
رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام في مرمى جمهور النجمة
“البوصلة”
مارلين خليفة
عاد جمهور نادي النجمة ليعبّر عن شيء أعمق من مجرد انتماء كروي، عن غضب مكتوم وعن بيئة اجتماعية تشعر أنها تُستفز كلما طُلب منها أن تتعاطى بعقلانية فيما تُدمّر قراها ويُقتل أبناؤها، فأطلق أمس من قلب المدينة الرياضية جرس الانذار: لا عقلانية في وجه الخطر الوجودي الذي يهدد بيئته الحاضنة.
هذه البيئة، التي لطالما مثّلت العمق الشعبي للمقاومة، لم يعد يرضيها الخطاب المتوازن ولا محاولة “ترشيد” الموقف السياسي حتى من أقرب المقربين.
ما حصل في المدينة الرياضية مساء أمس ليس مجرّد حادثة ملاعب بل تجلٍّ حيّ لمزاجٍ عام بدأ يتبدّل أو لنقل بدأ يعبر عن نفسه بوضوح. الهتافات التي استهدفت رئيس الحكومة نواف سلام والذي حضر لافتتاح مباراة النجمة والأنصار عكست رفضا واضحا من جمهور شيعي أساسه بيئة المقاومة لكل ما يرمز إليه سلام من موقع وسلوك سياسي.
هذا الجمهور لم ينسَ بعد مواقف نواف سلام التي طالما بدت مناقضة لجوهر فكرة المقاومة: من دعواته الدائمة إلى حصرية السلاح بيد الدولة بشكل غي مدروس ولا هادئ على عكس رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون الذي لم يستخدم يوما كلمة نزع السلاح، إلى انتقاداته الضمنية للمقاومة خلال جولاته، وامتناعه عن توصيف الاعتداءات الإسرائيلية كما يراها أبناء القرى الجنوبية — أي عدوانًا صريحًا على أرضهم وناسهم.
وقد أتى بيان العلاقات الإعلامية في حزب الله المندّد بالهتافات ضد رئيس الحكومة نواف سلام، في إطار مفهوم سياسي واضح يرمي إلى التهدئة ومنع أي انزلاق نحو فتنة داخلية وخوصصا أن بعض الهتافات جائت مستفزة ومنها:” نواف سلام صهيوني”. وهو موقف مسؤول في ظرف دقيق يحتاج فيه البلد إلى كبح الانفعالات وحصر التوتر.
لكنّ جمهور النجمة الذي عبّر عن غضبه بصوت مرتفع لا يرى في هذا النهج الهادئ ما يوازي حجم الخطر الذي يشعر به. فهذه القاعدة الشعبية المتألمة من العدوان والمهمّشة من قبل الدولة لم تعد تقبل بالعقلانية المجردة.
إنها تطالب بمواقف صريحة وانحياز واضح لهمومها وتعتبر أن أية محاولة لتدوير الزوايا ولو كانت بنية التهدئة تفهم وكأنها تراجع عن حقوق أو تهاون مع تهديد وجودي تعيشه هذه البيئة يوميا.
تعيش هذه البيئة إحساسا عميقا بالخذلان فهي تقف على أنقاض قرى دمرها العدوان، وتُركت حتى اللحظة من دون إعادة إعمار، ولا حتى بارقة أمل. تتأمل في المدن المحروقة، في الشباب الذين دفنوا تحت الأنقاض، وتجد في بعض مسؤولي الدولة صورةً لامبالية أو في أفضل الأحوال صورة متحفظة خجولة تنأى بنفسها عن الوجع الحقيقي.
سلام يمثل في نظر هذا الجمهور الدولة، الحكومة، السلطة المركزية التي تُكثر من الكلام عن الإصلاح، ولا تفعل شيئًا أمام القتل والتدمير في الجنوب. هو، بالنسبة لهم، تعبير عن ذاك الخط السياسي اللبناني الذي يرى أن قوة لبنان في “عجزه”، ويتحرّج من مجرّد الإشادة ببطولات مقاوميه.
في الخلفية، هناك قراءة سياسية أبعد: جمهور النجمة كان يردّ على سياق طويل من التوجّه الرسمي ويسعى إلى ربط لبنان بشبكة تفاوضات دولية غالبًا ما تكون على حساب دماء أبناء الجنوب من منظور هذه البيئة. خطاب “الاعتدال” و”التوازن” لم يعد مقبولًا عند من فقد بيته ودفن أخاه بيده. لم يعد لهذا الخطاب صدًى في بيئة تُدرك أن نجاتها الوحيدة تكمن في بقائها قوية، متأهبة، لا في الارتهان لمعادلات خارجية أثبتت هشاشتها.
الأخطر من كل ذلك أن ما حدث في الملعب هو ناقوس خطر سياسي واجتماعي: بيئة المقاومة التي طالما اتُّهمت بالانضباط والامتثال، بدأت تخرج عن صمتها، وتعبّر عن غضبها بما يشبه الانتفاضة على من تراه خصما أو حتى خصما متخفيا. وهذا مؤشر خطر على أن البلاد مقبلة على مرحلة من التصلب في المواقف حيث لم تعد “العقلانية” خطابا مقبولا بل صارت تُقرأ كنوع من الخيانة أو التواطؤ.
نحن أمام لحظة مصيرية: إما أن تُقرأ التحولات الشعبية بجدّية وإما أن تواجه البلاد مزيدًا من الاحتقان والانقسام وخصوصا أن لا مؤشرات فعلية على تغيّر سلوك الدولة أو توجّهها. وعلى الحكومة، لا سيما رئيسها، أن يفهم أن هذه البيئة ليست طارئة، ولا يمكن تجاوزها بشعارات عامة أو بمنشورات تبدأ بـ”بكل سرور”، في لحظة وطنية يغلب عليها الحزن والحداد والدمار.
إن الشعور العام الذي ساد في أوساط جمهور النجمة ليس معزولا، بل هو تعبير صادق عن بيئة تشعر بأنها تُستهدف في وجودها وتُتهم بخياراتها وتُحرم من الحد الأدنى من مقومات العيش حتى فيما تمضي في مواجهة عدو مدجج بالسلاح والدعم الغربي.
الرسالة وصلت من المدرجات… فهل تسمعها السلطة؟