
الدكتور خالد زيادة رئيس المركز العربي متوسطا الرئيس فؤاد السنورة ونائب رئيس مجلس الوزراء طارق متري والسيدة سلوى بعاصيري السنيورة ورئيس مركز الدراسات الفلسطينية الدكتور رامي الريس
“مصدر دبلوماسي”
في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، نظّم “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” مؤتمرًا بعنوان “لبنان – خمسون سنة على 13 نيسان 1975″، في فندق “جيفينور روتانا” ببيروت. تميز المؤتمر بمشاركة عدد من الباحثين والأكاديميين اللبنانيين والعرب، وامتدّ على مدى يومين، خصصت الجلسات خلالهما لتحليل انعكاسات الحرب على الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في لبنان.
فؤاد السنيورة: الطائف لم يُطبّق، وصندوق المليارين أُجهض
في افتتاح المؤتمر، ألقى رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة مداخلة مطوّلة تناول فيها المقدمات الاقتصادية والاجتماعية للحرب، وما تلاها من مسارات سياسية بعد اتفاق الطائف. رأى السنيورة أن تركز الأنشطة الاقتصادية في بيروت وجبل لبنان أدى إلى نشوء “حزام فقر” حول العاصمة، ما فاقم التفاوت المناطقي، وأحدث احتقانات كان لها دور في تفجير الحرب.

الباحث صقر أبو فخر قدم سردية مميزة عن الحرب اللبنانية وتفاصيل حول كيفية اندلاعها
وأشار إلى أن اتفاق الطائف أتى بوعود كبيرة، من أبرزها إعلان الدول الراعية نيتها إنشاء صندوق بقيمة ملياري دولار لدعم إعادة الإعمار في لبنان. وكان يُفترض إطلاق هذا الصندوق في أيلول 1990. إلا أن الاجتياح العراقي للكويت في 2 آب من العام نفسه بدّل الأولويات الإقليمية والدولية، فأُجهض الصندوق ووضع في الثلاجة الى الابد ولم يُطلق قط.
وبحسب السنيورة، فإن هذا التحول في الاهتمام الدولي تُرجم بإيكال أمر لبنان إلى النظام السوري، الذي عمل على “إغلاق الملفات الساخنة” بوسائل قسرية، أبرزها إنهاء عصيان ميشال عون، على نحو أنهى فعليًا أي محاولة لبناء دولة ذات سيادة كاملة. وأضاف الرئيس السنيورة أن تنفيذ اتفاق الطائف تم بشكل انتقائي، إذ جرت تسوية وضع الميليشيات عبر دمجها في أجهزة الدولة، غير أن الدولة، بدلًا من أن تفرض منطقها، تماهت مع سلوك الميليشيات وتبنّت أخلاقها، فوقع لبنان في حلقة استعصاء سياسي وإداري لا تزال تعيق كل محاولات الإصلاح.
وعاد السنيورة إلى مرحلة ما بعد 1990، ليوضح أن رئيس الجمهورية الاسبق إميل لحود، الذي جاء بدعم سوري، عمد إلى تعطيل أي عملية إصلاح جديّة، ما أدى لاحقًا إلى إقرار سلسلة الرتب والرواتب من دون إصلاحات مرافقة، فارتفعت كلفة الدولة على المواطنين من دون أي تحسن في الإنتاجية أو الخدمات.
طرابلس وتغيّراتها خلال الحرب
في اليوم الأول من المؤتمر، تحدّث الدكتور خالد زيادة، مدير المركز العربي، عن التبدلات التي شهدتها مدينة طرابلس إبّان الحرب، خصوصًا من حيث نزوح السكان المسيحيين من أقضية الكورة وبشرّي وزغرتا، وتأثير ذلك على النسيج الاقتصادي والاجتماعي للمدينة. وأشار إلى أن مناطق الإنتاج الصناعي جنوب المدينة توقفت بسبب المعارك، ما أدى إلى تدهور متسارع في أوضاع الطبقة العاملة.
اللاجئون الفلسطينيون والحرب
أما الباحث صقر أبو فخر، فقدّم ورقة بعنوان “الحرب الأهلية اللبنانية واللاجئون الفلسطينيون: أعراض اجتماعية وخلاصات سياسية”، استعرض فيها واقع الفلسطينيين خلال الحرب، وتأثيراتها على تماسكهم المجتمعي، وزيادة انكفائهم داخل بيئاتهم الخاصة، وتحوّل كثير من المخيمات إلى بؤر استقطاب سياسي وطائفي.
الاقتصاد اللبناني بين 1975 و2025
في محور الاقتصاد، قدّم الباحث بطرس لبكي عرضًا بعنوان “التغييرات التي طرأت على اقتصاد لبنان (1975 – 2025)”، مشيرًا إلى أن لبنان كان يشهد ذروة اقتصادية قبيل الحرب، إذ كان الدين العام شبه معدوم، والاستثمارات متدفقة، والقطاع الخاص نشطًا. إلا أن الحرب دمّرت البنية التحتية، وقلّصت الثقة بالدولة، فتضاعف الدين العام وانهار سعر صرف الليرة، لتدخل البلاد في نفق مالي طويل لم تنجُ منه حتى اليوم.
