مقالات مختارة
ديفيد داود
“مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات”
تلوح الحرب مجددا بين اسرائيل و”حزب الله” اللبناني، وبعد القتال الأخير بين العدوين، [2006] تبنى مجلس الأمن الدولي القرار 1701 الذي ثبّت سياجات شكلية بغية تجنّب تجدّد الحرب.
إن ما يستلزمه الامر من لبنان – الذي قدّم وعدا بنشر 15 ألف من جنوده على الحدود مع اسرائيل- هو مطالبته بأن يحكم سيطرته على اراضيه وأن يجرّد “حزب الله” من سلاحه، أو أقله أن يعيد تموضع هذه الجماعة في شمالي نهر الليطاني، وكذلك تطوير تفويض قوات الامم المتحدة العاملة في جنوب لبنان “اليونيفيل” كي تسهم في مساعدة الدولة اللبنانية في هذه المهمة.
ثبت بأن السياجات التي ارساها القرار 1701 هي وهمية، إذ يتبادل الطرفان النيران عبر الحدود منذ ما يزيد عن خمسة اشهر، ويتزاحم الدبلوماسيون حاليا من أجل تجنّب التصعيد.
وعوض أن يدعم لبنان هذه الجهود، فإنه يستثمرها. وبدلا من أن تقوم بيروت بلجم “حزب الله”، فإنها – فرضا انها لا تعمل بالتناغم معه- تحاول في اقل تقدير أن تستخدم هجوماته كورقة للمساومة، هادفة الى ربط انهاء دورة العنف الذي يمارسه “حزب الله” بصفقة متكاملة، يتمكن من خلالها لبنان من انتزاع تنازلات من المجتمع الدولي واسرائيل.
علما، بأن “حزب الله” بدأ هجوماته الاخيرة ضد اسرائيل في 8 اكتوبر 2023، لكبح جهود الحرب الاسرائيلية في قطاع غزّة.
بالأصل، فقد حذر رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي من “المجازفة”، بينما التزمت الحكومة بغالبيتها الصمت حيال هذه الهجومات. إلا أن ميقاتي وسواه من المسؤولين الرفيعي المستوى في الحكومة سرعان ما انحازوا الى تأييد حذر، وذلك بعد أن قال أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله في 5 يناير بأن هجومات مجموعته تشكل “فرصة من أجل لبنان، لكي يحرر كلّ شبر من أرضنا اللبنانية، وتوجد 13 نقطة هي موضع نزاع عند الخط الأزرق، بدءا من النقطة “بي وان” الممتدة من الناقورة وصولا الى الغجر، بالاضافة الى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا”.
في غضون أيام، كان ميقاتي يشيد بحكمة “حزب الله”، ويدرج هجوماته ضد اسرائيل في خانة الدفاع عن النفس، قبل أن يتخذ موقفا منحازا للبنان مع “حزب الله” بشأن وقف اطلاق النار في الجنوب، مطالبا بوقف الحرب الاسرائيلية على غزة اولا.
باءت محاولات ميقاتي اللاحقة للتراجع عن انحيازه الى الفشل بل هو رسّخ هذا الانحياز، وخصوصا حين ردّد صدى موقف نصر الله القائل بأن لبنان امام “فرصة ذهبية” من أجل تعزيز موقعه حيال الاراضي المتنازع عليها مع اسرائيل.
في هذا السياق، وصف وزير الخارجية عبد الله بو حبيب “حزب الله” بأنه ” طرف لبناني حذق وعلى معرفة” وهو يسعى لتأمين “المصالح اللبنانية”. وأشار بو حبيب الى أن لبنان لن يحاول اسكات سلاح “حزب الله” –ناهيك عن النظر في نزع سلاح “حزب الله”-الى حين تسوّي اسرائيل كل النزاعات العالقة.
وعلّل بو حبيب موقف الحكومة اللبنانية بأنها لا تعمل من أجل مصلحة الاسرائيليين بهدف السماح للمستوطنين العودة الى منازلهم، من دون ان تكسب شيئا بالمقابل. واشار بو حبيب الى أن لبنان قادر على الصمود حتى تتم تلبية مطالبه لأنه معتاد على التعايش مع انعدام الاستقرار منذ زمن.
نتيجة لذلك، فإن الجهود الدبلوماسية الرامية الى كبح ميل لبنان للعب بالنار ذهبت سدى.
يبدو بأن الحكومة اللبنانية على يقين بأنها ستحوز على شروط افضل مع تزايد اليأس الدولي من لجم هجمات “حزب الله”. ويبدو بأن المانحين الغربيين عبّروا عن ارادتهم بإعادة تمويل الاقتصاد اللبناني الفاشل بغية “تلطيف الصفقة”، إلا أن ذلك أسفر فقط عن تعزيز اعتقاد بيروت بأن هذا الابتزاز لا بدّ من أن يحظى بمكافأة في نهاية المطاف. وقد يعتقد “حزب الله” بأن حرص واشنطن على تجنب اندلاع حرب كبرى يصب في صالحه.
ليس “حزب الله” والحكومة اللبنانية على خطأ في تقييم مخاوف واشنطن من التصعيد. وبغية فهم التفاعل القائم بين الحكومة اللبنانية و”حزب الله” اليوم، من الجوهري معرفة كيفية العمل بشكل ثنائي مترادف أثناء الوساطة حول النزاع الحدودي البحري بين لبنان واسرائيل في حقبة امتدت بين يناير واكتوبر 2022 برعاية ادارة جو بايدن، والتي كانت بشأن الحدود البحرية التي من المتوقع أن تحتوي على بقع الغاز قد تحمل مكاسب كبرى.
