
سعد الحريري
“البوصلة”
مارلين خليفة
في السياسة كما في الطبيعة لا فراغ يدوم طويلا. ولكن ما يحدث اليوم في الساحة السنّية وتحديداً في بيروت هو فراغ من نوع خاص: غيابٌ قسريّ لرجلٍ صاغ مزاج العاصمة لعقود، وانسحابٌ هادئ ترك خلفه توازنات مختلّة وأسئلة معلّقة.
لا يمكن الحديث عن المزاج السنّي في بيروت من دون التوقّف عند العلاقة التاريخية التي ربطت الشهيد رفيق الحريري بالبيارتة. لم يكن الرجل مجرد زعيم سياسي، بل تحوّل إلى رمزٍ للنهضة والإعمار والحضور الوطني في وجدان سكان العاصمة. أحبّوه لأنه خاطبهم بلغتهم، وسار في أحيائهم ولامس همومهم، فبادلهم الوفاء بالوفاء. وعلى خطى والده، نجح سعد الحريري، رغم الغياب والإخفاقات في سرقة قلوب البيارتة إذ بقيت صورته حاضرة في شوارعهم، ووجدوا فيه حتى وهو في الظل امتداداً لتلك العلاقة العاطفية التي لم تنكسر يوماً بين “الحريرية” وبيروت.
سعد الحريري، الإبن الوفي لنهج والده، لم يُهزم في السياسة. بل همّش. أقصي بصمتٍ يشبه الإقامة الجبرية، لا بضجيج معركة سياسية أو نهاية درامية. استُبعد من مفاصل القرار وعزل عن جمهوره وكأنّه خطرٌ يجب احتواؤه لا ركيزةٌ يُبنى عليها.
لكن المفارقة أنّ الناس، أولئك الذين اعتادوا السير خلف “الحريري الأزرق”، لم يتأقلموا مع غيابه. الانتخابات البلدية الأخيرة في بيروت كشفت بوضوح هذا الحنين العميق إلى زمن الحريرية السياسية بكل ما لها وما عليها. كان التصويت في جانب كبير منه فعل وفاء لاختيار سياسي ورسالة اعتراض على محاولات طمس هذا الخيار.
لم يكن محمود الجمل، على سبيل المثال، بحاجة إلى تعريف بنفسه أمام البيروتيين. لم تُصنع له حملة إعلامية فاقعة ولا دعمه حزب بآلات انتخابية جبّارة. كان حضوره امتدادا لذاكرة جمعية راسخة تربط بين السياسة والخدمة بين القيادة والمعنى. بدا كأنّه صورة مصغّرة عن “الحريري الغائب”، وليس مشروعاً بديلاً له.
وهنا بيت القصيد: لم تنجح قوى “التحالفات الهجينة” ولا رجال الأعمال الطارئين ولا المشاريع الموسمية في وراثة سعد الحريري. لم يملأ أحد هذا الفراغ، رغم تعدّد الطامحين. فالسياسة، في وجدان البيروتيين، لا تُختزل بإدارة بلدية أو برلمان بل بتراكم ثقة ومكانة وتأثير. وهذا ما لا يُشترى بالمال ولا يُنجز بشهور من الدعاية.
لقد عبّر المزاج الشعبي السنّي عن نفسه بوضوح: لا بديل عن مرجعية ما زالت حيّة في القلوب، حتى لو صارت غائبة عن الصورة. وهذا الغياب الطوعي أو القسري لا يغيّر من حقيقة أن شارعاً واسعاً لم يُسلّم بعد بانتهاء “المرحلة الحريرية”.
قد تكون بيروت اليوم بلا سعد، لكن صدى اسمه لا يزال يتردّد في الأزقة الضيّقة، في صناديق الاقتراع، وفي العتب العميق الذي يُكنّه الناس لمن تركهم بلا ظهير.
ولعلّ أكثر ما تقوله نتائج بيروت هو أنّ تهميش شخص بحجم سعد الحريري ليس فعلاً سياسياً تقليدياً، بل مغامرة غير محسوبة في قلب معادلة طائفية هشّة، كانت تجد فيه ضمانة للاستقرار. وإذا استمرّ هذا التهميش، فإنّ ارتداداته قد لا تقتصر على الانتخابات، بل قد تمسّ جوهر النظام القائم على التوازنات، لا على الإقصاء.
الناس لا تنسى، حتى حين يُطلب منها ذلك. والحريرية، رغم كل شيء، ما زالت حاضرة… بغياب صاحبها.