النزوح الداخلي وتشوه الهوية
في محور النزوح، تطرقت الباحثة كاترين قسطنطين إلى الانعكاسات السكانية والاجتماعية للنزوح الداخلي، مشيرة إلى أن أعدادًا هائلة من اللبنانيين اضطروا لمغادرة مناطقهم الأصلية، ما أدّى إلى تحوّلات في البنية الطائفية لعدد من المدن، وجعل العودة إلى ما قبل 1975 أمرًا شبه مستحيل. كما أكدت أن “ثقافة الحرب” تسللت إلى الحياة اليومية، محدثة قطيعة مع الأنماط الاجتماعية السابقة.
الثقافة والهوية الوطنية
أما الباحث حسان الزين، فسلّط الضوء على دور الحرب في إعادة تشكيل الثقافة اللبنانية، مشيرًا إلى أن المؤسسات الثقافية عاشت انقسامًا حادًا خلال سنوات الحرب، فتوزعت بين المعسكرات المتنازعة، ما أدى إلى غياب مشروع وطني ثقافي جامع. كما بيّن كيف أثّرت الحرب على المناهج التعليمية، وأنتجت أجيالًا لا ذاكرة موحّدة لها، بل ذاكرات طائفية متناقضة.
في اليوم الثاني الذي سينعقد غدا الاربعاء
في محور الأحزاب، يتناول الباحث فارس اشتي تأثير حرب لبنان ( 1975 – 1990) في الأحزاب السياسية اللبنانية”، إذ كانت الحرب اللبنانية نقطة تحول جذرية أثرت بعمق في المشهد السياسي وفي الأحزاب اللبنانية. فقد تراجعت أحزاب ما قبل الحرب التي تميزت برفض متبادل وعلاقات خارجية متضاربة، وحلت محلها أحزاب جديدة أكثر تعبيرًا عن الانتماءات الأولية.
يقرأ الدكتور زهير هوّاري “الحرب الأهلية حقل معرفي بلا ضفاف” رائياً أن المجتمع اللبناني الطائفي لم يبتعد كثيرًا عن شرارة الحرب الأهلية، التي يعتبرها مستمرة على الرغم من مرور 50 عامًا. ويصف مشاركته في مراجعة فكرية وسياسية قادتها منظمته، والتي قلبت معتقداتهم رأسًا على عقب، حيث تخلوا عن العقيدة الماركسية وتغليب القومي والفلسطيني على الوطني اللبناني، واعتبار الحرب الأهلية حدثًا مقدسًا. ويرى أن الحرب هي من خطايا اليمين واليسار اللبناني، حيث أطلق الأول العنان للتسلح والعنف الأهلي، بينما قبل اليسار المنازلة العسكرية، وأباح البلاد للسلاح الفلسطيني. ويرى أنه تعلم إمكانية التغيير الديموقراطي المتدرج، كما ينتقد المتوهمين أن لهم وللبنان دورًا أكبر من وزنهم ووزن البلاد.
في محور التربية والثقافة يتحدث الدكتور عدنان الأمين عن “التعليم في لبنان تحت وطأة الحرب الأهلية على غير المتوقع، لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية عائقًا أمام توسّع التعليم، بل حفزت نمو الفرص الدراسية؛ ففي التعليم العام، أصرّ الأهالي المهجرون على إلحاق أبنائهم بالمدارس، بينما استثمر رجال الأعمال والقوى السياسية في فتح المؤسسات التعليمية لأهداف اقتصادية وسياسية، واستنادًا إلى التعاضد الطائفي. وبالمثل، شهد التعليم العالي توسعًا بإنشاء جامعات خاصة وفروع للجامعات القائمة، وتم تفريع الجامعة اللبنانية. لكن هذا الازدهار الكمي جاء على حساب الجودة، مصحوبًا بجرعات مكثفة من التنشئة السياسية في المدارس ومؤسسات التعليم العالي. وساهم بهذا التردي تضرر البنية التحتية التعليمية، وتفكك الإدارة التربوية، وتداخل نفوذ الميليشيات في المؤسسات.
يتناول الدكتور سيمون عبد المسيح “منحنيات التربية والتعليم في لبنان منذ ما قبل الحرب إلى ما بعدها (1946 – 2025)، إذ على الرغم من التقدم الذي أحرزته الدولة اللبنانية من حيث تأسيس تعليم وطني عامٍّ وجامعي، لا سيما في الستينيات، فإن الحرب الأهلية دمرت كثيرًا من هذه الإنجازات من حيث المباني والتجهيزات، وحتى مستوى التعليم ونوعيته. وعلى الرغم من أن حقبة التسعينيات شهدت محاولات إصلاحية وتطوير مناهج تؤكد الوحدة الوطنية، لكن الانهيار الحالي يساهم بشكل كارثي في إنتاج أدبيات تربوية متشائمة.
ويقرأ الروائي محمد أبي سمرا “ثقافة الحرب وإرثها: التكرار العقيم”، ليشرح كيف أصبحت الحروب الأهلية وإرثها “نظامًا سياسيًا” راسخًا في لبنان وبلدان عربية أخرى. ويشير إلى أن اللبنانيين استحال عليهم اجتراح حياة سياسية وتمثيل سياسي خارج العصبيات الطائفية وولاءاتها. أما الحركات والاحتجاجات السياسية والاجتماعية التي تتجنب تلك الولاءات وتراوغها، لتتخذ طابعًا مدنيًا، فقد دلت تجارب كثيرة على ارتكاسها ودورانها في حلقة مفرغة.