
“مصدر دبلوماسي”
مارلين خليفة
تعيش الصحافة اللبنانية اليوم لحظات احتضار حقيقية، لا بفعل تطور التكنولوجيا وحدها، بل بسبب انهيار البنية الأخلاقية والمهنية التي كانت، يوماً ما، تجعل من بيروت منارةً إعلامية في العالم العربي. لم تعد المؤسسات الصحفية المكتوبة أو المرئية سوى أدوات مرهونة بالكامل للتمويل السياسي، سواء من الخليج أو من بعض العواصم الغربية.
في الماضي، كانت الصحافة اللبنانية تملك قامات تُحسب لها السلطة ألف حساب. كان غسان تويني، مثلاً، يمارس “المشاكسة” بوصفها شرفاً مهنياً لا خياراً ظرفياً. كتب يوماً افتتاحية بعنوان: دعوا الشعب يحكم، متحدياً بجرأة الاحتلال السوري وهيمنة الأجهزة الأمنية على الحياة السياسية والإعلامية. لم يكن وحيداً؛ فجيل كامل من الصحافيين اللبنانيين اعتبر الكلمة الحرة واجباً لا وظيفة.
لكن هؤلاء الروّاد لم يبنوا مؤسسات دائمة ومستقلة على النموذج الغربي. لم يخلّفوا مدارس صحفية قادرة على الاستمرار. بعكس كبريات الصحف الأوروبية مثل لوموند الفرنسية أو الغارديان البريطانية، التي نجت من الأزمات بفضل استقلاليتها وهيكليتها، اكتفى جيل الصحافة اللبنانية بجمع الثروات من التمويل الخليجي، دون بناء قواعد إنتاج صلبة ومستدامة.
منذ عام 2015، ومع بدء دول الخليج معاقبة لبنان سياسياً بسبب ما اعتبرته “خروجه عن الإجماع العربي”، بدأت العقوبات على الصحافة أيضاً. أوقفت التمويل التقليدي للصحف والمحطات، وراحت تؤسس منصات جديدة، رقمية وسريعة، تعمل وفق أجندتها السياسية، وتستكتب صحافيين شباباً لا يهتمون لا بالمعايير المهنية، ولا بالتنشئة الوطنية، بل فقط برفع الصوت خلف القضية التي تحددها هذه العواصم.
المحطات اللبنانية الكبرى حتى تلك التي كانت ذات يوم تتغنّى بحريتها صارت تكيّف سياساتها التحريرية سلفاً على أمل أن يأتي “الرزّ” مجدداً. لقد تحوّل كثير من الإعلاميين إلى وكلاء دعاية متنقلين، لا يطرحون أسئلة، بل يقدّمون تغطيات على قياس الممول.
والنتيجة؟ لم تعد فلسطين “قضية القضايا”، ولا السيادة اللبنانية موضوعاً للجدل. باتت كل الملفات خاضعة لاختبار الولاء المالي. وأصبحت المواقف التحريرية تتغير بتبدّل من يدفع، لا بحسب ما تقتضيه مصلحة الناس أو قيم المهنة.
في هذا المشهد، يمكننا أن نهنئ دول الخليج: لقد نجحت أخيراً في السيطرة الكاملة على صحافة كانت يوماً مصدر إزعاج لها. من يدفع، يقرر، ونحن كصحافيين لبنانيين، لم يعد بوسعنا سوى أن نحمل صواني البقلاوة وننتظر التعليمات.