
“مصدر دبلوماسي”
تواصلت لليوم الثاني أمس الاربعاء فعاليات ندوة “ لبنان خمسون سنة على 13 نيسان 1975… الآثار والمتغيّرات”، التي نظَّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فِي فندق جفينور روتانا – بيروت، والتي تضمنت جلستين، تحدث فيها خمسة باحثين في محورين اشتملا التغيرات البنيوية والهيكلية والعملياتية التي طرأت على الأحزاب اللبنانية، والتأثيرات التي طاولت المجالين التربوي والثقافي.
الجلسة الرابعة
ترأس الجلسة الدكتور خالد زيادة، مدير المركز العربي للأبحاث في بيروت، الذي استهلّ حديثه بالطلب إلى المشاركين تجاوز فترة الحرب وعدم الخوض في أحداثها، وقصر المناقشات على التغيرات التي نجمت عن الحرب، كما هو الهدف من هذه الندوة. وأشار في معرض حديثه عن مخرجات الحرب الأهلية إلى “أننا في لبنان لم ننصف المتضررين من الحرب، ولا أعطينا الضحايا عدالة، ولم تحصل أي مصالحة وطنية” عابرةللطوائف والمناطق، أسوة بالعديد من بلدان أميركا اللاتينية، وببعض الدول العربية، حيث أُنشئت لجانُ عدالة انتقالية تحت مسميات مختلفة، منها “هيئة الإنصاف والمصالحة” التي أُنشئت في المغرب بقرار ملكي في بداية عام 2004. واعتبر الدكتور زيادة أن التغيرات التي طرأت على لبنان خلال الخمسين عامًا، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربوي أو تركيبة الأحزاب، كانت ستحصل سواء أوقعت الحرب أن لم تقع؛ فلبنان ليس بمنأى عن التغيرات التي عصفت بالعالم، خصوصًا بعد انهيار الكتلة السوفياتية وما استتبع ذلك من تغيرات على مستوى العالم.

اعتبر الدكتور فارس اشتي، الأستاذ الجامعي والباحث والكاتب، في ورقته بعنوان: “تأثير حرب لبنان (1975-1990) في الأحزاب السياسية اللبنانية“، أن الحرب كانت امتدادًا للسياسة وصراعًا على الوجود والموارد، إقليميًا وداخليًا؛ فالأحزاب، التي يفترض أنها مدنية وتسعى للسلطة، تداخلت مع قوى مجتمعية متصارعة ودول خارجية. وعرض تأثير الحرب على مكونات الأحزاب، سواء من حيث ساحة العمل، أو الهدف، أو الأيديولوجية، أو الفئات الاجتماعية من حيث تغير التركيبة الطائفية والطبقية للأحزاب، أو أساليب النضال من حيث غلَبة العنف والتحشيد الطائفي. وشدّد على أن “الأحزاب كانت فاعلة ومنفعلة بالحرب”، وأن غياب الدولة فكراً وقانوناً سهّل الانزلاق نحو العنف والعصبيات الأولية، داعيًا إلى “جهد نظري لبناء الدولة في ظل التغيرات الراهنة”، ولا سيما في مرحلة ما بعد الطائف التي أفرزت تحولات كبرى، منها هيمنة أحزاب طائفية، وشهدت انهيار الأحزاب اليسارية والقومية بسبب تغير الموازين الإقليمية.
أما الدكتور زهير هواري، فتتبع في ورقته بعنوان: “الحرب الأهلية حقل معرفي بلا ضفاف“، مسيرته الحزبية الطويلة من حركة القوميين العرب مرورًا بمنظمة العمل الشيوعي وصولاً إلى منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني؛ وركّز في سرديته على دور منظمة العمل الشيوعي، التي كان عضوًا فيها، في نقد الحرب الأهلية اللبنانية التي شاركت فيها بدايةً انطلاقًا من رؤيتها بضرورة إسقاط النظام الطائفي. وتعرض الدكتور هواري للمراجعة التي انخرطت فيها المنظمة، وهي المراجعة التي أدت إلى تحول فكري عميق تجلى في نقد الماركسية-اللينينية التقليدية، وفي الدعوة إلى اشتراكية “رحبة” تأخذ في الاعتبار التغيرات المجتمعية وتدعم الدولة الليبرالية الديمقراطية كمدخل لبناء مجتمع اشتراكي حرٍّ من السيطرة والاستغلال. من ناحية أخرى اعتبر هواري أن المجتمع اللبناني بطائفيته لم يبتعد كثيرًا عن شرارة الحرب الأهلية، وهي الحرب التي يعتبر أنها لا تزال مستمرة على الرغم من مرور 50 عامًا.
