“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة
@marlenekhalife
عمّقت الصدامات العنيفة في العراق الشروخ السياسية بين طرفي النزاع: زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من جهة وتحالف خصومه من المكونات الشيعية الاخرى وعلى رأسها “الحشد الشعبي” الموالي لإيران وتيارات رئيسية منها “تيار الحكمة” بزعامة عمّار الحكيم.
أشعل اعلان الزعيم الشيعي العراقي السيد مقتدى الصدر اعتزال للعمل السياسي في 28 الجاري الشارع العراقي. يبلغ مقتدى الصدر الـ48 عاما من العمر ويتمتع بشعبية واسعة في الاسحة العراقية والشيعية، وذلك بسبب جذوره التي تعود الى احدى ابرز العائلات الدينية الشيعية في العراق وهو نجل المرجع الشيعي محمد صادق الصدر الذي قتله صدام حسين مع ولديه مؤمل ومصطفى في العام 1999.
يشكل مقتدى الصدر صماما للتوازن بين المكونات العراقية وهو يعرف جيدا كيف يدير هذا التوازن بمواقفه التي تبدو متناقضة للبعض. وفي بورتريه عنه نشرته صحيفة الشرق الاوسط الثلاثاء في 30 الجاري ورد بأنه “بعد انهيار نظام صدّام حسين في العام 2003 عثر الصدر للمرة الاولى على الفراغ السياسي الذي يمكن ان يتموضع فيه بوصفه زعيما دينيا، ومنذ ذلك الحين نسج الصدر صورة رجل الدين الذي تموضع في قلب المطبخ السياسي، ويحتفظ بالمسافة القدسية عنها، هذه الوصفة المركبة تفسر قراراته في الانخراط بالسياسة والاعتكاف عنها”. بالمختصر فإن الصدر الذي عاش ودرس في ايران هو اليوم في تموضع أقرب الى المملكة العربية السعودية والدول العربية، وتعدّ زيارته الى المملكة العربية السعودية في العام 2017 ولقائه ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان نقطة تحول في سلوكه السياسي داخل العراق، ووصفت الزيارة حينها بأنها “نادرة” لزعيم التيار الصدري العراق الشيعي.
تخلي المرجعية الدينية للصدر عنه
عندما اعلن مقتدى الصدر اعتزاله للسياسة مجددا قبل يومين، كان ذلك عقب فتوى من المرجع الديني المقيم في ايران السيد كاظم الحائري الذي دعا انصار الصدر الى “الامتثال” لمرجعية المرشد الايراني الاعلى السيد علي خامنئي ومعلنا في الوقت ذاته اعتزال المرجعية في سابقة لم تحصل منذ اكثر من 60 عاما بحسب العارفين، واصدر السيد الحائري بيانا في 28 آب الجاري واصفا الصدر بأنه “فاقد للاجتهاد” وغير مؤهل للقيادة الدينية. شكل ذلك ضربة معنوية موجعة لمقتدى الصدر الذي يقلّد المرجع الحائري الذي تربطه علاقة وطيدة بالصدريين الذين اختاروه وريثا دينيا لوالده.
رغبة بالتفرد باختيار رئيس الحكومة العراقي المقبل وبالتشكيلة الحكومية
مجموعة من العلامات الفارقة تميز مسار الصدر منها تأسيسه لسرايا السلام ثم حلّها، ثم تأسيسه لجيش المهدي ثم حلّه ويقول خصومه في السياسة أن “لا اتزان في حراكه السياسي”.
بعد الانتخابات العراقية في تشرين الثاني 2021 فازت الكتلة الصدرية التي يتزعمها مقتدى الصدر بأغلبية المقاعد البرلمانية، فحصلت على 73 مقعدا في البرلمان المكون من 329 مقعدا. اثبتت النتائج بأن مقتدى الصدر يتمتع بقاعدة شعبية واسعة ما جعله اللاعب الرئيسي في تشكيل الحكومة العراقية، وهو ما أثار حفيظة مناوئين من التيارات المقربة من ايران وخصوصا وأنه اطلق دعوات مطالبا بحل الميليشيات وبحكومة اغلبية وطنية وتحدى قوى ما يسمى “الاطار التنسيقي” وهو مجموعة كتل مناوئة له، واختار التصعيد عبر دفع نوابه الى الاستقالة من البرلمان العراقي وصولا الى اعتزاله في 28 الجاري ما ادى الى صدامات وتظاهرات واعتصامات وصلت حدّ اجتياح مكاتب الحكومة والبرلمان في المنطقة الخضراء.
