
البوصلة
كتبت مارلين خليفة
مرة جديدة، يعيد الإرهاب رسم خارطة الموت في الشرق الأوسط. تفجير كنيسة مار إلياس في حيّ الدويلعة الدمشقي والذي أودى بحياة 22 شخصا وأصاب العشرات لا يمكن أن يقرأ بوصفه حادثاً أمنياً عابراً بل كجرس إنذارٍ مدوٍ على ما تبقّى من فسيفساء التنوّع في هذه المنطقة التي كانت، يوما مهداً للديانات والحضارات.
المتهم هذه المرة هو تنظيم “داعش”، الذي، رغم تراجعه الميداني، لم يهزم فكريا وأمنيا. عودة هذا التنظيم إلى تنفيذ هجمات نوعية ضد المدنيين وبخاصة داخل أماكن العبادة تؤكد أن البيئة الحاضنة للتطرف لا تزال قائمة وأن خطرها لا يهدد سوريا فحسب بل يلامس عمق الاستقرار الهشّ في دول الجوار وعلى رأسها لبنان.
لقد دفع المسيحيون في العراق وسوريا ولا يزالون، ثمنا باهظا لهذا الصعود الراديكالي. ففي العراق تقلّص عدد المسيحيين من نحو 1.5 مليون قبل العام 2003 إلى أقل من 200 ألف اليوم. نزح الآلاف من الموصل وقرقوش وسهل نينوى، بعدما خيّرهم تنظيم “داعش” بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو الرحيل وإلا فالقتل.
سوريا ليست بأفضل حال. قبل العام 2011، كان عدد المسيحيين يُقدّر بنحو 3 ملايين ونصف مليون أما اليوم فلا يتجاوز عددهم الـ800 الف، وقد غادرت نسبة كبيرة منهم نحو لبنان والأردن وأوروبا. الكنائس التي بقيت صامدة في وجه الزمن انهارت أمام حقد التطرف. والرسالة كانت واضحة: لا مكان للآخر لا دينيّا ولا ثقافيا.
في لبنان، وبالرغم الاستقرار النسبي فإنّ مسيحيي سوريا والعراق الذين لجأوا إليه لم يجدوا إلا ملاذا مؤقتا وسط غياب أي خطة وطنية لاحتضانهم أو دمجهم فيما يدفع الانهيار الاقتصادي والأمني الكثيرين إلى التفكير بالهجرة الدائمة. أما الأردن، فاستضاف واحتضن ولكنه لم يكن يوماً بلداً توطينياً فظلّت الإقامة فيه مرهونة بالمؤقت.
ما يحدث اليوم ليس مجرد تغيّر ديموغرافي بل زلزال وجودي يهدد النسيج الحضاري لمنطقتنا. الشرق الأوسط الذي يفرغ من مسيحييه يتحوّل إلى فضاء أحاديّ تتراجع فيه فكرة التعدد ويعلو فيه صوت الانغلاق والإقصاء.
المخيف أن هذا النزيف يجري بصمت وبلا ضجيج. لم يعد الحديث عن “حماية الأقليات” أولوية دولية، وكأن العالم اعتاد على أخبار الخطف والقتل والتهجير حتى صارت مألوفة. في المقابل فإن السكوت عن هذا المسار يعني التسليم بانتصار مشروع التطرّف، وبأن التنوّع الديني والثقافي في مهد الديانات لم يعد مرغوباً فيه.
إنّ ما حصل في كنيسة مار إلياس في دمشق ليس معزولاً بل هو جزء من سياق أوسع يسعى الى إفراغ الشرق من مسيحييه. والمسؤولية لا تقع على التنظيمات المتطرفة فحسب بل أيضا على غياب الإرادة الدولية لمعالجة جذور التطرّف، وعلى ضعف السياسات المحلية في حماية الأقليات.
لبنان، الجار الملتصق بسوريا، لا يمكنه أن يبقى في موقع المتفرّج. فالنار المشتعلة في الدويلعة قد تمتد إلى بعبدا او جبيل أو زغرتا أو البقاع. وحماية المسيحيين في الشرق ليست شأناً مسيحياً فحسب، بل قضية وطنية وإنسانية تتعلق بمستقبل العيش المشترك في هذه البقعة التي كانت يوماً مثلاً يُحتذى في التنوع.
ربما آن الأوان لنصرخ بصوت عالٍ: إنقاذ ما تبقى من التنوع ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية. والسكوت جريمة لا تقل بشاعة عن التفجير نفسه.