مصدر دبلوماسي”
مارلين خليفة
“تكاد زوجتي تطلب الطلاق! قالت لي البارحة: جيد أنك تذكرت أنه لديك منزل واولاد” يروي نزار الجردي، رئيس مركز الشويفات في الدفاع المدني اللبناني، وهو عائد للتو من مهمة في منطقة الجناح، مستمرة منذ الاثنين في 21 الجاري، بعد أن قصفت اسرائيل 3 مبان سكنية، مجاورة لمستشفى رفيق الحريري الحكومي.
نزار هو الد لصبيين صغيرين، ومنذ اندلاع الحرب بين لبنان واسرائيل رسميا في 23 أيلول الفائت يغادر منزله صباحا ولا يعود إلا في ساعات الصباح الاولى من اليوم التالي، ويغيب احيانا 3 ايام متتالية نظرا الى كثافة الغارات وكثرة المهام.
33 قتيلا واكثر من 60 جريجا هي محصلة الغارات على المباني السكنية في الجناح، “عائلات برمتها اختفت تحت الركام” يقول نزار وهو يمسح عرقه:” أكثر ما يشعرني بالضيق هو حين أنقذ الاطفال أكانوا شهداء أم أحياء، انتشلت البارحة صبيا عمره 5 اعوام، مات مع شقيقته ووالدته، ولمّا حضر والده غرق بالبكاء والصراخ”.
يردف: “إنها مهمتنا كدفاع مدني: انقاذ الارواح اولويتنا، اننا في منطقة الجناح منذ يوم الاثنين الماضي، بلغ عدد الشهداء 33، جميعهم من المدنيين الذين كانوا نائمين او سهرانين في بيوتهم بسلام، تم قصفهم فجأة من دون تنبيههم مسبقا بضرورة اخلاء منازلهم”.
انقاذ تحت التهديدات
يروي نزار لموقع “مصدر دبلوماسي”:” اثناء عملنا، غالبا ما نتلقى تهديدات من جيش الدفاع الاسرائيلي بضرورة اخلاء المكان الذي نعمل فيه فورا، لانه سيقصفه ثانية”.
عادة ما يتصل احدهم من جيش الدفاع الاسرائيلي بالمديرية العامة للدفاع المدني، طالبا اخلاء العناصر من مكان محدد، “ننسحب وقتيا ونعود فور توقف القصف، حصل ذلك مرارا في مناطق مختلفة في الضاحية الجنوبية لبيروت: المريجة، برج البراجنة، حارة حريك والليلكي، وفي النبطية في الجنوب، وفي البقاع وسقط لنا منذ بداية هذه الحرب 17 شهيدا”.
أخطر هذه التهديدات كانت إبان استهداف خليفة السيد حسن نصر الله، رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين الذي اعلن حزب الله مقتله رسميا يوم الاربعاء، لكن استهدافه حصل منذ 3 سابيع في منطقة المريجة في الضاحية الجنوبية لبيروت. وجّه جيش الدفاع الاسرائيلي انذارا بضرورة اخلاء المكان، بينما كان نزار ورفقاؤه ينتشلون جثثا ومنها لاطفال. اضطر الفريق للانسحاب مرار والعودة مرارا. ” نجحنا أخيرا أول من امس في انتشال جميع الضحايا بعد أن عملنا ببطء وحذر شديدين”.
التكتم هو سمة رئيسية في عمل هؤلاء. مات حسين زميل نزار امامه، إثر عارض صحي كما يقول اثناء انتشال السيد حسن نصر الله الذي استهدف في 27 ايلول الفائت. لم يشأ نزار اعطاءنا تفاصيل عن كيفية حصول ذلك، “أترك التفاصيل للمديرية العامة للدفاع المدني التي حققت بالحادث”.
