تصاعد “دبلوماسية الطعام” كأداة ثقافية في العلاقات الدولية
مقالات مختارة لمصدر دبلوماسي
صحيفة العرب
الطعام، بوصفه رافدا للثقافة الوطنية، بات أحد أدوات الدبلوماسية الثقافية التي تعمد الدول لتوظيفها في إطار جهود بناء سمعة طيبة ونقل رسائل متنوعة.
إسطنبول – بات مفهوم “دبلوماسية الطعام”، أداة فعالة في تحديد الروابط بين الدول، باعتبارها من أبرز وسائط الاتصال غير الشفوي ثقافيا، وتهدف إلى الإسهام في دعم آفاق التعايش السلمي بين الثقافات المختلفة.
يقول الكاتب المصري، الدكتور رامز إبراهيم في مقال نشره، بمركز الدراسات “المستقبل” خلال زيارته الأخيرة إلى مدينة إسطنبول التركية، في أبريل الماضي، إن “الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، قام بتصرف دبلوماسي طريف؛ إذ دعا عارف كيليس، الذي تمتلك عائلته متجرا للكباب في برلين منذ ثلاثة أجيال، إلى الطائرة الرئاسية، كما قدم بنفسه أطباق الكباب في حفل استقبال مسائي رسمي على ضفاف مضيق البوسفور في إسطنبول”.
ويضيف أن، الرئيس الألماني، الذي هدفت زيارته للاحتفال بمرور 100 عام على بدء العلاقات الدبلوماسية مع تركيا، يُوظف واحدا من أقدم وسائط الاتصال غير الشفوي، وهو الطعام، ضمن جهود الدبلوماسية العامة؛ بهدف إظهار احترام ألمانيا للشعب التركي، وتقديره لجهود الجالية التركية في ألمانيا. وواقع الأمر أن الطعام، بوصفه رافدا للثقافة الوطنية، بات أحد أدوات الدبلوماسية الثقافية التي تعمد الدول لتوظيفها في إطار جهود بناء سمعة طيبة وتعزيز الصورة الذهنية ونقل رسائل متنوعة.
و”دبلوماسية الطعام” (gastrodiplomacy) هي أحد الابتكارات الحديثة في مجال الدبلوماسية العامة، وتحديدا الدبلوماسية الثقافية، ويُعبر الاهتمام المتصاعد بها عن تنامي الوعي بقدرة واحد من أقدم وسائط الاتصال غير الشفوي على نقل الثقافة، وتعزيز الصورة الإيجابية للدولة، ودعم قوتها الناعمة لدى الشعوب الأخرى، وكسب العقول والقلوب، والإسهام في دعم آفاق التعايش السلمي بين الثقافات.
وتمثل “دبلوماسية الطعام” واحدة من أبعاد سعي الدول “لإدارة البيئة الخارجية من خلال جعل مواردها ومُنجزاتها الثقافية معلومة للآخرين”. فهي بالأساس “توظيف المذاق الوطني لتنمية وعي الآخرين بتفرد أحد الأبعاد الثقافية غير الملموسة للدولة”، وتتجاوز مجرد تنظيم فعالية مؤقتة أو عابرة لتشير إلى حملة منظمة للدبلوماسية العامة تديرها إحدى الحكومات لتعزيز الوعي بأبعاد صورتها القومية الإيجابية وغرس الهوية المميزة لها في أذهان الشعوب الأخرى (nation brand)؛ كوسيلة للتأثير غير المباشر في حكومات الدول الأجنبية وبناء سمعة طيبة لها.
في السنوات الأخيرة تضافرت عدة عوامل أدت إلى تصاعد توظيف “دبلوماسية الطعام” في العلاقات الدولية
وهكذا تختلف “دبلوماسية الطعام” عن “دبلوماسية الغِذاء” (food diplomacy)؛ إذ تنطوي الأخيرة على تقديم المساعدات الغذائية كبُعد من أبعاد العمل الإغاثي والإنساني خلال أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية، بالرغم من أنها قد تسهم أيضا في تعزيز الصورة الإيجابية للدولة.
