مقالات مختارة
عن مجلة “لوبوان”
نشرت مجلة “لوبوان” الفرنسية مقال رأي للشيخة موزا بنت ناصر، رئيسة مؤسسة “التعليم فوق الجميع” التابعة لمؤسسة قطر، ومؤسسة منظمة “صلتك” غير الحكومية، ووالدة أمير قطر، وأوضحت الشيخة موزا سبب اختيار موضوع اليوم العالمي لحماية التعليم من الهجمات، كاشفة عن قتل 20 ألفا من الجسم التعليمي في غزة بين تلامذة وأساتذة وأكاديميين، وكشفت الشيخة موزا عن أنه “في العالم الذي نعيش فيه تُصمم المدارس لتتحول إلى مراكز إيواء للاجئين”.
بقلم الشيخة موزا بنت ناصر
نُشر بتاريخ 09/09/2024 الساعة 16:48، وتم التحديث بتاريخ 09/09/2024 الساعة 18:58.
في أواخر شهر يناير، أثارت إحدى القصص المأساوية العديدة القادمة من غزة، حيث اندلع الصراع منذ عام، اهتمامًا خاصًا. قصة هند رجب، التي قُتلت وهي جالسة في سيارة، محاطة بجثث أقاربها، ممسكة بهاتفها المحمول، طالبةً النجدة. تم تسجيل هذه المكالمات، واستمع إليها الملايين.
كانت هند تبلغ من العمر 6 سنوات. في السيارة معها كان عمها وزوجته وأطفالهم الثلاثة. تعرضت سيارتهم لـ 355 رصاصة أطلقت من دبابة إسرائيلية كانت تقف على بُعد أمتار قليلة. تم العثور على مسعفين اثنين، أُرسلا لإنقاذهم، ميتين داخل سيارة إسعاف محترقة بالقرب من المكان.
عالم تُصمم فيه المدارس لتُحول إلى مراكز لإيواء اللاجئين
هذا العام، يأتي موضوع اليوم الدولي لحماية التعليم من الهجمات تحت شعار: “التكلفة البشرية للحرب”. لكن كيف نقيس قيمة الحياة الإنسانية؟ حياة الطفلة هند، التي أظهرت شجاعة كبيرة في مواجهة العنف المفرط، أو حياة أبناء عمومتها الثلاثة، وهم أيضاً أطفال، أو حياة عمها وزوجته؟ ما قيمة حياة المسعفين الاثنين اللذين ضحيا بنفسيهما في محاولة لإنقاذ الأسرة؟ وماذا عن عشرات الآلاف من الأشخاص الذين لقوا حتفهم في هذه الهجمة الرهيبة؟
قصة هند لقيت صدى واسعًا لدى المتظاهرين حول العالم، حيث عبّروا عن تقديرهم لها من خلال الأغاني، وبكوا حياتها القصيرة واحتفوا بها. لكن للأسف، لم تكن هند سوى طفلة واحدة من بين كثر – أكثر مما يمكن تصوره.
يقترب عدد الأطفال والمعلمين والأكاديميين والطلاب الذين تم اغتيالهم في غزة منذ 7 أكتوبر من العام الماضي إلى رقم مذهل يبلغ 20,000. تم تدمير أو إلحاق الضرر بأكثر من 93 في المئة من المباني المدرسية، بما في ذلك تلك التي تديرها “الأونروا”، وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى. كانت العديد من هذه المباني تشغلها أسر نازحة فقدت منازلها بسبب الصراع وكانت بعض هذه المباني مصممة لتكون أيضًا مأوى طارئًا.
هذا هو العالم الذي نعيش فيه، حيث تُصمم المدارس لتتحول إلى مراكز إيواء للاجئين. القانون الدولي يحظر استهداف هذه المباني المدنية. ومع ذلك، أصيب آلاف الأشخاص أو قتلوا بعدما لجأوا إلى ما كان يجب أن يكون “مساحات آمنة”.
ثمن جسدي رهيب: تكلفة إعادة الإعمار
ما الثمن الذي يمكن أن تضعه لهذه الأرواح؟ ما الثمن الذي تضعه لحياتك؟ ما هو “الثمن البشري” لهذه الحرب أو لأي حرب أخرى؟ من المستحيل بالنسبة إلي أن أجيب على هذه الأسئلة. قلبي مثقل بالإحباط والألم واليأس.
