“مصدر دبلوماسي”
مارلين خليفة
“إنهض! لدينا اليوم الكثير من العمل”. بهذه العبارة البسيطة تلقى أحد القياديين في “حزب الله” خبر اطلاق عملية “رد الاربعين” عقب اغتيال مدير العمليات في جبهة الاسناد فؤاد شكر المعروف بالسيد محسن الذي اغتالته اسرائيل في منزله في ضاحية بيروت الجنوبية في 30 تموز الفائت.
كان ذلك فجر الاحد في 24 آب الفائت، عكس الاتصال حالة التكتم التي طغت على القيادة الحزبية إزاء رد أرادته حاسما ونقيا لا تشوبه شائبة قوامه: 340 صاروخا و60 مسيرة أطلقت من مرابضها “بشكل مُتتابع زمنيًا وليس بنفس الوقت، بدقائق متباعدة، تأخذ القليل من الوقت، ممّا أدى إلى إصابة كل الأهداف بالصواريخ الموزعة” بحسب خطاب أمين عام حزب الله الأخير فور اانتهاء العملية.
نجحت العملية باستهداف قاعدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أمان وحدة 8200 في غليلوت بالقرب من مدينة تل أبيب كهدف أصلي، وفضلا عن هدف قريب هو قاعدة الدفاع الصاروخي والجوي في عين شيمر.
كان حزب الله واسرائيل الجهتان الوحيدتان اللتان هما على دراية بحقيقة الوضع: الحزب ضرب من دون امكانية فورية لعرض الادلة الدامغة التي توافرت لديه لاحقا والثانية متكتمة حفاظا على ماء وجه تفوقها النوعي الذي سقط سقطة لا قيام منها في عملية “طوفان الاقصى” التي قامت بها حركة حماس في 7 اكتوبر 2023.
اعتبر خصوم الحزب بأنه “نصف ردّ”، وصفه البعض بالمخيب للآمال، فيما كان اللبنانيون الذين لا يحبون الحرب ومن ضمنهم الكثير من بيئة حزب الله يتنفسون الصعداء بعد ضغط نفسي هائل قاسوه طيلة أيام بين 30 تموز و24 آب.
الرد هدف للحفاط على قواعد الردع
وعد الأمين العام للحزب بالرد على عملية الاغتيال، ولكنه لم يربط ردّه بإنهاء اسرائيل بل الرد على قصف الضاحية وتحصين قواعد الردع لا ادخال لبنان في نفق حرب مدمرة لم يقررها ولا يريد أن يجره اليها بنيامين نتنياهو في توقيت مصيري.
كانت الشائبة الوحيدة في العملية هي افتقارها الى الصورة التي تؤكد اصابة الهدف الثمين، وسط أوامر صارمة من السلطات العسكرية والامنية والسياسية الاسرائيلية بمنع التحدث في الموضوع، مموهة الخرق بكثرة الحديث عن حملة استباقية دحضها خطاب نصر الله.
نجح حزب الله في تحويل المسار عن الحرب المدمرة والحفاظ على قواعد الردع. اعتمد حسابات عسكرية دقيقة، وفيما كانت قيادته واثقة من نتائج العملية النوعية، فإن اعلامه الحربي لم يستطع توثيقها لتعقيدها ولبعد المسافة: 112 كيلومتر في العمق الاسرائيلي.
سبقت العملية سلسلة ضغوط هائلة من الرأي العام من الجهتين: الاعداء وخصوصا جبهتهم الاعلامية المناوئة التي استخدمت 3 طبقات في هجوماتها: احباط الروح المعنوية والتيئيس بمعنى “أنت أعجز من أن ترد”، الطبقة الثانية التي تلت زيارة الموفد الرئاسي الاميركي آموس هوكستين هي التهويل (تصريح مروان حمادة بأن الحرب قادمة في الساعات المقبلة، الحديث عن حاملات الطائرات، الموفدين الدوليين الخ)، والطبقة الثالثة هي تصغير الرد وتسطيحه وتفريغه من مضمونه بعد اتمامه.
من جهة ثانية، برزت قبل الرد جبهة من الاعلاميين الاصدقاء للحزب الذين بالغ عدد منهم في توقع الرد، وذهبوا الى التهديد والوعيد بأن الحزب سيرد ردا ساحقا وماحقا وأن الضربة ستتجاوز تل أبيب الى ما بعد بعد تل أبيب!.
وإذا كان الخصوم معروفين لدى الحزب، وحركتهم الميدانية مراقبة وخصوصا على الجبهة الجنوبية، فإن المسؤولين فيه أصابهم الذهول من مواقف مؤيديهم.
تقييم متفائل للحزب
لكن الرجل الوحيد الذي كان بيده قرار الضغط على الزناد وهو السيد حسن نصر الله لم يرضخ ولم ينصاع للضغوط.
ويله الضاحية الجنوبية وبيروت والاقتصاد والمطار والبطريرك وباسيل والقوات ولبنان الذي يعتبره أمانة في عنقه، وويله الحفاظ على قواعد الردع كي لا يتشجع نتنياهو ويخرقها مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة.
