“مقالات مختارة”
كتبت سلوى فاضل
يروي الدكتور حسين أمير عبداللهيان، وهو وزير الخارجية الإيرانية منذ 2021، في كتابه الصادر عام 2023 عن “دار المحجّة البيضاء” تفاصيل التفاصيل عن الأزمة السورية التي بدأت عام 2011.
وللإشارة تسلّم عبداللهيان عدة مناصب تدرجيّة في الخارجية الإيرانية بدءًا من منصب المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى الإسلامي في الشؤون الدولية منذ عام 2016، ومستشارا سياسيا لوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، وأستاذا بكلية العلاقات الدولية بوزارة الخارجية، إضافة لكونه سياسي ودبلوماسي وأستاذ جامعي.
صمود النظام
لكن، بداية، لا بد من لفت النظر إلى العنوان وسبب اختياره والمقصد منه، حيث لم يتطرّق عبداللهيان إلى الأمر بتاتا. وقد يُفسره القارئ أن ثمة صبح جديد قد أطلّ على الشام (بالمعنى السياسي) بعد الأزمة الكبرى التي عاشها النظام والشعب والمحيط الإقليمي ككل.
قد يعتقد القارئ أن الكتاب مجرد سرد يومي لوقائع نقلها الإعلام في حينه، لكنه يكتشف أن عبداللهيان بما يُمثّل، في كافة مراحل تقلّبه في العمل الدبلوماسي، قد تناول كافة الأمور السياسية والأمنيّة والإستراتيجية المرتبطة بقرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الدفاع عن النظام السوري ليبقى واقفا على رجليه، وليبقى صامدا بوجه القوى الإقليمية والعربيّة والغربيّة التي أرادت محاربته والقضاء عليه.
العلاقات السورية – الإيرانية
تميّزت العلاقات السورية – الإيرانية على الدوام بالصفة الحسنة، ما خلا البرودة التي سادت خلال الحكم البهلوي الداعم لإسرائيل. وهي منذ استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي عام 1946 كانت حسنة. لدرجة أن وقوف سورية إلى جانب إيران خلال الحرب المفروضة من النظام العراقي عليها جاء طبيعيا، حيث وُلد منذ ذلك الحين تحالفهما الاستراتيجي.
فكانت طهران هي السند السياسي والعسكري والاستشاري والتمويني والاعلامي لدمشق منذ العام 2011 ولا تزال. وقد تكرّس التعاون مؤخرا بتوقيع رئيس الجمهورية الإيرانية إبراهيم رئيسي لاتفاقيات الإنماء والإعمار داخل سورية في مرحلة ما بعد النهوض والعودة إلى الحياة الطبيعية إقتصاديا بعد التعافي عسكريا، والتي تبلغ تكلفتها بحسب عبداللهيان (400 مليار دولار).
الصفة الرسميّة
هذه الصفة لـ”عبداللهيان” تعنيّ أن الكتاب هو الرواية الرسمية، وبالتالي فهو ينقل بعض من أسرار هذه الحرب التي واجهها “محور الممانعة”، الذي لم يأتِ عبداللهيان على ذكره كتعبير في الكتاب كله!. وبالتأكيد ترك الكثير من الأسرار لمراحل ما بعد التقاعد كما هي العادة الدبلوماسية.
الكتاب الذي أنجز عام 2020، يطرح تساؤلات عديدة أهمها حول كمية المعلومات السرية الواردة فيه ومستوى إفادة المهتم مما ورد فيه على مدى 340 صفحة. وهو يتألف من 3 أقسام، الأول مهم جدا، ويضم 70 عنوانا تم من خلاله مناقشة دوافع طهران في كل قرار اتخذته، إضافة إلى مواقف وخلفيات جميع المشاركين بالحرب على سورية. ويليه الثاني الذي يتطرّق إلى الجهود الدبلوماسية المرافقة للقرارات الإيرانية السياسية والعسكرية والأمنيّة والإغاثية، والثالث يتحدّث بشكل مُفصل عن الرجل الثالث في إيران، أي اللواء قاسم سليماني، ودوره في الحرب السورية، مع ملحق بالصور والوثائق لكافة المستندات المهمة والبارزة التي تصب في هذا الإطار.
