
الميكانيكي النصاب
“البوصلة”
كتبت مارلين خليفة:
أعيش في لبنان، البلد الذي كان يُضرب به المثل في الذكاء والدهاء والمبادرة فإذا به اليوم يغرق في موجة من “الإبداع” السلبي حيث بات الاحتيال مهنة، لا بل ثقافة يومية، تُمارَس بلا خجل أو وجل، وكأنها حق مكتسب في ظل الفوضى والانهيار.
في بلد أُحكم الإطباق فيه على أموال المودعين وضاقت فيه فرص العمل وارتفعت فيه كلفة العيش إلى مستويات جنونية، لم يعد الاحتيال سلوكًا هامشيًا بل تحوّل إلى جزء من الاقتصاد الموازي ووسيلة للنجاة الشخصية على حساب الآخرين.
الميكانيكيون في رأس القائمة. بات إصلاح السيارة مغامرة خطيرة تبدأ بتشخيص أعطال وهمية ولا تنتهي إلا بفواتير تفوق قدرة المواطن على الاستيعاب قبل الدفع. أما من يعملون في مجالات المواقع الإلكترونية والسوشيال ميديا فقد وجدوا في غموض هذا العالم فرصة ذهبية لـ”تسعير” خدماتهم كما يشاؤون مستغلين جهل الزبائن بالتقنيات الحديثة.
ويأتي مصففو الشعر في المرتبة الثالثة، بأسعار متقلّبة ومهارات مشكوك فيها حيث لا يتردد البعض في فرض تسعيرة “مزاجية” بلا أي مبرر، وكأن التجميل بات امتدادًا لنهج السوق السوداء. وعلى المنوال نفسه تنتشر دكاكين التجميل التي تَعِد الزبونات بالعناية والجمال، لكنها كثيرًا ما تقدم خدمات مغشوشة أو مؤذية، بأسعار خيالية وبلا أدنى رقابة.
أما التجار على اختلاف أنواعهم فهم يتقنون لعبة القنص: كل زبون هو فريسة محتملة وكل سلعة فرصة للإثراء السريع.
هذه ليست اتهامات عشوائية، بل توصيف واقعي لحالة مجتمع يُخنق اقتصاديًا فينقلب فيه المنطق وتُقلب فيه القيم. في غياب القانون والمحاسبة، وفي ظل تفكك الدولة، بات الغشّ مهارة، والنصب “شطارة”، والضمير رفاهية لا يملكها إلا القلة.
ولا يكفي أن يُقدَّم لبنان بصورة حضارية عبر عروض الأزياء الراقية لكبار المصممين، فهذا وحده لا يكفي لتجميل الواقع. التحدي الحقيقي هو في الغوص في مشاكل الناس المتراكمة، التي لا يبدو أن أحدًا يراها أو يرصُدها أو يملك الشجاعة لطرحها بوضوح. فصورة الوطن لا تُبنى بالواجهة البراقة، بل بالمواجهة الصادقة مع ما يؤلم الناس فعلًا.
نحن نعيش في زمن صعب، نعم. لكن لا يجوز أن نسمح لأنفسنا بتحويل الضيق إلى مبرر للسقوط الأخلاقي. لبنان يغلي بالنصابين، وهذه الحقيقة، مهما كانت مرّة، يجب أن تُقال بصوت عالٍ، لا للتشهير، بل علّنا نوقظ فينا بقايا وعي، إن بقي شيء منه.