
البابا الجديد ليون الرابع عشر
“مصدر دبلوماسي”
المفاجأة كانت مدوّية! فقد جرى انتخاب الكاردينال الأميركي روبرت فرنسيس بريفوست، البالغ من العمر 69 عامًا، رئيس دائرة الأساقفة في الفاتيكان، ليكون الحبر الأعظم الـ267 للكنيسة الكاثوليكية، وقد اختار اسم “ليون الرابع عشر”. وكان يُعد من بين المرشحين المحتملين (البابابلّي)، لكنه كان من بين أكثرهم تكتّماً. وتضم هذه القائمة أسماء الكرادلة الذين يُكثر الحديث عنهم قبيل انعقاد المجمع المغلق في كنيسة سيستينا.
ويمثّل انتخابه أيضًا دلالة على حرية الكنيسة الكاثوليكية، التي تجرّأت، رغم كون المرشح أميركيًا، على اختيار شخصية “غير معروفة”، بعدما اعتبارالكرادلة الـ133 أنه الرجل المناسب للمرحلة. وكان من أبرز الحجج التي رُفِض على أساسها في الأيام الماضية، هو كونه مولودًا في الولايات المتحدة. وها هو، وقد أصبح بابا من غير أن يتخيّل ذلك حقًا، يحمل اليوم على عاتقه مسؤولية تمثيل الكنيسة الكاثوليكية جمعاء.
انتُخب بعد أربع جولات من التصويت. وكان الجسم الانتخابي الكاردينالي – وعدد المصوّتين 133 كاردينالًا، تحتاج الأغلبية إلى 89 صوتًا – منقسمًا بين من يفضّلون عودة بابا إيطالي (وكان الكاردينال بارولين، الوزير الأول السابق للبابا فرنسيس، المرشّح الأوفر حظًا)، وبين مرشحين آخرين معروفين لكنهم من خارج التوقعات، مثل الكاردينال أفيلين، أو بطريرك القدس الكاردينال بيتسابالا، وهو إيطالي الجنسية، وغيرهم.
وربما نُسِي أن من بين الكرادلة الـ133 الذين شاركوا في التصويت، هناك 70 جنسية مختلفة ممثّلة، وأن مركز العالم الكاثوليكي ليس روما ولا إيطاليا، بل المسيح، وأن الأمر لا يتعلّق باختيار خلف للبابا فرنسيس، بل باختيار خليفة للرسول بطرس.
ما إن ظهر ليون الرابع عشر على الشرفة حتى أطلق “نداء سلام” موجّهاً إلى “جميع الشعوب”، ودعا إلى “بناء الجسور” من خلال “الحوار”. وسارع رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، إلى تهنئته عبر رسالة على شبكته “تروث سوشال”، قائلاً: “يا لها من لحظة مثيرة، ويا له من شرف عظيم لبلادنا”، معبّراً عن “تطلّعه” للقاء القائد الجديد للكنيسة الكاثوليكية.
هذه المفاجأة البابوية ستفتح الباب أمام مفاجآت أخرى. فالكاثوليكية، الراسخة في تقاليد تمتد لألفي عام، والتي تضم مليارًا وأربعمئة مليون مؤمن، تدخل اليوم ألفيتها الثالثة… وتُظهر هذه الانتخابات أنّ تاريخها قادر على التطلّع في اتجاهات جديدة، دون أن يغفل عن المدى البعيد الذي يطمح إليه.
أوغسطيني
في أول ظهور له في ساحة القديس بطرس، قدّم البابا الجديد نفسه بوصفه “ابن القديس أوغسطينوس”، أسقف هيبّونا في القرن الرابع، والذي تستند قاعدته إلى الوحدة، وزهد العيش، والمحبة.
فبعد يسوعي، ستُقاد الكنيسة الكاثوليكية اليوم على يد أوغسطيني. وقد دوّت كلمات خلف البابا فرنسيس، ليون الرابع عشر، وسط صمت عميق في ساحة القديس بطرس مساء الخميس. فبعد لحظات الفرح التي عمّت الجموع عقب تصاعد الدخان الأبيض، خيّم السكون ليستمع الحاضرون إلى الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست، الذي انتُخب حبرًا أعظم، وهو ينطق بكلمات مقتضبة أعقبها بمنح البركة الرسولية. وفي هذه الرسالة الأولى التي تمحورت حول “السلام”، قدّم الأمريكي نفسه بإيجاز قائلاً: “أنا أوغسطيني، ابن القديس أوغسطينوس”.
