“مصدر دبلوماسي”
مارلين خليفة
كانت عائلة فاطمة التي تبلغ من العمر 75 عاماً تعيش في منزلها البالغ 200 متر مربع في حاروف، جنوب لبنان وسط حديقتها التي تضج بالالوان، وكانت فاطمة متعلقة بهذا المنزل بعد أن دمرته حرب 2006 مع إسرائيل، وأعادت العائلة بناءه، وصار وكأن كل حجر فيه يحمل قصة كفاح وإرادة في الحياة.
لكن أمس، الاثنين، دقت ساعة النزوح مجددا عندما تصاعدت أصوات القصف الإسرائيلي. في صباح يومٍ مشؤوم من الغارات الاسرائيلية المكثفة على قرى جنوب لبنان والبقاع حصيلته مقتل 533 مواطن لبناني وقرابة 1825 جريحا، اضطرت فاطمة مع ابنتيها، فدوى وضياء، للهروب من قريتهن، مصطحبات ستة أحفاد، ثلاثة من كل ابنة. “هنا في حاروف لم يعد بالامكان البقاء، فقد حصدت غارة اسرائيلية عائلة بأكملها مؤلفة من 10 اشخاص” تقول فاطمة”.
كانت الرحلة طويلة ومليئة بالتحديات، حيث توجهوا نحو مدرسة فندقية في الدكوانة، في محافظة المتن.
تحت أشعة الشمس الحارقة، شعرت فاطمة بالعطش الشديد، وعجزت عن إيجاد أية مساعدة. كانت الطريق تتقلص أمام أعينها، وكأن كل خطوة تجرّها وعائلتها نحو مزيد من الألم. الأطفال وأكبرهم في سن العاشرة بدأوا يشعرون بالانزعاج، بينما كانت فاطمة تحاول بقدر الإمكان أن تبث الأمل في نفوسهم. أما فدوى التي كانت تقود السيارة، فقد كانت تتصارع مع التعب والإرهاق، لكن حبها لأبنائها كان يمنحها القوة للاستمرار.
عندما وصلوا إلى صيدا، كان الوقت قد تجاوز الظهر. في تلك اللحظة، كان المتطوعون في انتظارهم، حيث قدموا لهم المياه الباردة والسندويشات. كانت تلك اللمسة الإنسانية بمثابة إنقاذ من شبح اليأس. تأملت فاطمة في عيون أطفالها، ورغم المعاناة، شعرت ببعض الراحة. كانت تلك الرحلة القاسية التي استمرت 10 ساعات دليلا على قوة الروابط العائلية في انتظار غدٍ يحمل في طياته الأمل.
تتوالى قصص النزوح القسري الذي تسببت به اسرائيل أمس لقرابة 500 ألف لبناني، كتب الصحافي اللبناني حسين جرادي على صفحته على فايسبوك:” السيارة العالقة في زحمة النزوح من الجنوب الى بيروت منذ 9 ساعات، فيها جدتي التي تبلغ من العمر 86 عاما، وابنة أخي ذات الشهور الثمانية. ومعهما أمي وأبي وأخي وزوجته، أجيال شاخت وأخرى تنمو في درب لا ينتهي من القهر وانتزاع الحياة حربا بعد أخرى وتهجيرا بعد آخر”.
تتجلى معاناة النازحين اللبنانيين في مشهد مؤلم يتكرر، كما في حرب العام 2006 حين أسر حزب الله جنديين لاسرائيل فاندلعت حربا مدمرة استمرت 33 يوما وحصدت 1200 لبناني.
تتوالى ساعات الانتقال الطويلة من القرى الجنوبية والبقاعية إلى بيروت. يضرب التعب والإرهاق وجوه الناس وتنساب الدموع من عيون الأطفال الذين لا يفهمون سبب هجرهم لمنازلهم. مشاهد متشابهة تتكرر: الأمهات يحملن أطفالهن في أحضانهن والآباء يجاهدون للسيطرة على مشاعرهم، بينما تتسارع المركبات في طريقها إلى الأمان، رغم القلق العميق.
عند مدخل صيدا الجنوبي، أمام الصفوف الطويلة للسيارات حمل أحد أبناء المدينة لافتةً صفراء خطّ عليها: “من صيدا رح ترجعوا مرفوعي الرأس”.
كانت الغارات الاسرائيلية متفلتة من أية ضوابط طاولت الأماكن السكنية وساحات الضيع ودمرت البيوت على رؤوس أهلها، انتشر مقطة فيديو بشكل
Viral
أمس للصحافي فادي أبو ديّة وقد انفجر الجدار وراءه ورماه أرضا وهو يصرخ بينما كان يعطي مقابلة عبر تطبيق “زوم”، ويبدو أنه نجا وإنما أصيب بجراح.
