مقالات مختارة
ديفيد شينكر
فورين بوليسي“
لن يتزحزح الخط الأحمر الذي وضعه السيسي ضد استيعاب النازحين الفلسطينيين، لكن مصر تستطيع من دون شك استضافة مبادرات حاسمة تساعدهم على إعادة بناء غزة، وتدريب أفراد الأمن، وتحلية المياه، واستبدال الوظائف التي لم تعد إسرائيل مستعدة لتوفيرها.
بعد مرور ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب مع “حماس”، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن نيتها السيطرة على “محور فيلادلفيا”، وهو شريط حدودي يبلغ طوله 14 كيلومتراً ويفصل بين غزة ومصر. وستسمح السيطرة على المحور لإسرائيل بتحسين قدرتها على منع إعادة تسلح “حماس” بعد الحرب، بعد أن تبيّن أن الحركة هرّبت معظم ترسانتها عبر شبه جزيرة سيناء. لكن الاحتلال الإسرائيلي طويل الأمد للممر سيثير أيضاً على الأرجح غضب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وفي حين حافظ السيسي على علاقات جيدة جداً مع إسرائيل – شملت تعاون تكتيكي عميق لمكافحة الإرهاب في سيناء – إلّا أن الزعيم الاستبدادي أبدى مؤخراً اهتماماً غير عادي بالرأي العام المصري بشأن غزة.
ويقيناً، أن القضية الفلسطينية لها صدى كبير في مصر. فدعم السيسي الخطابي للفلسطينيين مكنه من استباق الشارع، وتوجيه الغضب الشعبي، وربما تعزيز شعبيته المتراجعة في ظل أزمة اقتصادية محلية عميقة، حيث يحمّله العديد من المصريين مسؤوليتها. كما أن تعطيل الشحن في البحر الأحمر المرتبط بالحرب بين إسرائيل و”حماس” يخلّف تأثيراً كبيراً على عائدات قناة السويس، مما يفاقم المشاكل المالية في مصر. وبغض النظر عن الأسباب، يتحدث السيسي عن غزة كثيراً، وقام في الأشهر الأخيرة برعاية مسيرات وحتى مظاهرة عامة جماهيرية نادرة لدعم الفلسطينيين.
وعلى الرغم من ذلك، لا يكنّ السيسي المودة تجاه حركة “حماس”، الفرع الفلسطيني لجماعة “الإخوان المسلمين”، التي تحكم غزة. فقد قضت مصر إلى حد كبير على فرع جماعة “الإخوان المسلمين” في البلاد في عام 2013، وقتلت وفقاً لبعض التقارير أكثر من 1000 عضو في الجماعة الإسلامية في يوم دموي واحد. ومنذ ذلك الحين، بنى السيسي ما يقرب من ثلاثين سجناً جديداً لسجن فلول “الإخوان” وغيرهم من معارضي النظام. لكن السيسي يواصل التعبير عن دعمه القوي لغزة، مثل العديد من نظرائه في المنطقة.
وخلال فعالية رعتها الحكومة المصرية دعماً للقضية الفلسطينية في القاهرة في تشرين الثاني/نوفمبر، تعهد السيسي بولاء مصر، قائلاً: “لقد كان قراري حازماً، وهو أن نكون في طليعة المساندين للأشقاء في فلسطين وفي ريادة العمل من أجلهم… وكان حكم التاريخ والجغرافيا أن تظل مصر هي الأساس في دعم نضال الشعب الفلسطيني”.
ومن خلال تقديم هذا الدعم المعلن، كانت القاهرة واضحة بشأن ما لن تفعله للفلسطينيين. فقبل كل شيء، لن تكون مصر منفى للفلسطينيين. فقد وصف السيسي أي طرد إسرائيلي للفلسطينيين من غزة إلى مصر بأنه “خط أحمر”. وأعلن أيضاً أن حدود مصر لن تُفتح للسماح بدخول الفلسطينيين النازحين من جراء العنف. لكن مصر كانت أقل وضوحاً بشأن ما ستقوم به فعلياً وبشكل استباقي من أجل الفلسطينيين.
وتجدر الإشارة إلى أن مصر تمثل اليوم نقطة انطلاق لمئات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية التي تعبر إلى غزة. وقد لمحت القاهرة أيضاً إلى إمكانية مشاركتها في خطة أمريكية لم يتم تحديدها بعد تنطوي على تشكيل قوة حفظ استقرار عربية في غزة بعد الحرب. وتُعد المساهمة المصرية في قوة حفظ السلام لفتة مفيدة على نحو غير اعتيادي خلال فترة انتقالية ستكون صعبة بالتأكيد. لكن هذا ليس سوى جزء مما يجب على القاهرة فعله لدعم الفلسطينيين عند انتهاء الحرب.