مواكبة اسرائيلية لعمل المسعفين
يواكب الاسرائيليون عمل المسعفين عن كثب. يقول سمير الشقية، رئيس مركز العمليات في البقاع الاوسط والغربي ” تطورت الغارات بشكل تصاعدي بعد 23 ايلول، توجهت عند الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم الى بلدة مشغرة وهي آخر ضيعة في محافظة البقاع الغربي والاولى في محافظة الجنوب حيث وقعت غارات كثيفة في مشغرة وفي سحمر، بعد وصولي الى مشغرة، بدأنا بإطفاء النيران المشتعلة في منزل وفي حرج، وكنا ننظر في الوادي الى بيتين آخرين تشبّ فيهما النيران، لما انتهينا من القسم الاعلى في مشغرة، نزلنا الى القعر، وبدأنا العمل في المنزلين، وعثرنا على شهيد. وبعد مرور نصف ساعة على بدء عملنا وردني اتصال من مسؤول المنطقة عندنا، وللعلم أنه والدي، فايز، طلب مني الانسحاب فورا مع الشباب، لأن جيش الدفاع الاسرائيلي أرسل تهديدا مباشرا عبر اتصال ورد على هاتفه ، وكان المتصل يستخدم الرقم العسكري الخاص بوزارة الداخلية اللبنانية، وعرفه عن نفسه وقال له إن عناصرك في البقاع الغربي يعملون في مناطق تابعة لحزب الله، اسحبهم أو سنقصفهم”.
أجاب سمير والده:” لن أنسحب قبل أن أسحب الرجل الذي يحترق أمام عيني”. سمير هو صبي وحيد في العائلة، ليس له شقيق أو شقيقة، يبلغ الـ32 من العمر وهو درس هندسة الاتصالات في الجامعة اللبنانية الاميركية، ولكنه لم يعمل بها يوما، أحب العمل في الدفاع المدني بعد أن كان والده يأخذه معه لعمليات الانقاذ في العام 2005، كي يدفعه بعيدا من الانخراط في العمل مع الاحزاب اللبنانية.
يروي سمير الكثير من المشاهد القاسية، وخصوصا في النبي آيلا، حيث وقعت غارة عنيفة على بنايات سكنية:” كنا أول الواصلين الى النبي آيلا، حيث شاهدت نيرانا، وبناية مؤلفة من 3 طوابق وقد هدمت وسوّيت ارضا. بدأنا بإطفاء النيران، وطلبت الدعم ووصل الشباب، وبدأنا نجول على الاحياء الداخلية حيث نجحنا في انتشال 6 اشخاص احياء، وللأسف 6 متوفين ومن بينهم دينا درويش الموظفة في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وهي توفيت مع ابنها [6 سنوات] وقد تحطم جسده وصار رأسه عند أسفل رجليه”.
كان هذا المشهد قاسيا، ولكنّ سمير يقول أنه شاهد أقسى منه في المهام التي خاضها طيلة شهر من هذه الحرب المستمرة والتي يبلغ معدل العمل في كل منها 25 ساعة، “منذ 23 ايلول ولغاية 3 اكتوبر كنا نتمتع بساعة واحدة من النوم فقط”.
في الغارتين اللتين حصلتا في الكرك، يعرض سمير مقطع فيديو قصير، وهو ينتشل طفلا رضيعا يبلغ من العمر 7 اشهر فقط وذلك في 10 اكتوبر الحالي، سبق وانتشل اخته وعمرها 8 اعوام. بعد الغارة، وصلنا الى المبنى المهدّم، رأيت طفلا مقطوعا لقسمين، وسمعنا صوت فتاة تصرخ تبلغ من العمر قرابة الثمانية اعوام وكانت عالقة بين سقفين، أزلنا عنها الركام وأخرجناها وهي أخبرتنا أن شقيقها الرضيع تحت الانقاض، وبعد ساعة ونصف من العمل، سمعنا صوت بكاء”. يتابع سمير:” لا يمكن أن تتخيلين كم منحني صوت بكاء الطفل من القوة، بدأنا بإزاحة الاحجاء بأيدينا، وطلبنا من الناس المتواجدين شاكوش لمساعدتنا في تكسير الحجارة، رأينا رجل الطفل، كان يتحرك، ولكنه كان لا يزال بعيدا عنا لمسافة متر. بدأت أتناوب مع شخص آخر، للعمل على سحب الركام، لأن المكان لا يتسع لشخصين وكان على كل مسعف منا أن ينام وينحني تحت الركام في مكان صعب، وانتشلناه أخيرا وكان حيّا، وأكملنا لاطفاء حريق آخر”.
“تواصلت معي شقيقة دينا درويش بعد أن رأت فيدو الطفل الرضيع وقالت لي:” يا ليتك تمكّنت من الوصول الى شقيقتي!”.
وفي اليوم التالي، حصلت غارات جديدة على الكرك، ونجح سمير وفريقه بانتشال شاب يبلغ الـ18 من العمر، وكان لا يزال حيا، “قصينا السقف ونزلنا اليه”.