القراءة ما بين السطور
هو كتاب مهم لمن يقرأ ما بين السطور، ولمن يود التبّحر بالعملية العسكرية التي أخذت إيران على عاتقها مواجهتها ومحاربتها واعتبارها معركة موّجهة ضد النظام الإيراني، وأن سورية هي خط الدفاع الأول عن طهران، وكل ما هو واقع ضمن خط المواجهة للغرب ولإسرائيل وللأنظمة العربية.
بعد تسلّمه منصب معاون وزير الخارجية لمدة 5 سنوات ونصف، تسلّم الخارجية بعد تمرّسه بالملفين العربي والشرق أوسطي، وخاصة بالعلاقة مع السعودية في مرحلة ما سُميّ بـ”الربيع العربي” أو ما أطلق عليه “الصحوة الإسلامية”، بعد تسلّم الإسلاميين الحكم في كلّ من تونس ومصر، وتحرّك البحرين واليمن. ورغم تحرّك الساحات في عدد من العواصم العربية-الإسلامية فإن التحرك في سورية بالنسبة لطهران كان له طعم آخر.
ويُبرر عبداللهيان كافة أنواع الدعم وكلّ أشكال التحرك في مصر وتونس واليمن والبحرين وليبيا ولبنان… لكنه يفصل الساحة السورية عنهم كليّا، ولا يأتي على ذكر الوضع الداخلي في إيران.
فالساحة السورية مهمة جدا لإيران لكونها لصيقة بالكيان الغاصب، وتُشكل مصدر راحة له في حال تغيّر النظام “المُمانع” الذي هو دعامة لطهران ولحزب الله-لبنان، ولقوى المقاومة في فلسطين.
بعد أن يُفصّل شكل العلاقة مع مصر بعد تسلّم محمد مرسي، ترى عبداللهيان يتحدث عن كل دولة من الدول وصولا إلى “حماس” وموقفها المُستجد من النظام السوري بعيد ثورة 2011، وانقلابها على بشّار الأسد تماشيا مع سياسة الإخوان المسلمين الذين انتصروا في تونس ومصر، مما فتح الباب لهم لإعادة سيناريو المواجهة بين إخوان سورية في ثمانينيات القرن الماضي والرئيس حافظ الأسد.
ويُعتبر عبداللهيان أن فتح الجبهة في سورية تحت عنوان “الربيع العربي” ما هو إلا عبارة عن قلق سعودي من تحركات داخلية تتغذّى من الأجواء العامة، اضافة إلى قلق أميركي على إسرائيل بعد انتصار الثوّار في عدد من الدول المحيطة وارتباطهم بالمقاومة في غزة.
علما أن الاعلام الممانع أشاد بالتحركات في الساحات ما بعد العام 2011 في مصر وتونس وليبيا وغيرها، لكنه عندما وصل إلى سورية اختلف الكلام. فلم يجد أيّ مبرر للسوريين للتحرك على الصعيد الداخلي، خاصّة أن أي تغيير قد يقلب موازين القوى.
فالوضع في سورية لا يختلف عن وضع بقية الدول العربية التي الحكم فيها عائلي وراثي ديكتاتوري غير ديموقراطي.. فحزب البعث يسيطر على الحكم في سورية كحزب أوحد ضمن عائلة الأسد فقط، ولا يتميّز عن حكم البحرين أو السعودية أو تونس أو مصر أو ليبيا أو المغرب بشيئ.
هذا التغييب الكليّ للأسباب الدافعة وراء التحرك وربط التحركات بالإرادة الخارجية، هو توصيف غير واقعي، وإن كان قد استغل عدد من الدول العربية كقطر والإمارات والسعودية وواشنطن، هذا الأمر، ليس حبّا بالحرية والديموقراطية، بل سعيّا لتخريب بلد نظامه مُعادٍ لهم ومُخالف لسياستهم، وشعبه مناهض لإسرائيل.