ففي سن الثانية والعشرين، وبعد دراسته للرياضيات والفلسفة في جامعة فيلانوفا بفيلادلفيا، قرّر الأمريكي أن يلتحق بالرهبنة التابعة لأسقف هيبّونا، حيث نذر نذوره الدائمة عام 1981، قبل أن يُرسم كاهنًا في روما بعد عام. وقد اضطلع الأب بريفوست لاحقًا بدور بارز في عائلته الرهبانية، إذ تولّى منصب الرئيس العام للرهبنة الأوغسطينية لمدة اثنتي عشرة سنة.
الفقر والحياة الجماعية
منذ تأسيسه في القرن الثالث عشر، يُعدّ رهبان القديس أوغسطينوس واحدًا من بين أربعة رهبانيات كبرى تُعرف في الكنيسة الكاثوليكية بـ”الرهبانيات المتسوّلة”، إلى جانب الفرنسيسكان والدومينيكان والكَرْمليين. وتضمّ هذه الرهبنة عددًا كبيرًا من الجماعات الرهبانية للرجال والنساء في مختلف أنحاء العالم، وتتنوع أساليب حياتها، لكنها جميعًا ترتكز إلى القاعدة نفسها التي وضعها مؤلّف الاعترافات الشهير.
تركّز هذه القاعدة التي صيغت في القرن الرابع على الحياة المشتركة، والوحدة، وتقاسم الممتلكات. ويقول الفصل الأول منها: “عيشوا متّحدين في بيت واحد، بقلب واحد ونفس واحدة متجهَين إلى الله”. ويدعو أوغسطينوس الهيبّوني إلى البساطة في العيش والتجرد من الملكية الخاصة، كما يحث على الصوم والتقشّف، وعلى الأخصّ على المحبة العميقة، لا سيما من خلال “رعاية المرضى”، و”المغفرة دون جدال”، والامتناع عن “الكلام الجارح”.
أما اللاهوت الأوغسطيني، الذي يُعدّ من الركائز المؤسسة للفكر الكنسي، فيضع الحقيقة الداخلية في صلب بحثه الفلسفي. وكان القديس أوغسطينوس يقول إنه قضى حياته كلها في البحث عن الله: “بحثت عنك قدر ما استطعت، بقدر ما منحتني من قوة، بحثت عنك، رغبت في أن أرى ما آمنت به، جادلت كثيرًا، وعملت كثيرًا”، كما ورد في واحدة من أشهر صلواته. ويختزل هذا السعي الروحي في عبارة تعبّر عن المثال الأوغسطيني: “قلب واحد ونفس واحدة متجهان إلى الله“ (أعمال الرسل 4:32).
رئيس عام للرهبنة
بحسب تقديرات الأب جان-فرانسوا بوتي، الراهب الأوغسطيني وأستاذ الفلسفة في المعهد الكاثوليكي في باريس، فإن القاعدة الأوغسطينية تُتّبع اليوم من قِبل “أكثر من خمسين ألف راهب وراهبة في أكثر من 130 معهدًا من معاهد الحياة المكرّسة”، كما قال خلال لقاء للأكاديمية الكاثوليكية في فال دو سين عام 2016.
ومن بين العائلات الرهبانية التي تتّبع هذه القاعدة، يأتي رهبان القديس أوغسطينوس، التي انضمّ إليها الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست في سن الثانية والعشرين. وقد تأسست رسميًا سنة 1256 على يد البابا ألكسندر الرابع، الذي وحّد آنذاك عدّة جماعات صغيرة من النُسّاك. وتُعدّ هذه الرهبنة “متسوّلة”، تنشط في التبشير والتعليم والعمل الرسولي. وهي حاضرة على مختلف القارات الخمس، وتضطلع بمهام متنوعة تشمل التدريس في المدارس والجامعات، والرعاية الرعوية، وخدمة الفقراء، والمرافقة الروحية، والبحث اللاهوتي. وقد نال روبرت فرنسيس بريفوست شهادة الدكتوراه في القانون الكنسي عام 1987 من جامعة القديس توما الأكويني الحبرية (الأنجيليكوم) في روما، وقد تناولت أطروحته دور الرئيس المحلي في رهبنة القديس أوغسطينوس.
وبعد انتقاله إلى البيرو، تولّى في التسعينيات مهام متعددة منها: رئاسة مجتمعه الرهباني، والنيابة القضائية الكنسية، وإدارة المعهد الإكليريكي الأوغسطيني، بالإضافة إلى عمله كعميد للدراسات وعميد للمعهد الإكليريكي الأبرشي. وعند عودته إلى شيكاغو عام 1999، انتُخب الأب بريفوست رئيسًا عامًا لرهبنة القديس أوغسطينوس، وهو المنصب الذي شغله لفترتين متتاليتين من ست سنوات، من عام 2001 إلى 2013.