“مصدر دبلوماسي” مارلين خليفة
@marlenekhalife
تواجه وزارة الخارجية والمغتربين في لبنان أزمة غير مسبوقة على صعيد بعثاتها الدبلوماسية حول العالم والتي يبلغ عددها 89 بعثة بين سفارة وقنصلية عامة، ويواجه الجسم الدبلوماسي وخصوصا بدبلوماسييه المتوسطين في المهنة وكذلك السفراء تحديات عدة أولاها حجب الدولة اللبنانية عنهم المصاريف التشغيلية لسفاراتهم منذ بداية العام الجاري وعدم دفع رواتبهم منذ حزيران الفائت، ما يخلق ارباكا كبيرا.
بالرغم من الجهود الكبرى التي قام بها وزير الخارجية والمغتربين الدكتور عبد الله بو حبيب منذ تسلّمه مهامه في ايلول الفائت في حكومة نجيب ميقاتي التي تحولت الى تصريف الاعمال لجهة تخفيض الرواتب ورفع الايرادات القنصلية ومشروع اقفال قرابة الـ12 بعثة دبلوماسية (لم يتحقق لغاية اليوم بسبب اعتراض السياسيين) فضلا عن التعميم الى البعثات بالانتقال الى مقار أقل كلفة، وبالرغم من الجهود المضنية التي بذلها لتحقيق المناقلات الدبلوماسية الضرورية وسط شغور عشرات المواقع الرئيسية في العالم، وبسبب انتهاء مهام الكثير من السفراء وتخطيهم للاعوام المسموح بها في الخارج وهي 7 اعوام والظلم اللاحق بزملائهم في الادارة العامة إلا أن كل هذه الجهود صارت هباء.
في هذا السياق، يبدو جليا، أن محاصرة الجسم الدبلوماسي اللبناني ليس إلا حصارا على سياسة لبنان الخارجية ومحاولة لهدم هذا المعلم الدبلوماسي العريق تنفيذا لأجندات مخفية، فليس من بلد في العالم يقوم بسحق جسمه الدبلوماسي بهذا الشكل، وخصوصا وأن الوزارة تعطي الخزينة مردودا بالدولار الأميركي من خلال المعاملات القنصلية وسط الغاء مشبوه للرسوم الجمركية لبلدان كثيرة لا تعامل لبنان بالمثل في أقل ما يمكن فعله في الاصول الدبلوماسية.
وبينما ينصبّ “تقنين” المصرف المركزي على رواتب الدبلوماسيين هنالك مسارب عدة تفقد الخزينة اللبنانية موارد حقيقية سنفصلها في هذا التقرير الذي سيتطرق بداية الى السجال الدائر في شأن رواتب الدبلوماسيين والمباني السكنية ثم نتوسع في مسألة الرسوم الجمركية ومنع إعتماد البعثات اللبنانية للمصادقة على الفواتير التجارية و شهادات المنشأ.
يعتبر السلك الدبلوماسي كما في دول العالم قاطبة سلكا نخبويا جاذبا للعناصر الجامعية الكفوءة والتي كان يمكنها العمل في مجالات مختلفة في القطاع الخاص محليا ودوليا، وبسبب ما يقدمه هذا السلك من حوافز يمكنه استقطاب هذه الفئة، لذا يتم وضع سلسلة رتب ورواتب تتناسب مع هذا الواقع. وبالتالي، لم يكن العديد من الدبلوماسيين ليختاروا الادارة لمتابعة نشاطهم العملي لولا وجود مغريات وظيفية.
كيف تحدّد رواتب الدبلوماسيين؟
يخضع الراتب في الخارج لعناصر عدة منها تكاليف الاقامة تبعا لمؤشرات عدة
أبرزها مؤشر كلفة المعيشة Mercer / Nombeo
للمغتربين. وتخضع رواتب كل اعضاء السلك الدبلوماسي لهذا الاعتبار، وخصوصا وأن اقامة الموظف في السلك الخارجي مختلفة بتكاليفها ومتطلباتها عنها حين وجوده في وطنه. فالموظف في السلك الخارجي تسري عليه قوانين مختلفة حين يكون في الادارة المركزية لجهة الراتب الذي يتقاضاه.