لكن الحزب وقع في ما لم يكن في الحسبان. صحيح أنه لم يعط وزنا للمناخ الذي وزعه الموفد الأميركي آموس هوكستين ونجح بتعميمه على المسؤولين الذين التقاهم،- لأنه أميركي اولا والحزب لا يثق بضمانات أميركي ولأنه اسرائيلي اولا واخيرا- إلا ان الثابت لدى الحزب أن هوكستين تحدث عن تجنيب اسرائيل المدنيين والمنشآت الحيوية ولكنه لم يذكر في احاديثه تجنيب الضاحية وبيروت بشكل حرفي.
إلا أنه وبمعزل عما قاله “الاميركي الاسرائيلي ” كما يصفه مؤيدو حزب الله، فإن تقييم الحزب كان متفائلا، إذ قدّر بأن الاسرائيلي لن يجازف بضرب الضاحية خشية توسع رقعة حرب لا قدرة له على تحمل تبعاتها بجيشه المنهك. إلا أن التقييم لم يأخذ في الحسبان أن عين نتنياهو ترصد فؤاد شكر كما يترصد النسر طريدته، ولم يتوقع أنه سيقتنصه ولو كان موجودا في الضاحية.
اغتال نتنياهو شكر في منزله في الضاحية، حيث لا شبكة اتصالات خاصة بالحزب ولا خروق كما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال بشكل مضلل. بعدها، تمنى نتياهو أن تنتهي الأمور عند هذا الحد، فهو لا يريد تغيير قواعد الردع بل خرقها مضطرا لقتل الرأس المدبر للعمليات العسكرية منذ 8 اكتوبر الماضي.
وقع حزب الله في تقييم متفائل، تماما كما فعل قائد فيلق القدس قاسم سليماني عندما اعتقد بأن الاميركيين لن يغتالونه لأنه ممثل لدولة، لكن المسيرات كانت له بالمرصاد فقتل في مطار بغداد في العام 2020، ومثله أخطأ شكر عندما اعتقد أن استهدافه ممكن في جنوب لبنان فحسب لأن الضاحية خط احمر.
قوّضت اسرائيل التقييم وهي التي نجحت في ممارسة التضليل منذ عملية مجدل شمس، مسربة بأن أي رد سيكون جنوبا أو بقاعا.
بعيدا من الاعلاميين الاعداء ونظرائهم من الاصدقاء الذين كانوا يروجون لانفسهم ويحرجون الحزب، بقيت قيادته محتفظة بأعلى درجات اليقطة وضبط الانفعال حفاظا على حدود الحذر الاستراتيجي.
كان ردّ الاربعين ليكون فصلا دمويا للبنان ولحزب الله، بعد أن تحول جنوب لبنان بالكثير من قراه وبلداته الى دمار هائل ودخل في حرب استنزاف تبقى للحزب فيها اليد الطولى من حيث زمام المبادرة.
كان الاعداء والاصدقاء يتصارعون على توقع رد الحزب بشراسة عكستها وسائل الاعلام المحلية والعربية خصوصا بشكل حيوي، بين شامت ومهوّل وبين مشجع ومتهور.
تدخلت القوى العظمى بدبلوماسييها ودخلت البوارج الاميركية العملاقة الى المتوسط الذي عجّ بحاملات الطائرات الاميركية، وكان على نصر الله ان يتخذ القرار الصعب نيابة عن الجميع بمن فيهم الايرانيين.
الحرب هي اسناد لغزة لا اكثر
لم يكن الحزب مستعدا للمشاركة في زيادة مصائب لبنان، يكفيه انه يتكبد لوحده وبيئته الدمار جنوبا واوزار النزوح الشعبي ومقتل ما تجاوز الـ700 شخص بينهم 40 مدنيا منذ اطلاقه جبهة الاسناد في 8 اكتوبر الماضي دعما لصمود غزّة. كان حزب الله مدركا بأن حدود المعارك كما رسمتها حركة حماس منذ البداية هي تحرير الاسرى الفلسطينيين وليس تحرير القدس.
اسباب نجاح الاغتيالات
كان يكفي حزب الله انه دخل المعركة وهو غير جاهز لها، فخسر في الشهرين الاولين الكثير من مقاتليه، أما بقية الاغتيالات التي يسأل عن سر نجاحها الاعلام الغربي دون استثناء فيعود نجاح اسرائيل فيها الى تفوقها التكنولوجي وخصوصا في قطاع الاتصالات والى تفوق جوي والى انكشاف جزء من هرمية حزب الله واسماء قيادييه بفعل التنسيق اللصيق طيلة 10 اعوام في الحرب السورية مع قوى دولية وفصائل على الارض، بينما كانت اسرائيل على ما يبدو تنكب على تجميع الداتا واضافتها لما حصدته من داتا اللبنانيين جميعا التي قدمها لبنان الى المحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
“ليس من خرق بشري واحد بين القيادات العليا والمتوسطة في حزب الله ولا حتى من قبل مواطنين سوريين بالغ الاعلام بالحديث عن تورطهم المحتمل” يقول لنا احد القياديين.