وبالمثل ربما توجد فروق دقيقة بين “دبلوماسية الطعام” و”دبلوماسية المائدة” (culinary diplomacy)، التي تشير إلى توظيف الطعام والمآدب من أجل أغراض دبلوماسية تتضمن تقريب وجهات النظر “وكسر الجليد” بين الأطراف. أي أن “دبلوماسية المائدة” مصممة لدفع العلاقات الدبلوماسية بين الأطراف المعنية؛ من خلال تجارب تناول الطعام بين الممثلين الدبلوماسيين الرسميين.
ويعتبر الكاتب المصري أن توظيف “دبلوماسية الطعام” شهد في السنوات القليلة الماضية، تصاعدا ملحوظا؛ إذ تتخذ هذه الظاهرة أبعادا متعددة، منها: التوسع في فتح المطاعم بالدول الأخرى، باعتبارها مراكز ثقافية من خلال منح قروض بشروط مُيسرة، وتوظيف “دبلوماسية الطعام” كأداة لتعزيز التفاهم بين الشعوب وعلاج الصور النمطية السلبية، ونشر الوعي والمعرفة بتاريخ المطبخ القومي للدولة، وتسهيل مشاركة الطُّهاة الوطنيين في الفعاليات الدولية للطهي والتذوق.
ويؤكد رامز إبراهيم في مقاله أن “دبلوماسية الطعام” ترتبط بصلة وثيقة بمفهوم القوة الناعمة؛ لأنها أداة تعمد إليها القوى الوسيطة والصغرى، التي تعاني نقصا نسبيا في موارد القوة العسكرية والاقتصادية المتاحة لديها؛ لتعزيز سمعتها وجني مكاسب اقتصادية وإحراز المكانة الدولية، كما أن بعض دول جنوب شرق آسيا، وتحديداً تايلاند، سعت إلى زيادة عدد المطاعم التايلاندية في الخارج عبر مبادرة (Global Thai)، وعمدت إلى تدشين برنامج (Thailand: Kitchen of the World)، كوسيلة لنشر المعرفة بالمطبخ التايلاندي.
ويعتبر الكاتب أن تلك المبادرة أسفرت عن زيادة عدد المطاعم التايلاندية بالخارج من 5550 مطعما عند بدء المبادرة عام 2003، إلى نحو 13000 مطعم عام 2009؛ وذلك للتغلب على الصورة النمطية السلبية السائدة عنها. وعلى المنوال نفسه سارت كوريا الجنوبية، حين أعلنت في عام 2009 عن تخصيص 44 مليون دولار لبرنامج (Korean Cuisine to the World)؛ بهدف جعل المطبخ الكوري يتصدر قائمة المطابخ الخمسة الأولى الأكثر ذيوعا وانتشارا في العالم، فضلا عن إقامة برامج وطنية للطهي في بعض المدارس الدولية المتخصصة في ذلك المجال.
“دبلوماسية الطعام” تمثل واحدة من أبعاد سعي الدول “لإدارة البيئة الخارجية من خلال جعل مواردها ومُنجزاتها الثقافية معلومة للآخرين”
ويرى الكاتب أن، وزارة الثقافة الإسبانية، منذ عام 2013، بتقديم الدعم المالي لاثنين من المواطنين الإسبان لمساعدتهما على تدشين فعاليات متنوعة لتقديم الطعام الإسباني في مدن ستوكهولم وأسلو ونيويورك وواشنطن. ونجحت تلك السلسلة من الفعاليات المُسماة (Eat Spain Up) في الاستمرار لما يربو عن عشرة أعوام، وتضمنت تنظيم فصول لتدريب الطهاة والطلاب على إعداد الطعام الإسباني، وعقد نقاشات، ومعارض، فضلا عن بث أفلام وثائقية عن الطعام في إسبانيا. وتمثل الهدف الرئيسي لهذا البرنامج في دعم السياحة وصادرات الطعام الإسبانية.