أما في شأن بعض الرواتب العالية وتحديدا راتبين اثنين لسفيري لبنان في سوريا سعد زخيا وفي المانيا مصطفى اديب قد تمّ تخفيضهما بنسبة كبيرة منذ أشهر كما تم تخفيض رواتب السلك الدبلوماسي بنسب وصلت الى 25 في المئة. لكن، بالأصل فإن الرواتب العالية ليست إلا لموظفي فئة أولى أمضوا 3 عقود للوصول الى هذا المستوى الوظيفي. وبعض الرواتب التي كانت جدا ضخمة تعود الى موظفين قاموا بضمّ خدماتهم من وظائفهم السابقة في القطاعات العامة، أو جاؤوا من خارج السلك الدبلوماسي، وكانوا يشغلون مواقع عامة احتسبت من ضمن رواتبهم، وهذه أمور تم تعديلها في القوانين السارية.
وتشير اوساط دبلوماسية واسعة الاطلاع بأن هذه الرواتب التي كانت “تسعّر” بالليرة اللبنانية كان مثيل لها في المصرف المركزي او حتى في القضاء وفي لجنة المراقبة على المصارف، وتآكل العملة الوطنية جعل من الرواتب المحلية الموازية زهيدة، في حين بقيت تلك في الخارج على حالها استنادا الى المؤشر”.
في هذا السياق، يمضي الدبلوماسي جزءا طويلا من خدمته في داخل الادارة، وهنالك أمثلة عدة عن دبلوماسيين يمضون 4 أعوام أو أكثر في داخل الادارة من دون تعيين في الخارج وبرواتب موازية أو أقل لفئاتهم. مع وجوب التذكير بأن رواتب السفراء خضعت لزيارة رواتب القطاع العام أي سلسلة الرتب والرواتب بنسبة 40 في المئة وهنا أحد اسباب الفروق ايضا. وتشير الاوساط الدبلوماسية المذكورة:”ليس ما يمنع الجهات المعنية تعديل الرواتب ولكن هذا لا يعني قطع الرواتب كاملا عن موظفين دبلوماسيين يمثلون لبنان ومقيمين في الخارج وهم اليوم باتوا عرضة للطرد من منازلهم أو لطرد أولادهم من المدارس لعجزهم عن دفع الاقساط وعدم تمكنهم من الاستشفاء بسبب عدم دفع عقود التأمين الصحي وخصوصا وأن تعاونية الموظفين لا تغطي شيئا من التكاليف الطبية في الخارج وكذلك تمّ الغاء بدلات التمثيل التي تمول الدعوات والواجبات الاجتماعية”.
تجدر الاشارة الى أن راتب الدبلوماسي يخضع لتخفيض تلقائي في كثير من الدول كما في اوروبا وسواها نتيجة فرق العملة بين الدولار واليورو وبين الفرنك السويسري والين الخ…كذلك من المهم القول بأن الدولة اللبنانية لا تدفع تذاكر السفر الى بيروت كما يحصل في غالبية الدول إلا مرة كل 3 اعوام وفي حالات محددة مرة كل سنتين.
المباني السكنية
بالنسبة الى المباني الباهظة، فقد أصدر وزير الخارجية والمغتربين تعميما لينتقل السفراء الى مبان أقل كلفة عند انتهاء كل عقد ايجار. في هذا السياق تشرح الاوساط الدبلوماسية بأن
“وجود لبنان الدبلوماسي في الخارج عريق عراقة الجمهورية ويقتضي دوما ان يكون التمثيل
لائقا، لبنان كان وعلى مر العقود وحتى في فترة الحرب الاهلية حريصا على موقعه الخارجي وان يكون له دور سكن وسفارات لائقة، وتعود هذه المباني لعشرات السنين وهي تلازمت مع هوية لبنان في الدول المضيفة وعلاقاتها الثنائية وليست وليدة اليوم”.