ما هو دور السيد السيستاني؟
بعد اعتزال المرجع الحائري، ما هو دور المرجعية الشيعية الاعلى في العراق السيد علي السيستاني؟ تقول أوساط على اطلاع عميق بالوضع العراقي لموقع “مصدر دبلوماسي” بأنه كانت لمقتدى الصدر جلسة مع السيد السيستاني قبل اسبوع من اعتزاله وذلك بعيدا من الاعلام، وتسربت معلومات (لم نتأكد منها من مصدر ثان) تفيد بأن السيد السيستاني ابلغ الصدر بأن الاداء الصدامي لا يمكن ان يوصل الى نتائج ايجابية، فإما أن يتمكن (أي الصدر) من اقناع بقية الاطراف بمرشحه للحكومة المقبلة أو أن يتنحى جانبا.
وأمس الثلاثاء عقد الصدر مؤتمرا صحافيا أمهل فيه أنصاره ساعة واحدة للانسحاب تماما من أمام البرلمان وإلغاء اعتصامهم، مقدما اعتذاره للشعب العراقي الذي اعتبره “المتضرر الوحيد مما يجري.
لكن هذا الانسحاب الذي يعدّ تكتيكيا بحسب خصومه لا يلغي بذور الخلافات العميقة داخل العراق ولا يحذف حجم الاحتقان الكبير بسبب موضوع الحكومة والانتخابات البرلمانية وما رافقه من اشكالات وطعون، وبلغ قمته في تفجر الشارع بعد اعتزال الصدر.
استهداف للامن القومي الإيراني
إن هذه البذور الموجودة حتما هي ايضا عرضة للاشعال من قبل الدول التي تخاصم ايران وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. من المعلوم بأن الأمن القومي الايراني مرتبط ارتباطا عضويا واساسيا بالاوضاع في العراق، وزعزعة العراق وضرب مكوناته ببعضها البعض تعدّ محاولة لتحجيم ايران والحدّ من تأثيرها في المنطقة. يلاحظ المتابعون لملفات المنطقة بأنه قبل أن يتم اقرار الاتفاق النووي الجديد المعدّل بين ايران والولايات المتحدة الاميركية فإن بذور عدم الاستقرار بدأت تنثر بشكل واضح في العراق وسوريا ولبنان. هذا الاستهداف لهذه البلدان التي تعتبرها ايران تحت عباءتها يؤثر حتما على المدى الحيوي الايراني ويحدّ من تأثير طهران الجيو سياسي والعسكري. فالاهتمام الايراني بـ”الساحات الحليفة” لا يخفى على أحد وبالتالي فإن محاولة اشعال العراق تندرج ضمن الضغوط في سوريا ولبنان ايضا.
لا امكانية للمختصين بالشأن العراقي من التنبؤ بالمدى الزمني الذي قد تتخذه هذه الازمة، وتشير اوساط على اطلاع واقع على ما يدوور في الساحة العراقية الى أن “تطور الوضع يتعلق بمدى تمكن الحكومة العراقية بقيادة مصطفى الكاظمي من فرض الامن” وتشير الاوساط المذكورة الى أن المتوقع “أن يكون العراق ذاهبا الى مرحلة من عدم الاستقرار”.
هل ترتبط الساحة الشيعية اللبنانية بالعراق؟
ليست نظرية “ترابط الساحات” التي أطلقها أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله في إحدى خطبه مطبقة إلا في المواجهة مع اسرائيل، وقد وضعها “الحزب” كمعادلة ردعية لمحاولة تأخير الحرب” بحسب قول أحد المتخصصين في الشأن الشيعي الذي يضيف:” تطبّق هذه المعادلة في المعركة النهائية مع اسرائيل وتعني بأنه ستنوجد مجموعة قوى و”مقاومات” في هذه المواجهة النهائية”. لكن كلام أمين عام حزب الله كان واضحا اثناء الاحتفال المركزي النهائي لاحياء مهرجان الـ40 عاما على انطلاق المقاومة إذ تحدث عن استعداد “حزب الله” للتوجه الى العراق اذا استدعى الامر. تشير الشخصية المتخصصة بالشأن الشيعي الى أن “الذهاب الى العراق هو تماما كالمشاركة في حرب سوريا، بل إن العراق يفوق بأهميته سوريا لأنه جزء من طريق امداد للمقاومة، وبالتالي لديه الحساسية ذاتها التي أملت دخول “حزب الله” للمشاركة في الحرب السورية”.