حاولت طهران بكل قواها الدبلوماسية، وقد نجحت، في اقناع روسيا الدخول بالحرب دفاعا عن سورية من باب مصالحها، إضافة إلى ادخال المقاومة الإسلامية بعد أكثر من 3 سنوات إلى الشام تحت عنوان “الدفاع عن المُقدسات” كمُساند عسكري قوي.
كما أشركت طهران الدول الغربية بكل ما كشفته عن مشاركات للمتطرفين الإرهابيين من خارج سورية عبر تركيا، وبتمويل من قطر وبدعم ديني من رجال دين بارزين كالشيخ يوسف القرضاوي، وإعلامي كقناة “الجزيرة”، وماليّ من السعودية والإمارات.
يرسم الصورة التفصيلية للوضع بدءًا من اقتراب الإرهابيين من الحدود السورية مرورا بالخوف من سقوط دمشق وصولا إلى دور الأكراد والإسلاميين في العراق نحو الحدود السورية، مع الاتهام المباشر للمُنظمات الدولية بتمرير الأسلحة والأغذية للإرهابيين.
بالعودة إلى الواقع الدبلوماسي، لم تترك طهران وخارجيتها التي عملت كخلية نحل خطوة إلاّ وقامت به، فكانت “الأم الحنون” حيث وضعت ثقلها في الميزان السوري، كونها اعتبرت أن خسارة المعركة خسارة لكل ما يمّت لها بصلة في المنطقة، ونصر لكلّ معاد لها، وإن كانت المواجهة كبيرة ومن كل الجهات في ظلّ تسيّد إعلام عربي- خليجي- غربي متكاتف ضدها، وحصار غربي رغم المفاوضات مع أوروبا.
والحرب الكبرى تمثّلت باختلاق الغرب لـ”داعش” ذي اللقب الإسلامي البشع، فكان على دبلوماسيّها تقديم وجه الإسلام الحضاري.
ولم ينحصر الأمر بسورية، بل تحركت مجموعات إرهابية في لبنان لمحاصرة حزب الله من خلال قطع طريق الجنوب وايقاع التفجيرات بين المنازل.
تيّقنت طهران أن سورية تعاني من عدم تداول السلطة ومن الديكتاتورية في نظامها السياسي، لذا سعت من أجل اقناع الأسد ببعض التعديلات الداخلية، وبأهمية خوض الانتخابات النيابية حيث درّبت فريقا من الإستشاريين السوريين لأجل التغيير الداخلي والمعارضة المُحقة التي اجتمعت في طهران مرات عدة.
علما أنّ كل من السعودية وقطر وتركيا حاولوا اقناع طهران بالتخلّي عن بشّار الأسد وايقاف دعمها له، لكنهم فشلوا، فارتفع حجم تدّفق الإرهابيين إلى سورية عبر تركيا. ولم تكن المعارضة السورية موّحدة، لذا فشل الحوار الرسمي معها بطهران والأستانة وغيرهما من العواصم.
الإستشاريون الأمنيون والعسكريون
في المراحل التالية للحرب على سورية اتكلت طهران على ما يُسمى “الإستشاريون الأمنيون والعسكريون”، إضافة إلى عناصر حزب الله والدعم الروسي الجوي والقواعد الضخمة على طول الساحل السوري.
فكانت الأزمة السورية بالنسبة لطهران مسألة جيواستراتيجية وجيوسياسية، وقد استطاعت اقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهذه الرؤية كونها ترتبط بأمن المنطقة وبالحلفاء والأمن القومي للجمهورية الإسلامية في ظلّ التجربة الأميركية في أفغانستان وتسرّب إسلاميين متطرفين من كازاخستان إلى الحدود الروسية.