الرد المدروس
استطلع حزب الله رغبة جمهوره ورغبة اللبنانيين ما افضى به الى رد مدروس ولكنه فعال. استهدف غاليلوت الوحدة 8200 مغلبا مصلحة لبنان على “برستيج” رد غوغائي ومتجنبا مقولة :” لو كنت اعلم في العام 2006 التي كانت باعتراف مسوؤلين فيه أخف وطأة عليه من جبهة الاسناد الحالية. سقط في حرب 2006 قرابة الـ200 شهيد واستمرت الحرب 33 يوما، فيما سقط لغاية اليوم ما يتجاوز الـ700 شهيد والحرب مستمرة منذ 11 شهرا. بكل الاحوال، اتخذ حزب الله اجراءات مشددة حففت من تمكن اسرائيل من اغتيال قادة فيه ومن بين 7 محاولات تنجح واحدة.
اعاد الرد الموزون الامان الى لبنان باستثناء الجنوب والبقاع ولكن سرعان ما قرر الاعلام المعادي تحويل الرد الى ازدراء كبير. في هذا الوقت كتبت الميادين خبرا مفاده: أكدت مصادر موثوق بها للميادين أنّه تم التثبت، من داخل كيان الاحتلال الإسرائيلي، من أنّ حزب الله “نجح فعلاً، وبصورة مؤكدة في الوصول إلى الوحدة 8200 الاستخبارية الإسرائيلية وفي إصابتها”، في عملية “يوم الأربعين”، التي نفّذها رداً على اغتيال القائد الكبير فؤاد شكر.
وأشارت المصادر إلى أنّ 6 طائرات مسيّرة، على الأقل، أطلقتها المقاومة الإسلامية في لبنان، نجحت في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية، مشددةً على أنّه تم التأكد، بصورة كاملة، من أنّ المسيّرات الـ6 أصابت أهدافها بدقة عالية داخل قاعدة “غليلوت”، الواقعة في العمق الإسرائيلي قرب “تل أبيب.
وفي الاول من ايلول الجاري نشر خبر عن استقالة العميد يوسي شاريئيل، قائد الوحدة .
للمعلومات بأن الوحدة 8200 في معسكرات غليليوت في رمات هشارون قاعدة مغلقة وتعد أكبر قاعدة تنصت تتفرد بنظام خاص بها من حيث القوانين التي تحكمها والهيكلية العسكرية الهرمية التي تحكمها. وهي العامود الفقري والشبكة العصبية لمجتمع الاستخبارات الإسرائيلي بأكمله والوحدة الاستخباراتية التقنية الأهم في العالم. تمثل بالنسبة للجيش الوحدة المركزية للجمع الاستخباراتي وإحدى أكبر وحداته النخبوية. يتركز نطاق عملها في المجال السيبراني، وهي المسؤولة عن التجسس الإلكتروني، وقيادة الحرب الإلكترونية.
قائد الوحدة في نيسان الماضي سقط قائد الوحدة 8200 في هفوة معلوماتية تسببت بفضح هويته السريّة بعد قيامه بنشر كتاب باسم سرّي عن “دمج العمليات الاستخباراتية والحربية بالـ AI” على موقع أمازون… وربط الاسم بموقعه الالكتروني ومعلوماته الشخصية، ليتبين أنه المقدم يوسي ساريئيل الذي قدم استقالته بعد اسبوع على تنفيذ حزب الله لعملية رد الاربعين.
أدلة دامغة
يقول العارف بخفايا الحزب لموقعنا بأن لدى قيادة حزب الله ادلة دامغة اليوم عن تحقيق اصابات مباشرة بمقر الوحدة اما الافراج عن الادلة فيخصع لأمر السيد نصر الله شخصيا ولن يحصل مراضاة لرأي عام منه الشامت ومنه المتسرع.
لم يكن حزب الله ولا حتى اسرائيل في صدد استراتيجية حرب اوسع كل لاسبابه الخاصة. اسرائيل غير مستعدة لفتح جبهة فيها انفاق ومتاهات لجيشها الذي اوهنته حرب غزة، وليس حزب الله مستعدا لاستخدام سلاحه النوعي في حرب لا تهدف الى تحرير القدس وهو لن يفرط باستعداداته للحرب الكبرى الآتية لا محالة ارضاء للاعلام ولكي يحصد “لايكات” ويجعل الجمهور يهزّ رأسه اعجابا، بينما ستحصد الحرب آلاف اللبنانيين ولن يكون لها أفق معروف.
حافظ حزب الله بهذا الرد الحاسم والنقي على امتياز التفوق بالمبادرة وان كانت لدى اسرائيل امتيازات التفوق التكنولوجي النوعي الذي نجح باستهداف شكر وسواه من القياديين. هو رد مؤقت ورادع وسط مصالح متضاربة في مرحلة ضبابية من تاريخ لبنان والشرق الاوسط في انتظار حرب تتطلب الكثير من الوقت والاستعدادات.