أدى القصف الى إقفال طرق كثيرة ليصبّ كل الفارين من جحيم القصف على أوتوستراد الغازية – الزهراني .
رحلة نزوح البعض من النبطية إلى بيروت استغرقت 10 ساعات، ومن فرّوا من قرى صور وبنت جبيل ومرجعيون صباحاً لم يكونوا قد وصلوا إلى بيروت حتى منتصف ليل أمس، بسبب الازدحام الخانق وخصوصاً أوتوستراد الغازية – الزهراني، حتى ساعات الليل، حيث فرغت خزانات بعض السيارات من الوقود، وتعطّل بعضها، وفاجأ الطلق سيدة حاملا في إحدى السيارات. فأطلقوا نداءات استغاثة جرى تعميمها على مواقع التواصل الاجتماعي التي لعب ناشطون فيها دوراً في ربط عائلات عالقة في الجنوب لا تملك وسائل نقل بأصحاب سيارات أجرة تبرّعوا بنقل الأهالي مجاناً.
كذلك غصت طرقات الشمال عند ساعات المساء بسيارات النازحين القادمين من الجنوب، لا سيما طرابلس حيث توافد عشرات الشبان لمساعدة القادمين عند مدخل المدينة وسط دعوات إلى استقبالهم وتقديم كل ما يلزم لهم، حتى تقاسم الخبز.
توزع النازحون بين طرابلس والكورة وعكار وزغرتا والمنية، حيث فتحت لهم منازل ومدارس، كما فتحت بلدية دير عمار – المنية مبنى البلدية الذي استقبل عشرات النازحين.
وضع خط ساخن لتنظيم استقبال النازحين هو: 1787. الى مبنى المديرية العامة للتعليم المهني والتقني –المعهد الفني الفندقي-بئر حسن نزحت ضحى من منزلها في مدينة صور :”لا يمكنني أن أصف الشعور الذي ينتابني عندما أرى كيف دمروا بيوتنا وأحلامنا،وكيف شردوا عائلاتنا. إنهم يعتقدون أن بإمكانهم إضعافنا، لكنهم يجهلون أننا سنظل مقاومين”. تضيف ضحى:”
“حزب الله هو خشبة خلاصنا في هذه المعركة. هو من يدافع عن أرضنا وكرامتنا، وهو القوة التي تقف في وجه العدوان. إنني أؤمن أن تحرير فلسطين هو هدف كل شريف، وكل من يسعى للعدالة. نحن بحاجة إلى الوحدة والقوة لمواجهة هذا العدو الذي لا يعرف الرحمة”.
اليوم الثلثاء في 24 أيلول\سبتمبر ليس الوضع أفضل، النازلون من الجنوب عالقون لساعات في العجقة الكبيرة، عند كورنيش صيدا ترى الناس نائمة على جوانب الطرقات، ومعهم ما تيسر من أغطية تقيهم برد الليل. انطلق رامي الساعة السادسة والنصف من منطقة الزهراني، وبعد ساعتين ونصف لم يصل بعد الى صيدا، بينما عمله في بيروت يبدأ عند التاسعة صباحا.
حاول حزب الله في بداية الحرب التي بدأها في جنوب لبنان اسنادا لغزة كما يقول في 8 اكتوبر الماضي حماية بيئته الحاضنة وخصوصا في الجنوب على قرى الحافّة الأمامية كما يتم وصفها واستأجر لهم بيوتا تراوحت إيجاراتها الشهرية بين 300 و500 دولار شهريا وأحيانا وصلت الى ألف دولار شهريا، فأخلى قرابة العشرين قرية حدودية، لكي يتسنّى له اطلاق هجوماته من دون تعريض المدنيين للخطر، وكانت هجماته بإتفاق ضمني مع اسرئيل لا تتعدى الـ5 كيلومتر، وكذلك اسرائيل. لكن سلّم التصعيد ارتفع طيلة 11 شهرا لتصل صواريخ حزب الله بالامس الى عمق 120 كيلومترا في عمق اسرائيل فيما تفلّت الجيش الاسرائيلي من كل ضوابط، ووصلت صواريخه الى قضاءي جبيل وكسروان! فضلا عن الضاحية الجنوبية لبيروت التي حاول فيها أمس اغتيال الرجل الثالث في حزب الله علي كركي، فيما نفى بيان لحزب الله أن يكون نجح.