مارلين خليفة
*أعدّ هذا الموضوع لصحيفة أجنبية ونشر في 27 نوفمبر أي في اليوم الأول للهدنة
يلعلع صوت الرصاص بقوّة في حارة حريك أوتوستراد السيد هادي نصر الله، يقف شبان على أعلى الجسر ويطلقون النار من رشاشات حربية في الهواء الطلق، هنا في قلب الضاحية لبيروت يحتفل اللبنانيون العائدون بـ” النصر”.
ستون يوما من الحرب المدمّرة التي استخدمت فيها اسرائيل كل ما بحوزتها من اسلحة متطورة وصواريخ خارقة للتحصينات قتلت خلالها كبار القادة في حزب الله وفي طليعتهم الامين العام السيد حسن نصر الله، ودمرت أحياء برمتها نراها أمامنا من أبنية مصدعة ومنها أبنية تحولت الى ركام، محال تجارية وشركات ومدارس من الشياح الى الغبيري الى المريجة الى بئر العبد الى الاحياء الداخلية في حارة حريك كلّ شيء يهتف هنا: مررنا بأيام سوداء.
لكن اليوم الاربعاء هو اليوم الاول لوقف اطلاق النار الذي قبلت به اسرائيل بناء على اتفاق مع لبنان رعته الولايات المتحدة الأميركية، حيث ستمتد الهدنة 60 يوما يقوم فيها الجيش اللبناني واليونيفيل بالانتشار في جنوب نهر الليطاني، على أن يسحب حزب الله مقاتليه واسلحته كلها من جنوب الليطاني في تطبيق للقرار 1701 الذي صدر في العام 2006 بعد حرب دامت 33 يوما، إلا ان حزب الله لم يطبقه والتف عليه وزاد تسلحه وبنى أنفاقا، فيما استمرت اسرائيل بخروقها الجوية والبرية والبحرية.
لكنّ السلام عمّ هذه المنطقة قرابة الـ18 عاما، الى حين قرر حزب الله فتح جبهة اسناد لغزة، بعد عملية طوفان الاقصى التي قامت بها حركة حماس على غلاف غزة، لتصل هذه الحرب التي بدأت في 8 اكتوبر 2023 ضيقة لا تتعدى تبادل النيران بين حزب الله واسرائيل الى حرب شاملة بدأت في 17 ايلول الفائت إثر تفجير اسرائيل لأجهزة البايجر التي جرحت ما يزيد عن 3000 مقاتلا وعاملا في صفوف حزب الله لتبدأ بعدها الحرب في 23 ايلول الفائت.
هنا في الضاحية كما في الجنوب، عاد الناس قبل بزوغ الفجر لتفقد ممتلكاتهم ومنازلهم التي غادروها مبكرا بفعل القصف وعمليات الاغتيال وتدمير منشآت عسكرية قال الجيش الاسرائيلي أنها موجودة في عمق الضاحية. يشعر الناس هنا بمزيج من الفرح لوقف اطلاق النار، وبغصة كبرى لفقدهم ممتلكاتهم وارزاقهم وأحيانا لفقدهم أقارب لهم ماتوا في هذه الحرب.
لا يعبّر الناس كثيرا ولا يودون اعطاء اسمائهم. يقول محمود ياسين الذي يتفقد منزله في شارع الصفير منطقة التعمير، وهي عقاريا ضمن بلدية حارة حريك حيث يوجد مجمّع القائم يسارا ومجمّع الكاظم يمينا حيث كان حزب الله يستقبل الصحافيين اللبنانيين والأجانب إبان مناسبة عاشوراء، يقول محمود : تركت منزلي منذ تمّ قصف مجمع القائم وإثر اغتيال السيد حسن نصر الله، وانتقلت الى العمروسية في الشويفات واليوم عدنا ويبدو أن المنزل لا يزال موجودا، وهذا أمر جيد”. لا يرغب محمود في الحديث كثيرا عن احتفال البعض بـ”النصر” عبر اطلاق النار ابتهاجا، ولا يريد التعبير عن أي شعور تجاه أي شخصية قضت، يقول فقط:” المهم في هذه الحرب أن يحافظ الانسان على ذاته والمبادئ التي يؤمن بها طالما أخبرني والدي بأن لبنان ليس دولة بل أرضا تعيش بالصدفة”.