وما شغل بال طهران هو العلاقة بين جبهة النصرة والكيان الغاصب والبنود المشروطة لمساندتهم. فالأسباب الشرطيّة للتدخل والدعم الإيرانيين للنظام في سورية أكان هو السبب أم العكس، بمعنى أن ايران تدخلت لحماية أراضي إيران أم لحماية النظام السوري؟ والسؤال الذي يحاول العديد من المراقبين الإجابة عنه هو: هل إستُهدفت سورية بسبب دعمها للمقاومة؟ أم أنه لولا المقاومة لما صمد نظام الأسد؟
تطرّق عبداللهيان في كتابه إلى دور الأنظمة العربية التي بادرت إلى طرد سورية من الجامعة العربية، والفضيحة الكبرى أنها حاولت محاربة الأسد بما يعاني شعبها منه، أيّ التطرف والديكتاتورية والإرهاب الذي يخشى الغرب انتقاله إلى أراضيه، فقد تضخّم المارد الإسلامي لدرجة مُخيفة بالنسبة له. واليوم يعمد محمد بن سلمان إلى كف أيديهم عن نظامه بسبب تحويلهم المجتمع السعودي إلى بؤرة تشدد رهيبة. كما فرّخ الإسلاميون في لبنان وسورية والأردن بدرجة مَهُولة عبر تبرعات وهابيّة سلفيّة لمحاربة “الإخونجية” و”الشيعية” السياسية.
ويستعمل عبداللهيان تعبير “الحركات الإفراطيّة” للدلالة على الحركات المُتطرفة، ويتمّيز الكتاب بصمته عن بعض التفاصيل، وتفصيله في بعض الملفات.
التدّخل الروسي
انتظر الإيرانيون العام 2015 ليسعوا دبلوماسيا في سبيل اقناع الدولة الروسية بالدخول على خط الأزمة السورية بعد اقتراب الخطر من العاصمة دمشق رغم توفيرها الإستشاريين العسكريين والمقاتلين الشيعة من كل من أفغانستان والعراق ولبنان واليمن تحت عنوان حماية المُقدسات والدفاع عن التشيّع ضد الإرهاب المتطرف.
فكانت الحملة الدبلوماسية بقيادة عبدالليهان، وكان الموقف الروسي مُنصّب بالحفاظ على النظام، وليس القيادة، لكن الإيرانيون كانوا يؤمنون بالعكس، حتى توصلوا لإقناعهم بوجهة نظرهم.
وأخيرا، يكشف عبداللهيان عن ضعف في مستوى ذكاء الأميركيين رغم تقدّمهم على مستوى التخطيط، وضعفهم على مستوى الواقع، كونهم لا يعرفون المنطقة، إضافة إلى الكراهية التي يكنّها العرب للأميركيين، علما أن الأميركي قويّ بسلاحه التقني، أما المسلم فقويّ بإيمانه بقضيته.
وما جرى لدى طهران من استماتة للدفاع عن نظام بشّار الأسد ما هو إلا رد جميل له نظرا لوقوف سورية إلى جانب الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الحرب المفروضة عليها من قبل العرب (1980_1988).
كفرّيا والفوعة والسارين
حُوصرت هاتان البلدتان 800 يوماً لكونهما بلدتين شيعيتين، ووضعت إيران كل ثقلها لعدم دخول الإرهابيين إليهما، إضافة إلى مدينتي نبّل والزهراء.
وتطرّق إلى اختلاق الغرب لقضية استعمال النظام السوري لغاز السارين من أجل اسقاطه، لكن المُخطط فشل. وارتّدت الأزمة على أنقرة حيث جاء دعم الأميركيين للانقلاب ضد رجب إردوغان سهّل التوافق السوري – التركي فيما بعد.
فلسطين هي السبب
يختم عبداللهيان كلامه بجملة تلّخص كل ما جرى في سورية منذ العام 2011 وحتى اليوم وهي “لو كنّا خلال هذه السنوات لامبالين تجاه أحداث سورية، لكان سقوط النظام السياسي فيها محتوما”. ويبرر ذلك بأن حدوده مع العراق هي 1400 كيلومترا، لكن لا حدود مشتركة مع سورية، لكنها المنفس الكبير والوحيد والأهم لحزب الله الشريك القوي على حدود فلسطين المحتلة. من هنا حضرت إيران بكل كيانها إلى جانب سورية ضد الحرب الإرهابية الكونية عليها.