مقالات مختارة
مجلة الامن العام
مارلين خليفة
انعقد مؤتمر ميونيخ للامن في دورته التاسعة والخمسين بين 17 و19 شباط الفائت، جامعا كما في كل سنة كبار صناع القرار في العالم، مناقشا ابرز القضايا الديبلوماسية المطروحة، ولعل الازمة الاوكرانية التي دخلت عامها الثاني تصلح لتكون العنوان الرئيسي لمؤتمر 2023
جمع المؤتمر اكثر من 450 شخصية من صناع القرار الرفيعي المستوى وقادة الرأي البارزين ورؤساء الدول وقادة الاجهزة الامنية الدوليين، من بينهم المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم الذي عقد سلسلة اجتماعات مع نظرائه من رؤساء الاجهزة الامنية المشاركين، الى قادة المنظمات الدولية وغير الحكومية، وكذلك قادة من قطاع الاعمال والاعلام والبحوث والمجتمع المدني.
كما هي العادة في كل عام، ينعقد المؤتمر في فندق “بايريشر هوف” الواقع وسط ميونيخ لمدة 3 ايام، فشكل هذا العام ايضا منصة فريدة للنقاشات الرفيعة المستوى حول اهم التحديات السياسية الخارجية والامنية في هذه الحقبة.
تكمن اهمية مؤتمر ميونيخ بانه غير رسمي، يحرر القادة من بروتوكولات الديبلوماسية، ويعطيهم حرية الحركة ومرونتها لعقد اجتماعات ثنائية، كما يشكل فرصة للمعنيين بالامن على مستوى الخبراء لتبادل الرأي والمشورة. يذكر ان مؤتمر ميونيخ لا يصدر قرارات، بقدر ما يخرج بتنبيهات او بتوصيات لحل مشكلات الامن الدولي.
رأب “خطوط الصدع العالمية”، كان هذا العنوان محور المناقشات خلال مؤتمر ميونيخ للامن لهذا العام. ومن وجهة نظر كريستوف هيوسغن، رئيس المؤتمر – مستشار السياسة الخارجية السابق للمستشارة الالمانية السابقة انجيلا ميركل وسفير المانيا السابق لدى الامم المتحدة- فان التهديد الذي يواجه اوروبا بشكل مباشر هو سبب لمضاعفة الحوار.
انعقد مؤتمر ميونيخ للمرة الاولى في العام 1963، وكان يسمى انذاك بـ”اللقاء الدولي لعلوم الدفاع”، اسسه الباحث الالماني ايفالد فون كلايست، وهو احد مؤيدي المقاومة ضد النازية وهتلر في الرايخ الثالث، وكذلك كان من المؤسسين الفيزيائي ادوارد تلر، ولاحقا صار اسم المؤتمر “مؤتمر ميونيخ للامن”.
ينعقد المؤتمر في مدينة ميونيخ عاصمة ولاية بافاريا الالمانية، وهي اكبر مدنها مساحة وسكانا واهم مراكزها الصناعية والسياحية وتقع المدينة جنوبي المانيا على ضفاف نهر ايسار قرب الحدود مع النمسا.
تكمن اهمية المؤتمر في كونه منصة جامعة على مستوى العالم تطرح خلاله ابرز القضايا الامنية، ويمنح الفاعلين من انحاء العالم فرصة للتواصل في شكل غير رسمي على مدار ثلاثة ايام. وفي المعلومات المتداولة ان جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الاميركية، وضعت مؤتمر ميونيخ للامن في مرتبة اهم مؤتمر من نوعه عالميا.
خلال العقود الاولى من عمر المؤتمر كان الحضور محدودا، وكانت النقاشات تتركز حول السياسات الغربية ضمن الاطار الشامل لمواجهات الحرب الباردة.
بعد انتهاء الحرب الباردة، سعى مؤسسو المؤتمر الى توسيعه ليتجاوز الاطار الغربي الضيق، فاصبح اكثر انفتاحا على مشاركين من دول اوروبا الوسطى والشرقية وكذلك على اخرين من دول ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، وكانت فلسفتهم حينئذ ان على المؤتمر، شأنه في ذلك شأن حلف شمال الاطلسي، ان يتخطى الاطار الضيق الذي رسمته الحرب الباردة، وان يتوسع نحو اطراف اخرى اذا ما اريد له ان يأخذ مكانة ودورا اكبر على مستوى العالم.