أما الولايات المتحدة فقد شهدت إنشاء ما بات يُعرف بـ”مطبخ الصراع” (Conflict Kitchen) في بتيسبرغ في ولاية بنسلفانيا؛ إذ يُقدم هذا المطعم فقط أطباقا من الدول التي تنخرط معها الولايات المتحدة في علاقة صراعية، وتحديدا إيران وأفغانستان وفنزويلا، والهدف هو تعزيز التواصل بين الثقافات على مستوى الشعوب.
وهذا التوظيف للطعام في “دبلوماسية الشعوب” يشير إلى دوره في تشكيل الإدراك وتعزيز التواصل الحضاري؛ إذ يُوظف الطهي لتجسير الخلافات السياسية الرسمية ومجابهة التعصب. وتأتي في هذا السياق، أيضاً، تجربة (Home Café) في قبرص، التي تجمع القبارصة الأتراك واليونانيين معا حول طاولات الطعام في الجزيرة المقسمة، في منقطة عازلة بين القسمين تقع تحت سيطرة الأمم المتحدة.
ويعتبر، أنه فضلا عن دورها في تعزيز صورة إيجابية للقوى الوسطى والصغيرة، والإسهام في دعم آفاق التعايش السلمي بين الشعوب، توجد حالات متعددة لتوظيف “دبلوماسية الطعام” لنقل رسائل إيجابية مهمة بخصوص قضايا الهجرة، ومناوَءَةِ التعصب القومي والعداء للأجانب، ودعم اللاجئين في مجتمعاتهم الجديدة. ومن مظاهر ذلك، قيام المجر باستضافة مهرجان للطعام في أكتوبر 2015؛ لتعزيز الوعي بمخاطر العداء للأجانب، ونظمت الفعالية إحدى المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بتعزيز الحوار بين الثقافات تُسمى (Artemisszio Foundation)، تحت رعاية إحدى وكالات التنمية النرويجية. وتمت الفعالية في عشرة مطاعم بالعاصمة بودابست، كوسيلة للتغلب على الصور النمطية السلبية عن المهاجرين، من خلال عرض أطعمة من العراق وسوريا وإريتريا وإثيوبيا.
توظيف “دبلوماسية الطعام” شهد في السنوات القليلة الماضية، تصاعدا ملحوظا؛ إذ تتخذ هذه الظاهرة أبعادا متعددة
ووفق الكاتب، يكتسب توظيف مهرجانات الطعام كأداة للدمج، قوة دفع كبيرة في السنوات الأخيرة.
من مظاهر ذلك، قيام مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، في عام 2017 برعاية 13 كرنفالا غذائيا للاجئين في 13 مدينة بست دول في أوروبا؛ إذ فَتحت المطاعم في اليونان وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا أبوابها أمام 80 من كبار الطهاة الذين ينتمون إلى 25 قومية مختلفة، كما تضافرت في السنوات الأخيرة الماضية مجموعة من العوامل التي أدت إلى تصاعد توظيف “دبلوماسية الطعام” في العلاقات الدولية، وفي مقدمة هذه العوامل ما يلي:
العولمة: سهلت العولمة انتقال الأنماط والتقاليد الثقافية الوطنية، ومنها الطهي والطعام الوطني، عبر الحدود، وأتاحت للأفراد ممن ينتمون لخلفيات ثقافية متنوعة تجربة طعام من ثقافات أخرى. كما يسرت العولمة فرص التعرض لتقاليد الطهي الأجنبية، والإعجاب بها، وبات الطعام أشبه باللغة المشتركة التي تملك فرصة تعزيز بناء الجسور بين الثقافات، ودور وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح تشارُك الخبرات الحياتية بخصوص الطعام بين أفراد من خلفيات ثقافية مختلفة؛ إذ يسر هذا الترابط الرقمي إمكانية نقل قصص للطعام الوطني بوسعها إثارة الفضول وجذب اهتمام السائحين؛ على نحو يعزز الفرص الاقتصادية للدول، والعلاقة الوثيقة بين “دبلوماسية الطعام” والقوة الناعمة. ويمكن للطعام الوطني أن يؤدي دورا إيجابيا في مجال الجذب وتعزيز الصورة الطيبة للدولة، وعرض جانب من هويتها المميزة، ويسهم هذا الأمر في جني مكاسب اقتصادية مباشرة تتمثل في خلق طلب على السياحة الوطنية.
