مقالات مختارة
زيد بنيامين
فوكس نيوز رقمٌ صعب في الاعلام الاميركي. يعود ذلك الى قدرتها على الحفاظ على قاعدة شعبية واسعة تميل بقوة نحو اليمين، مستخدمة مزيجًا من برامج الرأي والقراءة السريعة لتوجهات السوق وقدرتها على ترجمة هذه القراءة لافكار مقبولة لدى جمهور المشاهدين وهي امور لا تتوفر لدى منافساتها من الشبكات الاخبارية.
جزء من قوة فوكس نيوز هو برامجها الاخبارية ذات الطبيعة المفتوحة التي تكون طيعة في تمرير الافكار الجديدة التدريجية بعيدة عن القوالب النمطية الاخبارية حيث يجلس المذيع عادة خلف القارئ الالي ويقرأ الاخبار على الجمهور المشبع اصلا بالخبر وتداعياته من خلال تنبيهات هاتفه النقال.
وهذا ما جعل برنامج تاكر كارلسون، والبرنامج الهجين بين التلفزيون والبودكاست (The Five) على فوكس الاكثر متابعة والاكثر اثارة للقلق لدى البيت الابيض خصوصا عندما يكون هذا البيت ديمقراطيًا.
رحلة تاكر كارلسون في عالم الصحافة تكشف عن اسباب نجاح فوكس نيوز وفشل ابرز منافساتها ومن بينها CNN.
بدأ كارلسون رحلته في الصحافة اليمينية المكتوبة وهذا جعله مذيعًا متمكنًا في التعامل مع المادة المطروحة ومع الجمهور بثقة، فالعمق المعرفي يمنح (المضيف)، كما يحب الاعلام الاميركي ان يسمي النجم التلفزيوني، قدرة هائلة على التشكيل وتجاوز المطبات ويريح المشاهد الذي يبحث عن شخص يتوافق مع رأيه او حتى يخالفه في الرأي بناءً على الحقائق.
اكتشفته CNN عام 2000 لتضمه الى صفوفها قبل ان تثبت الشبكة انها غير قادرة على تحمل برامج الرأي الاستقطابية وتنهي بذلك رحلتها معه عام 2005 وينتقل الى قناة MSNBC الاكثر ليبرالية من CNN وهو الامر الذي جعل رحلته مع القناة اقصر هناك.
كانت فوكس نيوز مكان تاكر الطبيعي لينضم اليها محللًا عام 2009 بعد ان قررت القناة المضي قدما في برامجها السياسية القائمة على الشخصيات (ذات العمق المعرفي القادر على التأثير) او ما يعرف اليوم بلغة السوشال ميديا (المؤثرون السياسيون).
بفضل تاكر (وصحبه الاخرين في الشبكة) اصبحت فوكس نيوز اقوى وهي في المعارضة، وحينما اعلنت القناة فجاة فوز بايدن المبكر في ولاية اريزونا المتأرجحة قيل ان مالك القناة روبرت ميردوخ لا يهمه غضب ترمب من هذا الاعلان بقدر ما يهمه ان يكون في المعارضة مرة ثانية ليحقق اهداف الشبكة المالية.
بالطبع كان تاكر قد بنى نجوميته على نقاط حديث تستند على حقائق قد يكون مختلف عليها بين الحزبين أو حتى على نقاط كثيرة للجدل مثل حجم دور الحكومة في حياة الشعب الاميركي أو الحروب الثقافية في التعليم أو حقوق الاقليات أو حجم الضرائب أو ربما غباء البيروقراطيين في واشنطن الذين يكونون جزءا من الة سياسية لامة عظيمة لا يفهمونها وهذا ما تكشفه عناوين ثلاث كتب نشرها حتى الان ولعل ابرزها (سفينة الاغبياء)، لكنه مع ترمب ذهب بعيدًا متبنيًا فكرة تزوير الانتخابات الاميركية وغيرها من نظريات المؤامرة التي كلفت الشبكة تسوية مالية تاريخية لكنها لم تتسبب في خسارتها لجمهورها.
لقد غادر كارلسون فوكس نيوز بعد ان توصلت الى تسوية مالية قيمتها نحو 790 مليون دولار مع شركة “دومينيون” الأميركية المصنّعة لآلات التصويت بعد ان اتهمت القناة بالترويج لمزاعم صادرة عن دونالد ترمب، تفيد بأنّ آلاتها استُخدمت او قابلة للتلاعب من طرف خارجي من اجل تزوير انتخابات 2020 الرئاسية التي خسر فيها ترمب أمام جو بايدن.
توقيت المغادرة يأتي في ظل حقائق متغيرة على الارض، فالقناة لا تملك بديلا يحل محل نجومية كارلسون وشبابيته التي تجعله من الجيل الجمهوري الجديد الساعي للتغيير، وان كانت اخلاقيا ملزمة برحيله لانها خسرت القضية، كما ان مغادرته تأتي في (عقد الفوضى) الذي يزداد فيه الاعتماد على المؤثرين السياسيين في تمرير الاخبار والمزاعم والبيانات وهذا ما نشهده مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اصبح قصره خلال حرب اوكرانيا يتواصل بانتظام مع مراسلي القنوات الروسية الذين تحولوا الى قنوات اخبارية ناقلة على التلغرام بدلا عن القنوات التلفزيونية التقليدية التي منعت او فقدت جمهورها.
كما تأتي مغادرته في وقت بدأت فيه القنوات الاخبارية الاميركية تطبق فعليا نموذج فوكس نيوز في برامج الرأي السياسي وبرامج الترفيه السياسي التي كان كارلسون من روادها حيث من المتوقع ان تعلن CNN عن برامج ونجوم جدد ليكتمل عقد خطتها البرامجية الجديدة مع نهاية الخريف المقبل.
جزء من قوة طبقة (صناع الرأي) او (المؤثرين السياسيين) مثل كارلسون هو قدرته على التفاعل مع الجمهور الذي يعرف عنه تفاصيل كثيرة عن مواقفه وحياته وهو امر تفتقده المؤسسات الاعلامية التقليدية الجامدة في حضورها على مواقع التواصل الاجتماعي، كما ان عمره القريب من عمر جمهوره، وتمرسه في الصحافة المكتوبة، وادائه المبهر يساهمان في هذا القبول.. انه (brand) او علامة تجارية لوحده وهذا ما يدفع الغرب لدراسة (كيفية إدارة المواهب) في المؤسسات الاعلامية الى جانب دراسة ادارة المؤسسات (المشاريع) بالطرق التقليدية المعروفة.
في السابق كانت هياكل الاحزاب التقليدية هي التي تروج لرسائل المرشحين السياسية وتشجع الاخرين على جمع الاموال وحضور التجمعات الانتخابية لهم وهي الامور الثلاثة الاساسية التي يقوم بها اي حزب في العالم (جمع الاموال، نشر الرسالة، تحريك القاعدة الانتخابية) لكن الان يمكن لاشخاص مثل تاكر كارلسون او دونالد ترمب القيام بذلك، وفي هذا السياق يمكن للناس فهم اهمية تاكر كارلسون وغيره من المؤثرين السياسيين الذين مازالوا يعيشون في بداية عصرهم، ولا يبدو ان الذكاء الاصطناعي يشكل تهديدا لهم، لاننا في النهاية اصحاب مشاعر، ونريد من اصحاب مشاعر اخرين مشاركتنا ارائنا ونشرها.
يمكن القول إن فوكس فقدت حزبًا مهمًا وليس تاكر فحسب. ومن يجب ان يثبت نفسه في عالم متغير في القادم من الايام هي فوكس لا تاكر.