البوصلة
مارلين خليفة
@marlenekhalife
كشفت ازمة “عشاء السفارة السويسرية” الذي كان مزمعا اليوم الثلاثاء وقد الغي بسبب الاستنفار السياسي المعارض لأي حوار قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي فصلا جديدا من العلاقة السعودية اللبنانية المتأرجحة. عكفت المملكة العربية السعودية وتحديدا منذ العام 2015، ثم في العام 2017 إثر نشوء الازمة الكبرى بعد احتجاز رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في الرياض على القول أنها انسحبت من لبنان.
وكان الناطقون اللبنانيون بإسم السعودية، وهم “بالأطنان” يسعون الى ترسيخ هذه السردية: تارة بالقول بأن الجيل السعودي الشاب الحاكم منذ العام 2015 لا يعرف لبنان وليس مهتما به، وطورا أن ولي العهد الشاب ورئيس الوزراء الحالي الامير محمد بن سلمان من عبد العزيز لا يعرف لبنان ايضا وليس مهتما به ويعتبره أرضا ايرانية محتلة، وليس لبنان بالنسبة اليه إلا ورقة مقايضة مع اليمن وهو الحديقة الخلفية للسعودية.
بلغت التحليلات “الاستراتيجية” حدّ القول أن السعودية عندما رسّمت الخطوط الجديدة لسياستها الخارجية مع فريق ولي العهد ارستها على المصالح الاستراتيجية وليس على العواطف، وجعلتها ترتكز الى المكاسب التي تحظى بها من علاقتها بأية دولة، وهذا تحديدا ما يحول دون اعادة وصل علاقتها السابقة مع لبنان، وهذا الامر صحيح. ادركت الرياض متأخرة بأنها استثمرت في طبقة سياسية لبنانية فاسدة، لم تقدم لها لعقود سوى كلام الطاعة المعسول، مستفيدة من كرمها ومحبتها البنوية للبنان والتي لم تنتظر منه اي مكسب بل اكتفت بالعطاء اللامحدود وغير المشروط، وحين دقّت ساعة الحقيقة إثر وقوع الشرخ السعودي الايراني وتهديد طهران للاراضي السعودية وقصف اراضيها وشركتها الام “ارامكو” من قبل الحوثيين الموالين لايران في اليمن، وقفت هذه الطبقة متفرجة، بل اكثر من ذلك اصطفّ لبنان الرسمي مرارا خارج الاجماع العربي وضد السعودية واحد الامثلة وقوفه نائيا بنفسه عن قرار حرق القنصلية السعودية في مشهد في العام 2016.
طالما آزرت السعودية لبنان تاريخيا، وانهت عبر اتفاق الطائف في العام 1989 حربا اهلية شرسة استمرت منذ العام 1975، وأرست توازنا مقبولا من الاطراف اللبنانيين الفاعلين آنذاك، برعاية من الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي قضى بانفجار استهدفه في 14 شباط 2005.
بعد اندلاع حرب اليمن في العام 2015، وإثر المواقف السياسية المتكررة للبنان في المحافل الدبلوماسية والمناقضة لمواقف السعودية او اللامبالية بأمنها القومي في افضل الاحوال، أظهرت السعودية غضبها بشكل مباشر، انسحبت من تمويل أية مؤسسات اعلامية وحتى انسانية، اوقفت اي دعم للدولة اللبنانية، وقررت منذ عام أن يقتصر دورها على المساعدات الاغاثية، وقد جاءت مبادرتها مع فرنسا كنوع من “رفع العتب” والاحراج امام المجتمع الدولي وامام اللبنانيين انفسهم الذين ما فتئوا يطالبون المملكة بمعاملة “عاطفية” كما درجت سابقا.
لكن الرياح لم تجر بما تشتهي سفن اللبنانيين الرافضين لأية اصلاحات بنيوية تعيد الثقة الاستثمارية للبنان سواء بالاقتصاد او بالسياسة، وهذا بالتحديد لا يتلاءم مع توجهات المملكة التنموية التي تجسدها رؤية 2030، والقرار السياسي السعودي الاستراتيجي بالتعامل بدبلوماسية المصالح، وهذا ما اثبتته مع دول كبرى مثل كندا ومع حلفيتها العظمى وهي الولايات المتحدة الاميركية، بعد قرار خفض انتاج اوبك بلاس بقرار سعودي بمستوى مليوني ونصف برميل يوميا ابتداء من تشرين الثاني المقبل، بسبب عدم التجاوب الاميركي مع مصالحها، سواء في استمرار الدعم الاميركي لايران، وسعيها لاتفاق نووي، ورفع اليد عن مبالغ طائلة لايران، وغض الطرف عن سياساتها المواجهة للخليج وتحديدا للسعودية ورفضها حتى الدفاع عن السعودية في خضم القصف الصاروخي الحوثي على اراضيها.
بالرغم من كل ما تقدّم، كشفت المحاولة السويسرية التي اعتقد بأنها انبثقت من حسن نوايا يهدف الى مساعدة لبنان والقيام بوساطة حميدة بين اللبنانيين على عادة سويسرا، كشفت عمق التعلق السعودي بلبنان والمصالح السعودية المتجذرة في هذا البلد الصغير، فكانت الحركة الدبلوماسية الساخطة وكأنها صحوة سعودية تنبهت فجأة الى أن البلد الصغير قد “يطير” من يديها نهائيا. هكذا استنفر سفيرها الذي بات مخضرما في الملف اللبناني وليد البخاري، وجرّد حملاته عبر اصدقائه الكثر من الاعلاميين والصحافيين قبل فترة من الاعلان عن العشاء، ثم ارفعت وتيرة الضغط عبر الحلفاء السياسيين وصولا الى نسف العشاء تمهيدا لنسف مرتمر النقاشات الذي كان موعودا في جنيف. فقد اشتمّت السعودية محاولة اوروبية بغطاء سويسري لارساء عقد اجتماعي جديد يكون انقلابا على الطائف، أي على النظام السياسي الذي باركته في العام 1989 وصار دستورا للبنان تمهيدا لاخراجها من المعادلة السياسية نهائيا.
بغض النظر عن صوابية الطرح السويسري وتوقيته في لحظة الاستحقاقات المفصلية قبيل اسبوعين من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية وعلى ابواب فراغ منتظر وحكومة مبتورة بفاعليتها، فإن الاستنفار السعودي كشف في لحظة سياسية حرجة مدى تعلق المملكة بلبنان، ونسف سردية أن لبنان “لا يعني لنا شيئا” والتي عكف على تردادها لبنانيون وسعوديون على حدّ سواء.
بلى، المملكة مهتمة بلبنان، البلد النفطي بعد اعوام، وجار سوريا، والبوابة المشرعة على الخليج بحسناتها وسيئاتها، والبلد الذي ينتظر اعادة مرفئه الحيوي الى الحياة، ومحط انظار الدول الكبرى واطماعها وصراعاتها، ومركز اجهزة الاستخبارات العالمية التي كانت ولا تزال ترعى فيه المؤامرات الاقليمية والدولية، وبلد الحريات المخيفة إن افلتت من عقالها، والبلد الذي يقيم فيه “العدو اللدود” للسعودية حاليا المتمثل بـ”حزب الله”. فكيف يمكن للسعودية أن تقبل بأن يجري حوار لبناني برعاية اوروبية من دون ان يكون ملتفا بعباءتها؟ والخلاصة، ما يروّج له منذ اعوام عن انسحاب سعودي من لبنان ليس صحيحا، هنالك تراجع تكتيكي في انتظار اللحظة المناسبة للعودة والتي تريد الرياض أن تحددها لوحدها.