
إيلي كوهين
“مصدر دبلوماسي”
خاص
تسليم أرشيف إيلي كوهين… الجاسوس الذي اخترق قلب دمشق
في سابقة غير متوقعة، تسلّمت إسرائيل أرشيف الجاسوس الشهير إيلي كوهين من القيادة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع،بعد وساطة عربية قادتها دولة الإمارات العربية المتحدة، وسط تكتم رسمي على تفاصيل الصفقة السياسية التي مهّدت لهذا التطور اللافت. ويُعدّ الأرشيف المستعاد كنزا استخباراتيا وتاريخيا نادرا يعيد تسليط الضوء على واحد من أخطر العملاء الذين زرعهم الموساد في قلب النخبة العسكرية والسياسية السورية قبل أن يُكشف أمره ويُعدم في ساحة المرجة بدمشق في18 أيار مايو من العام 1965
وتضمنت الوثائق المسلّمة رسائل بخط يد كوهين إلى زوجته ناديا، كشفت عن لحظات إنسانية مؤثرة، ووصايا لأولاده، واعترافات ضمنية بإحساسه بأن نهايته تقترب. كما ضم الأرشيف صوراً فوتوغرافية نادرة توثق لقاءاته مع ضباط سوريين بارزين في مناسبات رسمية وخاصة، وبعضها يُعرض للمرة الأولى. كذلك، اشتمل الأرشيف على دفتر ملاحظات شخصي مليء بالرموز والتدوينات الاستخباراتية وخرائط ميدانية لوحدات المدفعية السورية في الجولان إلى جانب تقارير عسكرية مسرّبة من مكاتب حساسة كوزارة الدفاع وهيئة الأركان.
كما استلمت إسرائيل جزءاً من جهاز الإرسال اللاسلكي الذي استخدمه كوهين لبث المعلومات إلى تل أبيب، إضافة إلى مقتنيات شخصية بينها ربطة عنق وساعة جيب وقلم معدني من ماركة “باركر”، فضلاً عن دفتر أرقام يضم جهات اتصال لمسؤولين سوريين. وضمن الأرشيف، توجد أيضاً نسخ كاملة من ملف التحقيق معه، ومحاضر المحاكمة العسكرية التي انتهت بإصدار حكم الإعدام عليه.
سياسياً، اعتُبر تسليم هذا الأرشيف مؤشراً على تحوّل خفي في طبيعة العلاقات الإقليمية، إذ إنها المرة الأولى التي تُقدم فيها دمشق وإن عبر وسطاء على خطوة بهذا الحجم تجاه تل أبيب من دون أن يسبقها أو يرافقها اتفاق رسمي أو إعلان سياسي. وفي إسرائيل، وُصف الحدث بأنه “بادرة إنسانية” تحمل في طياتها “اختراقاً سياسياً بارعاً”، فيما لا تزال عائلة كوهين تطالب بخطوة أخيرة: استعادة رفاته من دمشق، وهو الملف الذي لم يُفتح بعد رغم تسارع الخطوات في الكواليس.
جثة كوهين
رغم مرور نحو ستين عاماً على إعدام إيلي كوهين في دمشق، لا تزال جثته مجهولة المصير، وتشكل إحدى أكثر القضايا حساسية وغموضاً في العلاقات غير المعلنة بين سوريا وإسرائيل. في السنوات الأخيرة، حاولت إسرائيل استعادتها مراراً، كان أبرزها عبر وساطة روسية في العام 2019 حين أُعلن أن فريقاً روسياً دخل الأراضي السورية بتنسيق خاص وجمع عينات من رفات يُشتبه بأنها لكوهين لكنها نُقلت إلى تل أبيب وثبت بعد فحص الحمض النووي أنها لا تعود له.