تشير الاوساط الدبلوماسية:” إن الخطأ الحاصل على مرّ السنين هو في عدم وجود سياسة استملاك دور السكن والمكاتب للعديد من البعثات اللبنانية نتيجة غياب رؤى استراتيجية لمن تعاقب من وزراء في وزارة الخارجية وكذلك لدى القيادة السياسية والمالية في البلاد. لكن لا يمكن اليوم الطلب من البعثات اللبنانية الذهاب الى احياء شعبية لا تليق بالموقع الدبلوماسي لأية دولة، علما بأن بعثاتنا التزمت بقرارا الحكومة إلا ان هذا الواقع سيحط فعلا من عراقة وتقليد وهوية لبنان التي تمثله بعثته في العديد من دول العالم”.
وثمة نقطة اضافية تكمن في أن زوجة الدبلوماسي اللبناني ممنوع عليها العمل في الخارج وبالتالي فإن قيمة الرواتب تتناسب مع المسؤولية الملقاة على الوظيفة وهي دقيقة وحساسة ويجب تأمين مقومات مقبولة لمن يشغلها لكي تجذب كوادر عالية الكفاءة ولكي تحدّ من احتمال الوقوع في الفساد وتسهم في ضمان منع الخرق السياسي الخارجي لعمل الدبلوماسيين”.
الرسوم الجمركية
منذ العام 2000 خفّضت السلطات اللبنانية التعرفة الجمركية على غالبية السلع المستوردة (بمعزل عن هوية الدولة المصدّرة إلى لبنان) بنسب متفاوتة. وبالإضافة إلى ذلك، وقّع لبنان إتفاقيات تجارية (إتفاقية التيسير مع الدول العربية والشراكة مع الإتحاد الأوروبي ومن بعدها المملكة المتحدة، وفي المستقبل الميركوسور) أعفت معظم السلع المصدّرة من الدول العربية والأوروبية من الرسوم الجمركية. فعلى سبيل المثال، بلغت الإيرادات الجمركية غير المحصلة من قبل الجمارك اللبنانية على صادرات الإتحاد الأوروبي في إطار تطبيق الإعفاءات والامتيازات الجمركية التي تنص عليها إتفاقية الشراكة بين لبنان والإتحاد الأوروبي حوالي 200 مليون دولار أميركي خلال عام 2018. وعندما قرّرت السلطات اللبنانية مواجهة العجز في ميزان المدفوعات وفرض رسم جمركي إضافي بموجب المادة 59 من قانون موازنة لعام 2019 (القانون رقم 144 تاريخ 31/7/2019)، حدّدت النسبة بـ 3 في المئة وهي نسبة جداً ضئيلة بالمقارنة مع تجارب دول أخرى التي إتخذت هذا النوع من التدابير لمواجهة أزمة ميزان مدفوعات والحدّ من الإستيراد. وما يثير الإستغراب هو أن لبنان يحترم أحكام إتفاقية التيسير العربية حيث أن صادرات هذه الدول لا تخضع للرسوم الجمركية في وقت بعض هذه الدول تمنع دخول الصادرات اللبنانية إليها وأخرى تعقّدها من خلال فرض شرط تسجيل المصانع اللبنانية (كمافي مصر) قبل التصدير، مع العلم أن الدول العربية تفرض رسوما جمركية مرتفعة على صادرات لبنان من المشروبات الكحولية في حين تحظى صادرات الدول الأوروبية بمعاملة تفضيلية.
وتشير اوساط دبلوماسية على دراية واسعة بأن المشكلة الحقيقية في لبنان هي الفساد الجمركي وعدم فعالية الرقابة على النقاط الجمركية (مثلاً المرافئ) التي تدخل من خلالها السلع المستوردة الى لبنان. وخير مثال على ذلك، تزوير الفواتير التجارية وتصريح المستورد اللبناني عن مبالغ أقل من القيمة الحقيقية للسلع. مثلاً، بلغ الفرق بين بيانات الإستيراد الخاصة بالجمارك اللبنانية وبين بيانات السلطات الجمركية الأجبنية (الخاصّة بالدول المصدّرة إلى لبنان) خلال عام 2020، 210 مليون د.أ. مما يعني أن الشركات اللبنانية خفّضت قيمة الفواتير التجارية للتهرّب من دفع الرسم الجمركي. وبالحديث عن الدولار الجمركي، فإن أثره سوف يبقى محدوداً في حال لم يتم تفعيل الرقابة على الحدود الجمركية.
