف قاسية تتعلق بالغذاء والمحروقات .
المخاوف بدأت عندما تم تبليغ أهالي بلدة عين إبل بضرورة اخلائها عندها نزحوا بإتجاه رميش تاركين خلفهم كل ممتلكاتهم الشخصية خوفًا من أي استهداف.
صمد سكان عين إبل ودبل والقوزح ورميش سنة كاملة، ومن ترك منزله في بداية الحرب خوفاً، عاد إليه بعد شهر أو اثنين وسط تطمينات أن هذه القرى لن تتعرض للقصف ما لم تنطلق عمليات لـ”حزب الله” من أحيائها أو من حرشها. وهكذا حدث، فحيّدها الحزب عن عملياته، حتى أصبحت في الفترة الأخيرة مراكز نزوح بعد اشتداد المعارك.
الصدمة الأولى وقعت الثلثاء الماضي في عين إبل عندما بدأ عدد من الأهالي يتلقون اتصالات للإخلاء الفوري، وكان المتصل ينادي الأشخاص بأسمائهم. وحملت هذه الاتصالات إصراراً على المغادرة رغم مناقشة الأهالي للمتصل بأن قريتهم آمنة وليس فيها عناصر لـ”حزب الله”.
وتبع الاتصالات إعلان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي بأن عين إبل ضمن القرى التي يجب إخلاؤها فوراً، وهذا ما ترك الأهالي في إرباك كبير بسبب عدم الجهوزية، فخرجوا بما عليهم وبما تيسّر للتجمع في الساحة العامة والانطلاق نحو رميش، المحطة الأخيرة قبل التوجه إلى مكان آمن.
الناشط السياسي والأستاذ الجامعي وسام العميل هو إبن بلدة رميش، وينشط ميدانيا في توفير المساعدات لأهالي البلدات النازحة وبالاتصالات التي تجنب البلدة تهجيرها، يروي:” إن الاسرائيليين طلبوا رسميا اخلاء عين إبل، فانتقل اهلها الى رميش ومن رميش انطلق جزء كبير منهم على بيروت وبقي الجزء الآخر في رميش. برأيي أن السبب بطلب الاسرائيليين اخلاء عين ابل يتعلق بوضعها الجغرافي وهي متداخلة مع حانين وبنت جبيل والأراضي فيها حرش واسع، وبذهن الاسرائيلي أنه قد يكون هنالك وجود لحزب الله، وهي كاشفة بموقعها وثمة قرى كثيرة حولها”.
يضيف:” أهلي لا يزالون في رميش وأقاربي كلهم في البلدة، أهل رميش مصرين على البقاء في أرضهم وفي منازلهم إلا إذا طلب منهم الاخلاء بالقوة. ونحن نقوم بمتابعة الموضوع مع المرجعيات الدينية وخصوصا السفير البابوي في لبنان المونسينيور باولو بورجيا الذي سبق وزار رميش 3 مرات وحض اهلها على البقاء في ارضهم وخصوصا في العام الماضي وكذلك مع ممثلة الامين العام للامم المتحدة في لبنان جانين بلاسخارت”.
لم يطلب الاسرائيليون من أهالي دبل اخلاءها، ولكن قتل ثلاثة من ابنائها طالتهم غارة اسرائيلية عند اطرافها: رجل وزوجته وابنه. هذا الامر خلق حالة من الذعر، ويمكن القول بأن رميش هي اليوم الملجأ. “نحن نريد مساعدات، ونوفر بعضها بمواكبة الصليب الاحمر واليونيفيل، نحتاج الة الامور الأساسية من مازوت ومواد طعام اساسية دواء الخ…الناس مصرة أن تبقى في منازلها، لأن الهاجس الكبير الذي نعيشه هو أننا إذا غادرنا فإننا لن نعود الى منازلنا هذه المرة” يقول وسام العميل.
ويروي انه بعد انتهاء حرب تموز عاش اهالي رميش حقيقة تهميشهم من التعويضات سواء من الدولة اللبنانية او من حزب الله الذي بنى القرى والبلدات الشيعية فحسب متجاهلا استقبال رميش لأكثر من 30 ألف نازح شيعي وقتها بحسب العميل.
في الحرب الحالية “نحن كمسيحيين لم تعمل الكنيسة لتوفير تسجيل الاولاد في المدارس ولتوفير شقق للإيجار لمن يرغبون بالنزوح بأسعار رخيصة، لذا الناس متمسكين بأرضهم ويعتمدون على العذراء مريم وعلى الصلوات وعلى الاعلام الهادف الذي ينقل معاناتهم”.
تعد عين إبل ضيعة كبيرة ولكن الساكنين فيها 5 آلاف نسمة، وغالبيتهم صاروا في بيروت فيما يبلغ عدد سكان رميش 13 ألف نسمة يبلغ عدد المقيمين منهم 6 آلاف نسمة.
ترحيل الشيعة
يقول أحد الدبلوماسيين اللبنانيين أخاف من ترحيل الشيعة اللبنانيين الى سوريا أو العراق المستعد لأن يفتح ابوابه ويستند الى تدمير القرى الممنهج والبنى التحتية لمنعهم من العودة
ويقول أن ثمة فكرة اسرائيلية لانشاء منطقة عازلة
DMZ
مثل الكوريتين،
من هنا عمدت المقاومة بعد حرب العام 2006 الى اعادة النازحين على الفور الى قراهم وبلداتهم التي تهدّمت في حرب العام 2006 في زحف بشري كبير.
ويتخوف الدبلوماسي من سيناريو كارثي يشبه ترحيل الفلسطينيين في العام 1948 من غزة، ويصفه بأنه “سيناريو مرعب سيؤدي الى تغيير خارطة الشرق الاوسط وتقسيم لبنان، وستزحف المستوطنات الاسرائيلية الى جنوب لبنان، ويكون البقاع في فلك دولة علوية في سوريا”. وأردف الدبلوماسي:”هذا اسوأ السيناريوهات ولكنه سيفشل”.
أوهام
“هذا التدمير الممنهج حصل في العام 2006 وفي العام 1982 ولا يزال الامر مستمرا، إن الصيغة التي وضعت بعد الحرب العالمية الاولى أي اتفاقية سايكس بيكو لم يأت وقت تغييرها لأن ذلك يخلق مشاكل لدول المنطقة برمتها ومنها اسرائيل” هكذا يقول العميد المتقاعد الياس فرحات واصفا هذا السيناريو بأنه “غير قابل للتحقيق”. ويضيف: “المشاكل التي سيخلقها نتنياهو هي لذاته في الضفة الغربية والأردن. هدف التدمير المنهجي، هو الضغط على الحكومة اللبنانية والقضاء على حزب الله، ولا ابعاد له اكثر من ذلك”.
ويشير فرحات الى ان “الحرب ستبقى الى ما بعد استلام الرئيس الاميركي الجديد في شباط وبعدها بشهر تصدر تعيينات الادارة واستراتيجيتها”.
من جهته يشير عدنان منصور بقوله:” يجب تسليط الضوء على أن وحدة اللبنانيين تكسر أي مشروع قد يحمله بنيامين نتنياهو أو سواه، لأن اي مشروع جهنّمي لن يوفر اية طائفة من الطوائف اللبنانية، ومن يعتقد أن في لبنان يمكن أن يكسب فريق وأن يخسر فريق فهو واهم، كلنا في سفينة واحدة، وعندما تغرق هذه السفينة أو يخرقها أحد فسيتم القضاء على كل الموجودين على متن هذه السفينة”.