هذا الفشل لم يكن الأول، فقد سبقه عقود من التكتم السوري، وسط روايات متضاربة وغير رسمية تشير إلى أن جثته دُفنت أولاً في مقبرة يهودية مهجورة في حي الشيخ حسن، ثم نُقلت لاحقاً إلى موقع أكثر سرية، يُرجّح أن يكون ضمن منشأة تابعة للأمن العسكري السوري. ثمة من يدّعي أن الجثة نُقلت مراراً خلال السنوات الأولى التي تلت الإعدام، خوفاً من تسلل عناصر إسرائيلية لاستعادتها.
يرى بعض المحللين أن النظام السوري يحتفظ بجثة كوهين كورقة رمزية وسياسية، باعتبارها “غنيمة أمنية”، أو رادعاً في الذاكرة السورية ضد محاولات الاختراق. أما إسرائيل، فرغم استعادتها أجزاء من أرشيف كوهين وبعض متعلقاته الشخصية، لا تزال تعتبر ملف رفاته “واحداً من أهم أولويات الاستخبارات والموساد”، فيما تتمسك زوجته ناديا، التي لا تزال على قيد الحياة، بمطلب أخير: أن يُدفن زوجها في تراب إسرائيل، لا أن يبقى طيّ الغياب في أرضٍ مات فيها وحيداً.
لكن من هو إيلي كوهين؟ وكيف استطاع رجل واحد أن يخترق أعلى هرم السلطة في سوريا وأن يؤثر، بشكل مباشر، على نتائج الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1967؟
النشأة والهجرة والاستخبارات
وُلد إيلياهو بن شاؤول كوهين في مدينة الإسكندرية المصرية عام 1924 لأسرة يهودية سورية الأصل. تلقى تعليمه في مدارس دينية ويهودية، وأتقن اللغة العربية بطلاقة، كما عرف الفرنسية والإنجليزية. منذ صغره، أبدى ميولًا قومية يهودية، وانخرط في نشاطات سرية صهيونية في مصر، وارتبط بعلاقة مع الوكالة اليهودية.
بعدما تزايدت الضغوط على اليهود في مصر، هاجر كوهين إلى إسرائيل في عام 1957، حيث غيّر اسمه ليصبح “إيلي كوهين”، وعاش في تل أبيب مع زوجته ناديا. لم يكن تجنيده في جهاز “الموساد” فوريًا، بل مرّ بمحطات عمل إداري قبل أن يلفت نظر المخابرات الإسرائيلية بذكائه وشخصيته الجذابة وقدرته على التمثيل والإقناع.
إنشاء الهوية الوهمية: كامل أمين ثابت
أُعيد تأهيل كوهين في مدرسة تجسس خاصة، حيث تعلّم تقنيات التشفير، والبث اللاسلكي، والتخفي، وتقمص الشخصيات. وفي بداية الستينيات، زُرعت له هوية جديدة باسم “كامل أمين ثابت”، رجل أعمال سوري ناجح يعيش في الأرجنتين، يخطط للعودة إلى دمشق للاستثمار.
في عام 1961، انتقل كوهين إلى دمشق بعد أن أقام شبكة علاقات في الجالية السورية بالأرجنتين، وتمكن من إقناع العديد من السوريين هناك بأنه قومي عروبي ذو توجهات قومية، ومؤيد لحزب البعث. وبجواز سفر مزور، دخل دمشق واستقر فيها.
صعوده في النخبة السياسية السورية
خلال أقل من عام، أصبح كوهين صديقًا مقربًا لعدد من كبار الضباط في الجيش السوري، ومنهم العقيد أمين الحافظ الذي سيصبح لاحقًا رئيسًا لسوريا. أقام حفلات صاخبة في منزله، كان يدعو إليها ضباط الجيش والسياسيين، مستغلًا الكرم والبذخ والشراب لجمع المعلومات. وكانت الشقة التي يسكنها تطل مباشرة على وزارة الدفاع السورية.
في الوقت نفسه، كان يرسل معلومات إلى الموساد عبر جهاز إرسال لاسلكي مخبأ في خزانة داخل منزله. كانت الرسائل تتضمن تفاصيل دقيقة عن تحركات القوات السورية، وأنواع الأسلحة، وخطط الدفاع في الجولان، وحتى أسماء الشخصيات المؤثرة في السلطة.
