
“البوصلة”
مارلين خليفة
شهدنا في الأيام الأخيرة تصعيدا في الخطاب السياسي والدبلوماسي في لبنان بلغ حدّ استعمال تعابير من شأنها أن تخدش مكونات أساسية من المجتمع اللبناني ما يهدّد بنسف مناخ الحوار ويزيد من تعقيد الأزمة عوضا من الاسهام في حلّها. إنّ إطلاق توصيفات مثل “الثلاثية الخشبية” على معادلة “الجيش والشعب والمقاومة” والتي وردت في جميع البيانات الوزارية منذ العام 2005 لا يمكن أن يصدر عن وزير خارجية يُفترض أن يتسلّح بعبارات جامعة لا تثير استفزاز أي طرف لبناني.
إنّ العمل الدبلوماسي بطبيعته، يهدف إلى تبريد النزاعات لا إلى تأجيجها. فكيف يمكن لوزير خارجية أن يصف فئة من اللبنانيين أو خيارا تبنته حكومات متعاقبة بكلمات استهزائية؟ هذا أمر مستغرب من مسؤول يفترض به أن يُتقن فن الخطاب ويختار كلماته بدقة لا أن يستخدم تعابير دارجة تصلح لخطاب حزبي لا لموقع رسمي دبلوماسي.
لا يُفترض بالوزير يوسف رجي، وهو إبن السلك الدبلوماسي، أن يحدّثنا بلغة حزبية فيها تحدّ واستفزاز. الوزير ليس زعيما حزبيا أو نائبا معارضا بل رئيس دبلوماسية بلد متنوع وشديد الحساسية في تركيبته.
عندما يتحدث الوزير رجي عن “أن الشعب لم يعد يريد هذه الثلاثية” عليه أولا أن يحدّد من هو هذا الشعب؟ أليس من الشعب من ودّع شهداءه أخيراً في مواكب شعبية حاشدة؟ أليس من الشعب من ينتخب من يرفع هذه المعادلة؟ التعميم هنا خطأ جسيم لا يليق بمن يتولّى وزارة الخارجية.
الوزير رجي شدد في أكثر من حديث إعلامي على أنّ “الخارجية عادت سيادية”، وهذا قول يفترض أن يكون موضع ترحيب لكننا نسأل: هل كانت السيادة حكراً على طرف محدد؟ وهل استعادة السيادة تتم بتوجيه الاتهامات وتخوين فئات من اللبنانيين؟ الدبلوماسية الحقيقية تبنى على مقاربات علمية وعلى ادارة الاختلاف وليس تصنيفه وعلى تعزيز دور الوزارة كمساحة للحوار لا كمنبر للمواجهة.
في المقابل، جاء رد النائب إبراهيم الموسوي ليعبّر عن غضب جمهور المقاومة من تصريحات وزير الخارجية وهو ردّ عنيف يحمل لهجة واضحة ترفض تهميش هذه الفئة من اللبنانيين أو تصويرها كخارجين عن القانون. كلام الموسوي، وإن بدا انفعاليا، إلا أنّه يعكس حجم الاستياء من اللغة المستخدمة من رأس الدبلوماسية اللبنانية. وقد يكون هذا التراشق بداية لاشتباك سياسي – دبلوماسي – حكومي ستكون له ارتدادات خطرة على المرحلة المقبلة.
الدبلوماسية اللبنانية ليست ملكا لفريق ضد فريق بل هي واجهة الدولة وعلى من يتولّاها أن يتحدث باسم جميع اللبنانيين لا أن يعبّر عن فئة واحدة ويستعدي أخرى. كما أنّ الاعتراض على سلاح المقاومة وإن كان موضع خلاف داخلي لا يمكن اختصاره بشعارات ولا بعناوين استفزازية وخصوصا في ظلّ وجود أراض لبنانية محتلة وعدوان متكرّر على سيادتنا ومخاطر أمنية في الحدود الشمالية الشرقية للبلاد.
أما في ما يتعلق بالموقف من العدوان الإسرائيلي، فإن التبرير بأنّ كثرة الشكاوى تضعف موقف لبنان هو تفسير غير مقنع. تراكم الاعتداءات يستدعي عملا دبلوماسيا فاعلا ومبنيّا على توثيق دقيق لا على تبرير التقصير.
وفي ظلّ هذا التصعيد، فإنّ المتوقع أن نشهد اشتباكا سياسيا حادا قد يمتد إلى داخل الحكومة، وربما يشلّ العمل الدبلوماسي اللبناني. والواجب اليوم أن يعود النقاش الى المؤسسات لا أن يستمر عبر منابر إعلامية أو عربية خارج السياق المؤسساتي لأنّ ذلك لا يخدم لبنان بل يزيد من عزلته وانقسامه.
اللبنانيون، كلّ اللبنانيين، يستحقّون خطابا جامعا ومسؤولين ينأون بأنفسهم عن الشعبوية، وخصوصا في حقول كالدبلوماسية التي لا تدار بالصوت العالي ولا بـ”العراضات” بل بالحكمة والرؤية العلمية والحنكة الوطنية.