اليوم، ومع زيادة وتنوع اللاعبين المهيمنين على مستوى العالم واتساع دائرة التحديات، زاد عدد المشاركين وخصوصا من القيادات السياسية والامنية من القوى الصاعدة في الصين والبرازيل والهند، وحول مكانة ايران في الاقليم وطموحاتها النووية وسط حضور قوي لقادة الشرق الاوسط.
هيمنت الحرب الروسية الاوكرانية على نقاشات المؤتمر، في هذا السياق سيستمر الدعم الالماني والفرنسي للمجهود الحربي الاوكراني بحسب فاعليات المؤتمر. ووقع خلاف واضح مع المستشار الالماني اولاف شولتس، بعد ان دعا الرئيس الجديد لمؤتمر ميونيخ كريستوف هويسغن المانيا الى تسليم الطائرات المقاتلة الى اوكرانيا في تقاطع مع البنتاغون الاميركي الذي ارسل 31 دبابة من نوع ابرامز الى اوكرانيا مطلع هذا العام.
وفي حين صدر اعلان علني عن “الوحدة الغربية”، ليس من اجابة واضحة بعد حول كيفية انتهاء الحرب. وفّر مؤتمر ميونيخ لهذا العام بوتقة لتدارس قضايا جديدة من التوترات العالمية: يأتي الاجتماع بعد ان اسقطت الطائرات الاميركية بالون تجسس صينيا مزعوما في المجال الجوي لاميركا الشمالية في بداية شباط 2022. وليس معروفا ما اذا كانت المحادثات التي عقدها وزير الخارجية الصيني وانغ يي ونظيره الاميركي انتوني بلينكن على هامش المؤتمر، قد ادت الى نزع فتيل بعض التوتر الناجم عن قضية البالون.
تميز مؤتمر ميونخ 2023 بحضور اميركي اكثر من السنوات السابقة، وهو محاولة من الولايات المتحدة وادارة بايدن لتوحيد صفوف الناتو ضد روسيا.
حفز مؤتمر ميونيخ في تقريره لهذا العام النقاش حول كيفية توسيع وتقوية الائتلاف الذي يدافع عن رؤية النظام الليبرالي القائم على القواعد الرأسمالية. كما تركز نسخة العام 2023 على مختلف المجالات التي تدور فيها المنافسة على النظام الدولي المستقبلي حاليا: حقوق الانسان وحوكمة البنى التحتية العالمية والتنمية وامن الطاقة والاستقرار النووي.
وبحسب تقرير للمركز الاوروبي للدراسات، تشكل الرهانات الرئيسية في مؤتمر ميونيخ حول الامن على الاتي:
- ملف حقوق الانسان: يجد منظمو المؤتمر ان حقوق الانسان اصبحت موضع نزاع، فمن جهة تجادل الصين بأن حاجات التنمية في اي بلد قد تضفي الشرعية على القيود المفروضة على الحقوق المدنية والسياسية، في حين تسلط روسيا الضوء على ان القيم التقليدية قد تبرر انكار حقوق الاقليات. من جهة اخرى، ازداد الضغط على الحقوق المدنية والسياسية بشكل كبير في المجتمعات الديموقراطية نفسها مع صعود الشعبويين غير الليبراليين.
- ملف ازمة اوكرانيا:قال مدير المؤتمر كريستوف هويسغن خلال مؤتمر صحافي ان المؤتمر يواجه بعد سنة على ارتكاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “انتهاكا للحضارة” سؤالا لمعرفة “كيف يمكن احترام نظام عالمي مبني على قواعد محددة”. وتساءل: “في المستقبل هل سيتوافر نظام تسيطر عليه قوة القانون او نظام تسوده شريعة الغاب؟”.