الجولان… والمعلومة التي حسمت حربًا
من أبرز إنجازاته الاستخباراتية، اقتراحه – خلال جلسة خاصة مع ضباط في الجبهة – زرع أشجار كعلامات قرب التحصينات الدفاعية السورية في الجولان لتوفير الظل للجنود. هذه الأشجار وفقًا للمصادر الإسرائيلية، مكّنت الجيش الإسرائيلي من تحديد مواقع المدفعية والخنادق والمراكز العسكرية بدقة خلال حرب 1967، وساهمت في اجتياح الجولان خلال ساعات.
السقوط في قبضة المخابرات السورية
رغم الحذر الشديد، بدأت المخابرات السورية، بمساعدة خبراء سوفييت، في التقاط إشارات بث مشفرة تُرسل من أحد أحياء دمشق. وبعد أشهر من الرصد والتعقب، تم تحديد مكان البث، ودهمت وحدة أمنية شقة كوهين في 18 يناير 1965، حيث كان يرسل رسالة إلى تل أبيب.
ألقي القبض عليه متلبسًا وتمت مصادرة جهاز الإرسال والمعدات الأخرى. وبعد أيام من التحقيقات القاسية، انهار كوهين جزئيًا، لكنه رفض التعاون الكامل. وخلال المحاكمة، حاولت إسرائيل التدخل عبر ضغوط دبلوماسية، وتوسلت زوجته ناديا السلطات السورية للعفو عنه، إلا أن القيادة السورية قررت إعدامه لتوجيه رسالة ردع قاسية.
الإعدام في ساحة المرجة
في فجر يوم 18 مايو 1965، اقتيد إيلي كوهين إلى ساحة المرجة في دمشق، حيث أُعدم شنقًا أمام آلاف المواطنين الذين تجمعوا لمشاهدة الحدث. وقبل تنفيذ الحكم، قرأ الحارس العسكري البيان: “حكمت المحكمة العسكرية الميدانية على الجاسوس الصهيوني بالإعدام شنقًا حتى الموت…”.
وثّقت لحظة إعدامه بالكاميرات، وبُثت في التلفزيون السوري. وكان كوهين يرتدي بدلة داكنة وربطة عنق، وأظهر ثباتًا لافتًا في لحظاته الأخيرة. دُفن في مكان سري، ولا تزال إسرائيل تسعى لاستعادة رفاته حتى اليوم.
بعد الإعدام… أسطورة لا تموت
تحوّل إيلي كوهين في الوعي الإسرائيلي إلى بطل قومي. أُطلقت اسمه على شوارع ومدارس، وخصصت له أفلام وثائقية وروائية، من أبرزها مسلسل “The Spy” من إنتاج “نتفليكس” عام 2019، والذي أدى بطولته ساشا بارون كوهين. كما تم تكريمه من قبل جهاز الموساد ووزارة الدفاع.
في 2018، أعلن الموساد عن استعادة ساعة يده التي كان يرتديها لحظة إعدامه، بعد عملية خاصة في دولة لم يُعلن عنها، وتم تسليمها لزوجته ناديا في احتفال رسمي.
أرشيفه يعود من دمشق
بعد نحو 60 عامًا على إعدامه، تسلمت إسرائيل الأرشيف الكامل لإيلي كوهين من النظام السوري الجديد. وكان من بين الوثائق رسائل مؤثرة إلى زوجته كتب فيها:
“ناديا، إن مُنيتي قد اقتربت، ولكني فخور بما قدمته لوطني… ربي أكرمكِ وأطفالي، واغفري لي الرحيل الصعب…”
هذه الخطوة فتحت الباب أمام تكهنات كثيرة، أبرزها ما إذا كانت سوريا تستعد لحقبة سياسية جديدة، تتضمن مصالحة شاملة وإعادة ترتيب للعلاقات الإقليمية، بما في ذلك إسرائيل.