وشكلت المجزرة التي ارتكبتها “حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر بحق مدنيين إسرائيليين بشكل رئيسي علامة فارقة في النزاع الدائر بين إسرائيل وغزة. فعلى الرغم من أن إسرائيل أنهت احتلالها لغزة رسمياً في عام 2005، إلّا أنها استمرت حتى الآونة الأخيرة في تزويد القطاع بالمياه والكهرباء وفرص العمل. وفي الواقع، في السادس من تشرين الأول/أكتوبر، كان نحو 18500 فلسطيني من غزة يعملون في إسرائيل، وهي ثاني أكبر مصدر لفرص العمل الفلسطينية بعد الحكومة التي ترأسها “حماس”.
وبغض النظر عن التوصل إلى تسوية سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين أم لا، فمن غير المرجح أن يحصل فلسطينيو غزة على تصاريح للعمل في إسرائيل مجدداً – خاصة بعد ظهور تقارير مفادها أن العمال من غزة ربما قدموا لـ “حماس” معلومات استخباراتية عن الكيبوتسات والمرافق العسكرية الإسرائيلية قبل وقوع الهجوم. ففي أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، أفادت التقارير أن قطاع البناء الإسرائيلي قدم التماساً إلى الحكومة الإسرائيلية للسماح للشركات بتوظيف ما يصل إلى 100 ألف هندي ليحلوا محل العمال الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية. وفي أعقاب هجوم “حماس”، علقت إسرائيل أيضاً بيع الكهرباء والمياه لغزة. وقد استؤنفت إمدادات المياه، لكن من غير الواضح إلى متى.
وبعد الحرب، قد تتحفظ إسرائيل بشأن مواصلة العمل كالمعتاد، وقد تفضل بالأحرى قطع جميع علاقاتها مع القطاع المضطرب.
وهنا يأتي دور مصر. فالاقتصاد المصري الضعيف يحول دون إمكانية تقديم مساهمات مالية للفلسطينيين في غزة، ولكن إذا تم دعمه من قبل دول الخليج، فهناك الكثير الذي يمكن للسيسي أن يفعله لدعم غزة في مرحلة ما بعد “حماس”، وربما حتى تحقيق الربح لمصر في معرض ذلك.
على سبيل المثال، هناك مساحة واسعة في شبه جزيرة سيناء لبناء منشأة لتحلية المياه ومحطة لتوليد الطاقة من أجل تلبية احتياجات غزة. وعلى غرار إسرائيل، يمكن لمصر أن تبيع هذه الكهرباء والمياه للفلسطينيين.
ويمكن لمصر أيضاً أن تساعد العمال الفلسطينيين من خلال توفير تصاريح عمل يومية. ففي البداية، يمكن لهؤلاء العمال المشاركة في بناء هذه المرافق. ولاحقاً، ربما يمكنهم إيجاد عمل في مناطق اقتصادية جديدة تقع في سيناء بالقرب من رفح. بإمكان واشنطن تحفيز هذه المبادرة من خلال إقامة مناطق صناعية مؤهلة – مثل تلك التي تم إنشاؤها بعد اتفاقيات السلام الإسرائيلية مع مصر والأردن – يتم فيها تصنيع المنتجات بمواد مصرية وتجميعها من قبل يد عاملة فلسطينية وبيعها معفاة من الرسوم الجمركية في الولايات المتحدة وأوروبا.
وبالإضافة إلى هذه المساعدة، بإمكان مصر، إذا طُلب منها، أن توافق على تدريب قوات الأمن التابعة “للسلطة الفلسطينية”، والتي تأمل واشنطن أن تملأ الفراغ بعد هزيمة “حماس” في النهاية. أمام القاهرة احتمال آخر مفيد ومربح وهو إتاحة الفرصة لشركات البناء المصرية لتكون في طليعة عملية إعادة بناء غزة.
منذ انتهاء الاحتلال المصري لغزة عام 1967، اقتصر التعامل المصري مع القطاع إلى حد كبير على الوساطة السياسية والعمليات الاستخباراتية. وتسمح أزمة “حماس” لمصر بضرب عصفورين بحجر واحد. فمصر تستطيع أن تلعب دوراً رائداً في مساعدة الفلسطينيين، وبإمكان السيسي أيضاً، من خلال اضطلاعه بدور مثمر في غزة ما بعد الحرب، أن يخفف من الانتقادات الموجهة إليه في الكونغرس الأمريكي، من بينها تلك المتعلقة بإعادة انتخابه في كانون الأول/ديسمبر، وهي انتخابات تُعتبر على نطاق واسع غير حرة وغير نزيهة.
وفي حين لا يريد السيسي، بشكل مفهوم، أن يُنظر إليه كمتواطئ في تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، إلّا أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة المتاخمة لغزة، ولم يعد بإمكانها إعفاء نفسها منطقياً من أي مسؤولية تجاه إخوانها المُعلنين. ويتحدث السيسي كثيراً عن دعم الفلسطينيين، ومع تحوّل الحرب في غزة إلى مرحلة أقل حدة، حان الوقت لكي تتحرك مصر.
ديفيد شينكر هو “زميل أقدم في برنامج توب” في معهد واشنطن، ومدير “برنامج «روبين فاميلي» حول السياسة العربية” التابع للمعهد. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “فورين بوليسي“. في 9 كانون الثاني/يناير 2024.