هنا شخصان يتفقدان مستودع البضائع الخاص بهم، لكنهما رفضا الحديث كليا مكتفين بالقول:” الحمد لله على السلامة”. كثر يرفضون هنا الحديث أو التعبير عن المشاعر وينقزون خصوصا حين يعرفون أن ثمة تسجيلا صوتيا.
إلا أن حسين محمد دمشق يخالف كثرا، وهو بقي في شارع مكرزل في منطقة الصفير بالرغم من كل القصف ويقول انها ” لحظة فرح، ولا توجد أي غصة في مقابل ما قدّمه الشباب المقاومون في جنوب لبنان، أما الأبنية فيمكن إعادة بنائها”. يضيف حسين:” أنا سعيد بوقف اطلاق النار مع أنني خسرت منزلي ومشغل النجارة الخاصة بي لكنني سعيد بوقف هذه الدوامة من العنف”. وهل هو على يقين بأنه توجد اعادة اعمار وخصوصا وأن امين عام حزب الله الذي يعتبر الرجل القوي في الحزب قد تم اغتياله؟ يقول:” سيتم الاعمار حتما، وافضل من العام 2006 ، والسيد حسن رحل لكن وصاياه باقية وأنا لا آسف على شيء لا على بيتي ولا على أي شيء وهي ليست افضل من الشباب الذين قاوموا في الجنوب ودفعوا حياتهم ثمنا، وإذا كان السيد نصر الله قدّم ذاته فداء للقضية فأنا لست أفضل منه”.
أما علي فقد تهجر من الضاحية الجنوبية لبيروت وتحديدا من حارة حريك لمدة شهرين و4 ايام، وقد اتى مع زوجته لتفقد منزله، ويقول أن المنزل لا يزال موجودا ولكنه تعرض لأضرار لا توصف، ويشير علي:” فرحنا بنهاية الحرب، لكن نتيجتها أحزان متراكمة، أحزان الناس ولدينا حزن كبير على ذكرياتنا التي دفنت مع ركام منازلنا وهي لا تتكرر، يحوي منزلي 35 عاما من الذكريات دمرت في أكثريتها ولو بقيت الجدران واقفة، أتمنى أن نعود ونلملم جراحنا وأن نعود الى حياتنا الطبيعية”.
إن المشهد الذي يرافق القصف لا يتوافق أبدا مع اطلاق النار ابتهاجا، هنا في بئر العبد لا توجد بناية صالحة للسكن ومنها استحال ركاما الامر ذاته يتكرر في الغبيري وفي المريجة والجناح، حيث لا يوجد إلا دراجات نارية لشبان يلبسون الاسود ويحملون اعلام حزب الله. إلا أن ثمة شوارع برمتها غير مدمرة، هنا مثلا عند مشارف الضاحية لجهة كنيسة مار مخايل، عجقة سير خانقة تشبه تلك الموجودة على كل الطرقات اللبنانية نظرا لعودة اللبنانيين الى الضاحية وجنوب لبنان والبقاع، عند مشارف الضاحية يافطة للسيد نصر الله كتب عليها:” جاء نصر الله”. في الشارع بعض الصور التي نعرفها منها واحدة تجمع المرشد الاعلى الايراني علي خامنئي ورئيس البرلمان اللبناني نبيه بري الذي قاد المفاوضات مع الاميركيين والحكومة الاسرائيلية وايضا للامام الشيعي المغيب موسى الصدر، ما يلفت النظر أن بنايات هذه المنطقة كلها صالحة للسكن ولا يوجد اي ضرر باستثناء مطعم
Kfc
الاميركي! ولا يبدأ مشهد الدمار يتعمق إلا بالدخول الى شارع معوض حيث مبنى العلاقات الاعلامية الخاصة بحزب الله الذي قضى فيه جميع العاملين وهم اعلاميين عددهم خمسة، في مقدمتهم مسؤول العلاقات الاعلامية في حزب الله محمد عفيف.