- ملف البنى التحتية العالمية: من منطلق ان البنية التحتية للتجارة العالمية القائمة على قواعد منظمة التجارة العالمية وقوى السوق والاعتماد المتبادل، آخذة في التاكل بشكل متزايد مع لجوء الصين والولايات المتحدة والهند وحتى المدافع القوي عنها الاتحاد الاوروبي الى الحمائية وتحقيق قدر اكبر من الاكتفاء الذاتي، فان الفكرة السائدة هي ان “القواعد القديمة تموت ولكن لا توجد رؤية جديدة في الافق”.
- ملف النظام الدولي الجديد: يجد المراقبون الغربيون ان رغبة الصين وروسيا في اعادة كتابة النظام الدولي رفعت الاستخدام الاستراتيجي للتعاون الانمائي الى مستوى آخر. اصبحت الصحة والامن الغذائي وكذلك تمويل المناخ مجالات سياسية رئيسية حيث تتشابك الديناميات الجيوسياسية والروايات المتنافسة. وتتحدى الصين بشكل خاص النهج الاميركي والاوروبي في التعامل مع التعاون الانمائي مع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، كما تشعر الولايات المتحدة واوروبا بالقلق من توسيع روسيا نفوذها في مناطق اخرى من العالم وخصوصا في القارة الافريقية، مما يؤدي في كثير من الاحيان الى عدم الاستقرار في سياقات هشة. وبينما تحاول القوى المتنافسة تعزيز علاقاتها التجارية والاستراتيجية مع دول “الجنوب العالمي” هناك خطر من ان تنجر تلك البلدان مرة اخرى الى منافسة القوى العظمى. هذا الواقع يفتح شهية بلدان “الجنوب” للضغط من اجل نظام عالمي اكثر انصافا.
- ملف امن الطاقة: تراجعت التصورات عن روسيا كشريك موثوق به في مجال الطاقة، وسوف تنقطع علاقات الطاقة بين روسيا واوروبا بشكل دائم. النتيجة هي تعديل كبير لتدفقات تجارة الطاقة الدولية وهو ما يعكس على نحو متزايد خطوط الصدع الجيوسياسية بدلا من منطق السوق، ومن جهة اخرى زيادة الاعتماد على الطاقة الخضراء.
- ملف النظام النووي:حيث يواجه النظام النووي القائم تحديات مختلفة: سياسة حافة الهاوية النووية من قبل روسيا وكوريا الشمالية، والتوسع النووي من قبل الصين، ومخاطر الانتشار الافقي المختلفة. ان الضمانات التي توفرها معاهدات تحديد الاسلحة آخذة في التآكل باطراد، بالتالي يحتاج النظام النووي الى مراجعة لكي يحظى مرة اخرى بالدعم الواسع بين المجتمع الدولي اللازم لضمان الاستقرار النووي الحد من التسلح.
- اعادة التركيز على الامن الاوروبي: تسببت الحرب الروسية ضد اوكرانيا في اعادة تركيز مؤتمر ميونيخ على النظام الامني في اوروبا، الذي يحتاج الان الى مراجعته بالكامل. وسوف يتطلب هذا كتابة قواعد جديدة واصلاح المؤسسات، ولكن ايضا اعادة التفكير في اداة الدفاع الاوروبية بالكامل في ضوء التهديدات الجديدة او التي لم يتم اكتشافها من قبل.
بعد عام مما اسماه “قطيعة” الغرب مع موسكو، جذب رئيس المؤتمر هويسغن الانتباه الى اجتماع ميونيخ من خلال عدم دعوة سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي والمخضرم في مؤتمر الامن. تجدر الاشارة الى غياب اي مسؤولين روس هذا العام اذ لم تتم دعوتهم، اما في العام الماضي فقد اختاروا عدم الحضور. فيما حضر قادة المعارضة الروسية وفي مقدمهم غاري كاسباروف وميخائيل خودوركوفسكي.
في السياق عينه، ومع تلاشي الامال في التوصل الى اتفاق نووي ايراني واستمرار الاحتجاجات في ايران، لم تتم دعوة اي ممثلين رسميين، بل حضر ممثلون للمعارضة يتحدثون في المؤتمر منهم رضا بهلوي، نجل آخر شاه لايران.