الجلسة الخامسة
ترأس الجلسة الخامسة والأخيرة في محور التربية والثقافة، الدكتور جوزيف أبو نهرا، العميد السابق في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، شارك فيها الدكتور عدنان الأمين، الأستاذ الجامعي ومستشار التعليم العالي، بورقة بعنوان: “التعليم في لبنان تحت وطأة الحرب الأهلية“، اعتبر فيها أن الحرب الأهلية في جانب منها حفّزت توسع التعليم ونمو الفرص الدراسية، حيث شهد التعليم العالي توسّعًا غير مسبوق، بإنشاء جامعات خاصة، وفي إنشاء فروع للجامعات القائمة، “لكن هذا الازدهار الكمي كان على حساب جودة التعليم، ما ساهم في تضرر البنية التحتية التعليمية، وتفكّك الإدارة التربوية، وتداخل نفوذ الميليشيات في المؤسسات”. وأسف الدكتور الأمين أن أخطر آثار الحرب على التعليم هو استمرار “التنشئة السياسية المكثّفة في المؤسسات التربوية، واستمرار تراجع التعليم الرسمي”. وخلص إلى أن “ما زرعته الحرب لا تمكن مواجهته إلا بزراعات بديلة من خلال نظام مختلف لحوكمة القطاع التربوي”.
أما الدكتور سيمون عبد المسيح، الأستاذ الجامعي ومدير المركز الإقليمي للتوثيق والدراسات، فتناول في ورقته بعنوان “منحنيات التربية والتعليم في لبنان منذ ما قبل الحرب إلى ما بعدها (1946- 2025)“، إشكالية العلاقة بين التربية والمجتمع في السياق اللبناني، مشيراً إلى إمكانية تطبيقها لفهم أعمق لتأثير الحرب الأهلية على التربية وتأثُّر التربية بها، بدلاً من مجرد تحميلها مسؤولية جزئية أو اعتبارها ضحية. واستعرض محاولات “الإصلاح التربوي” التي جرت في التسعينيات لترميم الأضرار وتحديث المناهج مع التأكيد على الوحدة الوطنية، وصولاً إلى الاستراتيجيات الوطنية والمشاريع الإصلاحية الحديثة، على الرغم من التشاؤم السائد في ظل الانهيار المستمر الذي “يساهم بشكل كارثي في إنتاج أدبيات تربوية متشائمة”.
أما الأستاذ محمد أبي سمرا، الكاتب والروائي، فركّز في ورقته بعنوان: “ثقافة الحرب وإرثها: التكرار العقيم” على الآثار السلوكية والأخلاقية للحرب الأهلية في حياة اللبنانيين اليومية، بدلاً من الإنتاج الثقافي النخبوي؛ فمع أن وقف الحرب الأهلية كان بإرادة خارجية، فإن اللبنانيين لم يسائلوا أنفسهم عن أسبابها، بل جنح زعماؤهم إلى تكريس سلطتهم، واستنكر “زهو الجماعات وزعمائها بهوياتهم العصبية وحروبهم، وتكرار منطق الغلبة والانتقام”. وانتقد الاحتفاء بـ”البطولات الدموية” كأنها المأثرة الوحيدة في تاريخ لبنان، وعدم القدرة على تجاوز العصبيات الطائفية في السياسة، وتحصن الزعماء في السلطة على أسس عصبية. واختتم بتساؤلات حول مستقبل “الركام” المتبقي في بلد استُنزف، حيث “لم يعد يجدي الكلام المجرد عن الدولة والقانون في ظل فوران الغرائز الطائفية والرغبة في الفرار”.
تخللت جلسات اليوم الثاني مداخلات ومناقشات مستفيضة وأسئلة قيمة من الحضور، ما أثرى النقاش بشأن هذه القضايا الوطنية الهامة، وأضافت أبعادًا مختلفة للتحليلات المقدمة.