ويشير رامز إبراهيم إلى أن هناك من يرى أن ارتباط “دبلوماسية الطعام” بمجال القوة الناعمة، يجعل من الصعب للغاية تحديد وتقويم آثارها على وجه الدقة، فضلا عن حداثة تلك الأداة، لكن بعض التقديرات قد تكون ذات دلالة في هذا الخصوص، ومن ذلك أن منظمة (World Travel Food Association) تُقدر أن 53 في المئة من السائحين يقصدون دولا بعينها بصفة رئيسية بسبب الطعام الذي تقدمه. واتساقا مع تلك النتيجة، فإن جهود الحكومة التايلاندية في إعادة تعريف مكانتها على الساحة الدولية من خلال “دبلوماسية الطعام” قد أسهمت في زيادة عدد السائحين الأجانب لها من عشرة ملايين سائح عام 2001 إلى 39.8 مليون عام 2019، ولعل ذلك هو الذي حدا بالاتحاد الأوروبي هذا العام لتخصيص 185.5 مليون يورو؛ لتعزيز صناعة الغذاء بالدول الأعضاء ودعم الحملات الترويجية المرتبطة به في دول كالصين وكوريا الجنوبية.
ويتابع الكاتب، أنه فضلاً عما سبق، قد تحرص بعض الدول على توثيق أطعمة محددة كجزء من مطبخها الوطني لنقل رسالة سياسية قوية، مثل قيام أحد كبار الطهاة الأوكرانيين وهو يفجين كلوبوتينكو، برفع دعوى أمام منظمة “اليونسكو” عام 2020 لتضمين البورشت (borscht)، وهو نوع من الحساء، ضمن الإرث الثقافي لأوكرانيا؛ إثر قيام الحكومة الروسية بالتصريح عبر حسابها الرسمي على منصة “إكس” (تويتر سابقا) أن “البورشت هو أحد أشهر الأطباق الروسية وأشدها قربا من قلوب الروس، ورمز للمطبخ الروسي”. وقامت “اليونسكو” بتسريع النظر في الدعوى المُحالة إليها عقب تدخل روسيا العسكري في أوكرانيا في فبراير 2022، وقامت المنظمة الدولية في يوليو من العام نفسه بالرد على الطلب الأوكراني بالإيجاب. لقد كانت كييف تريد عبر هذه الدعوى أن ترسل رسالة صريحة مؤداها “نحن لسنا روسيا”.
ويؤكد أن، التوظيف الإستراتيجي للطعام والمطبخ الوطني في السنوات الماضية جزءا من حملات منظمة للدبلوماسية الناعمة ترعاها بعض الحكومات؛ لتعزيز الوعي بأبعاد تراثها الثقافي، وجني الأرباح المرتبطة بزيادة السياحة والاستثمار. ويدلل التنامي الملحوظ في عدد المبادرات الحكومية في مجال “دبلوماسية الطعام” في السنوات الأخيرة على أن قيمة الطعام في العلاقات الدبلوماسية باتت تتجاوز دوره التقليدي كأداة لضيافة المسؤولين الأجانب؛ إذ يوفر الطعام إمكانية لترسيخ فرص حضور الدولة المعنية على الساحة الخارجية، ويمكنه استثارة حماس وإعجاب ملايين الأشخاص بسبب أصالة وتفرد المطبخ الوطني، ولاسيما بالنسبة للقوى الوسيطة التي تجد صعوبة في توظيف وسائل القوة التقليدية لإحراز وتعزيز المكانة والقبول الخارجييْن.