لكن هذه الشخصية تستبعد أن تنعكس التوترات العراقية على الساحة الشيعية اللبنانية، فالثنائي الشيعي أي “حزب الله” وحركة أمل غير مؤيدين لمقتدى الصدر. وتشير الاوساط الى أنه حصل اشتباك بين مقتدى الصدر قبل مدة مع المرجعية العليا السيد علي السيستاني وتشكيك من الصدر بمرجعيته، وهذا ما أثار حفيظة انصار حركة أمل الذين يقلّدون السيد علي السيستاني.
الى ذلك، لا يوجد أي نشاط لمقتدى الصدر في لبنان وليست له مكاتب ناشطة او مؤسسات اجتماعية بل كان لديه مكتب وحيد في ضاحية بيروت الجنوبية أغلق منذ قرابة الثمانية اعوام، وبالتالي لا إمتداد للتيار الصدري الى لبنان.
في مقابل تحييد الساحة الشيعية اللبنانية، يشير العارفون في قضايا العراق الى أن الانعكاس سيكون اكيدا على الساحة اللبنانية ككل. إن زعزعة استقرار العراق يخسر لبنان امتيازات اقتصادية عدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر الفيول العراقي. أما على الصعيد السياسي، فيؤكد العارفون بالشأن العراقي الى أنه يجب الانتظار لتبلور المواقف الخارجية من الحدث العراقي. وثمة أسئلة تطرح عمّا إذا كان سيكون الوضع العراقي معزولا عن بقية الساحات ومنها لبنان، أم ثمة جهات دولية تريد تعميم هذا النموذج على ساحات مختلفة ومنها لبنان. في سوريا، حيث اللاستقرار لا يزال سيد الموقف، لا تزال الغارات الاسرائيلية تستهدف مواقع عسكرية لحلفاء ايران. في المقابل، حصل طرد للأميركيين من حقل نفطي في دير الزور على يد جهات تتحدث يإسم العشائر، الى ذلك تمّ استهداف مواقع اميركية في الشمال السوري وبالتالي فإن الاشتعالات هي سيدة الموقف لغاية الآن.
تباشير الاتفاق النووي الايراني
كل هذه الضغوط على الساحات الحليفة لإيران هي تباشير الاتفاق النووي الجديد، الذي وبالرغم من الاجواء المحيطة بأنه سيوقع قريبا إلا أن التوقيع النهائي لا تزال دونه 3 شروط ايرانية كان تحدث عنها في لبنان وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان في لقاء خاص مع فاعليات لبنانية.
تتوقع ايران قبل أية جولة مفاوضات تصعيدا ميدانيا ضد نفوذها وضد الجماعات الحليفة لها، فقبل 4 أشهر من توقيع اتفاق 2015 حصلت حرب اليمن، واليوم تشتعل الساحة العراقية ضمن اوراق ضغط عدة.
بالعودة الى الاتفاق النووي فلا شيء محسوم، تحدث عبد اللهيان قبل أشهر في لبنان عن 3 نقاط لا يمكن لإيران التهاون فيها، وتشير المناخات الدبلوماسية المواكبة للمفاوضات التي تستمر منذ 16 شهرا الى أن “لا آفاق لتوقيع الاتفاق النووي لغاية اليوم نتيجة التصلب الاميركي والشروط الايرانية”.
هذه الشروط هي 3:
-حسم قضية التحقيق في التقرير المفبرك من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي تحدث عن وجود مواد نووية في مستوى مخصب في بعض المنشآت النووية الايرانية وذلك عقب انسحاب الرئيس الاميركي دونالد ترامب من الاتفاق.
-تريد ايران ضمانات حقيقية بأنها ستتمكن من الافادة الاقتصادية فلا يكون الاتفاق العتيد عائقا لتقدّمها بلا أن تقدّم لها أية مكاسب وهذا يتطلب منح ضمانات قوية للشركات لكي تستثمر في ايران، ففي حال أخل الاميركيون بالاتفاق الجديد يكون لدى أية شركة فترة سماح لا تقل عن 3 اعوام لتنهي اعمالها في ايران.
-تنفيذ الالتزامات وفق سياسة خطوة خطوة. فما حصل في العام 2015 هو أن الجانب الأميركي انسحب من الاتفاق، في المقابل كان الايرانيون قد نفذوا فور توقيع الاتفاق كل المطالب التي نص عليها اتفاق 2015 حيث قام بإغلاق منشآت رئيسية، وبعض المفاعلات، وراح ينتظر الاميركيين والاوروبيين لتنفيذ التزاماتهم. لذلك، يطالب الجانب الايراني اليوم بخطوات زمنية محددة ومدروسة، فكل خطوة يجب ان تقابلها خطوة من الطرف الآخر.