“تتوالى القصص الحزينة: : كانت المرحلة الاولى من الحرب مقبولة نوعا ما، تنتهي المهمة في غضون 4 ساعات، إنما منذ 17 و 18 ايلول الفائت، اليوم الذي وقعت فيه عمليات تفجير أجهزة البايجر والاجهزة اللاسلكية التابعة لحزب الله، كانت هذه الايام الثلاثة صعبة وشاقة”.
يروي سمير:” وردنا اتصال على مركز البقاع الاقليمي في مدينة زحلة وهو مسؤول عن هذه المراكز كلها، قيل لي أن ثمة سيارة ضربتها مسيرة في رياق ثم عاود المتصل ليقول لي من مركز آخر، إنها ليست مسيّرة ربما يكون شخص ما في السيارة يلعب بقنبلة، ونحن نرى أصابيعه على تابلو السيارة، بعد أن تم نقله الى المستشفى بسيارة مدنية.
بعدها ورد اتصال ثان، بأن شخصا ما اطلق النار على نفسه عند منعطف قرية في بدنايل، وابلغني رئيس مركز بدنايل أنه قبل أن يصل الى هذا الشخص كان يلملم الكثير من الجرحى الملطخين بالدماء على طول الطريق، وبلغت الاصابات في مستشفى رياق يومها 250 اصابة”.
“لم يكن أحد منّا يعرف ما الذي حصل، لم نستوعب أنها قصة تفجير البايجر، ندخل الى قسم الطوارئ في مستشفى العبد الله في رياق، فننظر الى ألفي شخص منهم مصاب مباشرة وآخرين كانوا يمرون صدفة على الطريق جميعهم ملطخين بالدماء”.
نقل سمير الشقية شخصيا عدة اصابات من ضمن خطة طوارئ تم وضعها من قبل الدفاع المدني اللبناني، “كان المشهد مبكيا، شاهدت في قسم الطوارئ في مستشفى العبد الله في رياق الدماء أينما كان، يمنة ويسرة، اشخاص ملفوفة وجوههم بالشاش، شخص بلا يد، آخر بلا أصابع، آخر تحولت عينيه الى بركتي دم، هذا المشهد مفجع”.
عدم وجود تجهيزات حديثة يصعّب مهمات الانقاذ
يبلغ عدد الاشخاص العاملين في عمليات الانقاذ في الموقع الواحد غالبا 20 شخصا، وهم غير مزودين بالمعدات الحديثة التي تكون عادة مع رجال الدفاع المدني.
“إن عدم وجود المعدات يؤثر كثيرا، عوض عن أفتش عن شخص مفقود وسط فوضى الناس المتجمهرة كان اسهل لو كنت مزوّدا بكاميرا حرارية تحدد إن كان يوجد شخص لا يزال ينبض بالحياة، أو بجهاز استشعار صوتي [سونار]، متخصص في تحديد المواقع”، يقول سمير الشقية.
هذه المعدات موجودة في المركز الرئيسي للدفاع المدني في بيروت فقط، بينما كان يجب أن تتواجد في كل المراكز في لبنان لكن الاوضاع المادية لا تسعف المسعفين اللبنانيين. “نعمل بأيدينا” يقول سمير. “يضيف:” إن الدفاع المدني اللبناني هو في حالة يرثى لها، نظرا للافتقار الى التجهيزات، إن الآلية الاحدث لدينا تعود الى العام 2002، أي الى 22 عاما!”.
إن عناصر الدفاع المدني هو في غالبيتهم العظمى متطوعين لا يتقاضون مالا ، “يترك فريقي اشغاله ويحضرون لإطفاء النيران وانتشال الضحايا”.
لا يهابون الموت
بالمحصلة لعلّ ابلغ من عبّر عن عمل هؤلاء المسعفين هي كلمة المسعف نزار الجردي:” ” نحن ندخل دوما الى حيث يكون الناس هاربين، نتوغل بين الركام والانقاض باحثين عن روح انسانية ناجية”.
نسأل نزار: هل تخاف حين يصلكم تهديد؟ يجيب بثقة: ” أبدا، إنه واجبنا، نحن نتحايل على الخطر، ولكن لم نتوقف مرّة واحدة عن تلبية نداء الواجب، إن من صلب واجباتنا أن نكون على الارض، قرب المصابين والشهداء، هذا عمل إنساني متجذر في داخلنا، وأنا أعمل في الدفاع المدني منذ 22 عاما”. يضيف:”أحب انقاذ الارواح والاستماع الى الناس يرفعون الدعوات الى الله من اجلنا، إنه عمل انساني، ومن الجميل مساعدة الناس”.