في ذلك الوقت، اكتشف حزب الله أيضاً رغبة الولايات المتحدة اليائسة في تجنب اندلاع حرب كبرى في الشرق الأوسط بينما كانت تواجه بالفعل الغزو الروسي لأوكرانيا. قرر “الحزب” على حد تعبير نصر الله: “استغلال” الوضع عبر التهديد المتكرر بالحرب لارغام الأميركيين والإسرائيليين على القبول بإتفاق حول الحدود البحرية.
وفي حين لم يعترف لبنان الرسمي بهذا التعاون، فإنه بات جليّا بفعل مسار الحوادث.
تقوم بيروت اولا بتبنّي موقف محدد، بعدها يدعمه “حزب الله” من خلال تصعيد تهديداته، من اجل ذلك، تبنت المجموعة [اي حزب الله] الحد الادنى من المطالب الرسمية المتمثلة بالخط 23 وليس كما كان متوقعا المطالبة بالحد الاقصى المتمثل بالخط 29.
كما أن لبنان لم يتنصل من الموقف العام لـ”حزب الله” خلال المفاوضات، ولم يعمد الى انتقاد مواقفه سوى مرة وحيدة تحت ضغط الولايات المتحدة الأميركية فحسب. في هذه الاثناء، أقرّ نصر الله بهذا التكافل المتبادل، فكرر مرارا بأن “حزب الله” يعمل من أجل تعزيز المصلحة الوطنية اللبنانية بحسب ما تقرها مواقف الحكومة.
في اليوم الأخير له في منصبه، وصف رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون “مبادرة” حزب الله على أنها “مجدية”، لكنه في الوقت عينه امتنع عن الاعتراف بالتنسيق.
على عكس ذلك، فإن المدير العام للأمن العام اللبناني ورئيس الجانب اللبناني المحاور خلال المفاوضات البحرية عباس ابراهيم، أنكر بشكل حاسم بأن يكون الجانب اللبناني غير ذي فاعلية. وفي مقابلة أجراها ما بعد تقاعده، وصف نفسه بأنه يعمل يدا بيد مع “حزب الله” من اجل تحقيق مصالح لبنان الوطنية. وشرح أنه حين كان الجانب اللبناني يستشعر أي تردد اسرائيلي حيال المطالب اللبنانية، كان “حزب الله” يتمكن من التصرف بشكل عدواني بينما يمرر نصر الله تهديداته بالحرب عبر عبّاس الى آموس هوكستين، -المفاوض الاميركي الرئيسي- الذي يعمد حينها الى الضغط على اسرائيل لتقديم تنازل.
استمر الوضع على هذا النحو الى حين تم التوقيع على اتفاق الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، والذي تم الاحتفال به بشكل لم يلق الاستحقاق اللازم.
في 27 اكتوبر، 2022 ، وبين فترة واخرى كان “حزب الله” يرفض اعتبار ان القضية انتهت كليا.
بيد أنه وبحسب القيمة الظاهرية فإن “الصفقة الشاملة التي قدمها لبنان ظهرت جديرة بالاهتمام. في نهاية المطاف، تمت مطالبة اسرائيل بالتنازل عن بضع كيلومترات فحسب او اراض غير ذي صلة. في المقابل، من الممكن ان تتمكن من الحصول ليس فقط على وقف دائم لاطلاق النار عند الحدود الشمالية، بل التزام ناجز في تطبيق القرار 1701، ما يسمح لأكثر من 80 الف نازح من المواطنين الاسرائيليين بالعودة الآمنة الى منازلهم عبر ايجاد حل نهائي للتهديد الذي يشكله “حزب اله” على حياتهم.
إلا أن المظاهر خادعة، فإن لبنان عبر اعتراف المسؤولين الرسميين فيه، لن ينزع سلاح “حزب الله” البتة. وقد اعترف بو حبيب بذلك، معتبرا بأن الأمر “سيؤدي الى حرب اهلية والى تدمير البلد”.
وأوضح: “شخصيا، إذا كان لدينا خيار بين الحرب الأهلية والإقليمية، فيجب على لبنان أن يختار الحرب الإقليمية”.
كما رفض بو حبيب تقديم ضمانات بأن “حزب الله “سيقبل القيود اراديا. وقال بأن “حزب الله” يجب أن يقدم تنازلات للدولة اللبنانية” مردفا:” سوف نرى ما سيحدث”.
واكد بو حبيب انه “في النهاية فإن بيروت ببساطة قد لا تنجح”.
في ظل اندلاع حرب اشد تدميرا من أي حرب خاضها “حزب الله” وإسرائيل على الإطلاق، فإن المنطقة معلقة على “سيف داموكليس”. وقد يكون مغريا التمسك بهذه الجزرة الوهمية التي تقدمها الحكومة اللبنانية. قد لا يكون لبنان متطابقا كليا مع “حزب الله”، ولكنه من الصعب نكران بأن بيروت تسعى مجددا الى جني المكاسب عبر الافادة من العصا الحقيقية والخطرة التي يشهرها “حزب الله”.
*ديفيد داود هو زميل بارز في “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” ويركز على قضايا تخص “حزب الله” وإسرائيل ولبنان.