التصديق على الوثائق التجارية
حاولت وزارة الخارجية والمغتربين إعتماد البعثات اللبنانية للمصادقة على الفواتير التجارية و شهادات المنشأ فرفضت وزارتيْ المالية (المجلس الأعلى للجمارك) والإقتصاد والتجارة هذا الإقتراح بحجّة أن هذا الإقتراح يخالف أحكام إتفاقية الشراكة حيث أن هذا الإجراء يمثل مبدئياً عائقا تعريفيا Tariff barrier (الرسم الذي سوف يدفعه المصدّر للمصادقة) وعائقا غير تعريفي Non-tariff barrier (عملية إجراء المصادقة على الوثيقة التجارية بحدّ ذاتها) هذا مع العلم أن وزارة الإقتصاد سبق وخرقت إتفاقية الشراكة (من خلال المرسوم 5497 ) بحجة حماية القطاعات الإقتصادية في لبنان.
وترى الاوساط الدبلوماسية أنه لا بدّ أن تعيد وزارة الخارجية والمغتربين النظر في هذا الملف وطرحه على مجلس الوزراء للأسباب التالية:
-في ما يتعلّق بإتفاقية الشراكة، توجد آلية يمكن العمل بها لفرض هذا الإجراء.
من المؤكد أن هذا الإجراء سوف يحصّل إيرادات أكثر من الإيرادات التي سوف يتم تحصيلها من خلال الرسوم الجمركية التي تدفع على الحدود الجمركية في لبنان وذلك لأنه لا يمكن مراقبة إدخال السلع إلى لبنان بطرق غير شرعية (مثلاً عبر سوريا أو عبر رشوة العميل الجمركي لتخليص السلع على مرفأ بيروت).
في حال تم إعتماد إستفياء رسم 4 بالألف على كل فاتورة تجارية مع حد أقصى 1000 يورو مثلاً، يمكن تقدير الإيرادات الشهرية التي سوف تحصّلها السفارات اللبنانية في أوروبا وفقاً للمعادلة التالية:
1- معدّل صادرات أوروبا شهرياً إلى لبنان حوالي 380 مليون د.أ.
2-معدّل عدد الحاويات التي تدخل إلى لبنان من أوروبا شهرياً 3000 حاوية.
3- وفي حال إفترضنا في اسوأ الاحوال أن كل حاوية تحمل بضاعة بفاتورة تجارية واحدة
1.52 مليون د.أ. شهرياً للسفارات اللبانية في أوروبا أي 18 مليون د.أ. سنوياً
نقترح الآلية المفصّلة أدناه لدعم قانونية موقف لبنان بإعادة فرض إجراء المصادقات؛
*مشاورة الجانب الأوروبي مسبقاً، أي قبل إتّخاذ الإجراء،
*التركيز على أنه إجراء إداري يرتّب بدل أو رسم إداري لمكافحة التزوير والتهرّب من دفع الرسوم الجمركية (وليس الغاية منه استيفاء وتحصيل رسوم لتغذية الخزينة)، وذلك من خلال جمع الأدلة والإثباتات التي من شأنها أن تدلّ على جديّة الخطوة اللبنانية في هذا المجال، خاصّة وأن الجانب الأوروبي لا يودّ أن يشكل هذا التدبير عائقاً أمام جهود الدولة اللبنانية لمكافحة الفساد؛
*التشديد على أنه إجراء مؤقت وليس تدبيراً دائماً Temporaire et non pas perpétuel، ووضع جدول زمني محدد لرفع هذا الإجراء؛
*فرض الإجراء دون تمييز أو إنتقائية تحت أي شكل من الأشكال، أي أنّه يفرض على جميع الدول.