لنتحدث إذن عن الثمن المادي، مثل تكلفة إعادة الإعمار. لنتحدث عن المليارات التي ستُنفق لإعادة بناء البنية التحتية، بما في ذلك المدارس والجامعات في غزة، واليمن، والسودان، وسوريا، وأوكرانيا، وميانمار… القائمة طويلة، والدمار بلا حدود. قد أميل لوصفها بأنها “بلا جدوى”، لكن المسؤولين عن هذا الدمار يجدون فيها فائدة. إنهم يدركون أنه من خلال استهداف هذه المؤسسات وتدميرها، وقتل المعلمين والأساتذة، وتدمير أسس التعليم ذاتها، فإنهم يحطمون مستقبل أجيال عدة، وهذا بالضبط ما ينوون فعله.
يا لها من خسارة فادحة، ليس فقط للعائلات والأطفال والشباب على المستوى الفردي، بل أيضاً لأوطانهم. إنها خسارة لنا جميعاً، أينما كنّا على هذه الأرض. كل هذا الإمكان، كل هذه المواهب، كل هذه الحيوات، تحولت إلى رماد. جميع الذين فقدوا حياتهم، والذين سُلبت منهم القدرة على الدراسة، والذين يمثلون وعوداً لم تتحقق، والناجون منهم الذين انتهكت حقوقهم الأساسية في التعليم.
هذا المشهد المأساوي يتكرر في جميع أنحاء العالم. ففي حين أُعيد فتح المدارس رسمياً في بعض مناطق السودان، تواصل العنف في الواقع، ولا يزال الملايين في حالة نزوح مستمر، والهجمات على التعليم لم تتوقف. في بنغلاديش، تسببت أعمال الشغب الأخيرة في إغلاق المدارس في جميع أنحاء البلاد.
في أوكرانيا، تم تدمير أكثر من 1300 مؤسسة تعليمية بالكامل. وفي نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكولومبيا، كما هو الحال في العديد من الدول الأخرى، يدفع الطلاب الأبرياء ثمناً لا يوصف بسبب الانقسامات المريرة. ولسنوات قادمة، سيقع عبء إعادة البناء وشفاء القلوب والعقول المكسورة على عاتق مجتمعاتهم، التي لن تحظى بفرصة رؤية الشباب المتعلمين وهم يتقدمون لتولي أدوار قيادية.
الشباب هم أملنا
العالم يقف في حالة جمود. يكفي إلقاء نظرة واحدة على غزة أو السودان أو مخيمات اللاجئين حول العالم لتدرك عواقب تقاعس المجتمع الدولي.
الصمت مدوّ، لكن بالرغم حزني، فإن الأمل ينبع من الشباب. الطلاب حول العالم الذين يواصلون الاحتجاج ضد الحروب والمعاناة يجسدون قوة التعليم. هم يدركون قوتهم ويستخدمون تأثيرهم مهما كان حجمه لإحداث التغيير وتسليط الضوء على الظلم.
لرواية قصة أطفال مثل هند. البعض منهم سيصبحون فاعلين للتغيير في بلدانهم. ولكن العديد من أقرانهم يُحرمون من هذه الفرصة، في البلدان التي هي في أمسّ الحاجة إلى مواهبهم وقدراتهم.
مع تزايد الأزمات التي تتكالب على كوكبنا الهش – من تغييرات مناخية، وأمراض، وتفاقم الحروب، وغيرها – نحتاج جميعاً، بشكل جماعي، إلى استغلال مواهب وقدرات كل طفل وشاب بالشكل الصحيح.
لأجل مصلحتنا جميعاً، يجب أن يصلوا إلى كامل إمكاناتهم. يجب أن يقرؤوا أن يكتبوا، أن يفهموا، أن يتواصلوا، أن يبتكروا، أن يبحثوا، وأن ينجزوا. يجب أن يذهبوا إلى المدارس، أن يتعلموا حِرفة، أن يلتحقوا بالجامعات، وأن يسعوا للحصول على شهادات. يجب أن يُدرّسوا، أن يدافعوا، وأن يقودوا. وقبل كل شيء، يجب أن يعيشوا.
على الإنترنت، يمكنك العثور على صورة لهند رجب تحتفل بانتهاء مرحلة الروضة. بابتسامة مشرقة، تميل بقبعتها الصغيرة الخاصة بالتخرج وتنظر بفخر إلى الكاميرا.
في اللحظة التي توفيت فيها الطفلة، كانت والدتها تنتظرها في المستشفى، ممسكة بحقيبتها الوردية الصغيرة. في الداخل كان هناك دفتر تمارين كانت تتدرب فيه على الكتابة. أتساءل ماذا كانت ستصبح هند، لو أتيحت لها الفرصة لتكبر.