الدكتور عبد الرؤؤف سنّو
*القيت هذه الدراسة في ندوة لمركز “لقاء من اجل لبنان” في الرّبوة
“مصدر دبلوماسي”
سأتناول أزمات لبنان الكبرى من خلال طرح السؤالين الآتيين: أي لبنان كنا نريد على مدى قرنٍ من الزمن، وأي لبنان وصلنا إليه، ونريده مستقبلًا، بعدما انتهى لبنان الميثاق ولبنان الطائف، وأصبحت الدولة اللبنانيّة فاشلة،[1] وشعبها منهوبًا فقيرًا على يد منظومة الفساد الحاكمة، غارقًا في الطائفيّة والمذهبيّة، وغالبيّته بتبعيّة كاملة للزعيم؟
لذا، سأقارب الموضوع من خلال ثلاث أزمات كبرى:
1- أزمة الهويّة كقضيّة أساسيّة كبرى تؤثّر في استقرار الدولة والمجتمع، وتنعكس على علاقات
طوائف البلاد بالخارج.
2- مدى استجابة الطوائف للأزمات التي تتعرّض لها البلاد اليوم، في ضوء المتغيّرات التي
تعصف في المنطقة.
3- امكان وجود حلول لإنقاذ لبنان.
1- أزمة الهويّة وتدحرجها وأدوار الخارج
بدأت أزمة الهويّة عند إنشاء لبنان الكبير؛ فحدث انقسام طائفي على الكيان المنشود أو المرفوض. فوجد المسلمون وقد انتزعوا من فضائهم العربي (السوري)-الإسلامي، وأنهم أصبحوا أقليّة كباقي الأقليّات في الدولة الوليدة، بعدما كانوا الأمّة صاحبة السيادة في “دار الإسلام”، الدولة العثمانيّة. من هنا، رفضت غالبيّتهم الانعزال في لبنان الكبير عن عالمهم العربي/الإسلامي، وتمسّكوا بهويّتهم العربيّة الممزوجة بإسلامهم، مع سعيهم للوحدة مع محيطهم العربي، وبخاصّة سورية.
في المقابل، كان المسيحيّون، وبخاصّة الموارنة منهم، متحضرين لدولة مستقلّة عن محيطها العثماني/العربي منذ عهد المتصرفيّة، وبالتالي سعيهم إلى تجسيد هويّة لبنانيّة مستقلّة تحقّق أمانيهم “القوميّة” وذات خصوصيّات معروفة، تستند إلى الدين والثقافة والتاريخ والعلاقة مع الغرب، وكذلك إلى التجارب تحت الحُكم الإسلامي كأهل ذمّة. وقد رفضوا الوحدة العربيّة أو أي حُكم إسلامي، مؤكّدين تعدّدية ثقافيّة” لمكونات المجتمع اللبناني، وعروبة ثقافيّة كجزء من هويّتهم المتجذّرة المتعدّدة الأصول،[2] بعيدًا عن مشاريع الوحدة العربيّة والدمج. لذا، فضلّوا الانعزال في “متصرّفيّة” مستقلّة ذاتيًا تحت حماية الدول الكبرى منذ العام 1861، والعمل، كما شعوب السلطنة الأخرى، وبخاصّة المسيحيّين، للاستقلال الناجز في الوقت المناسب. من هنا، تصدّوا لمحاولة إعادتهم إلى الحُكم العثماني في العامين 1908 و1909، على أساس إعادة العمل مجدّدا بالدستور العثماني الذي سبق أن صدر في العام 1876 وعُطّل في العام التالي.[3]
إنّ عدم اندماج المسلمين في لبنان الكبير والصدام الذي حصل بين عروبتهم من جهة، وبين خصوصيّة المسيحيّين الموارنة من جهة أخرى، يحتّم طرح السؤال الآتي: كيف يمكن لمسلمي بلاد الشام الذين عاشوا 400 سنة تحت الحُكم العثماني كأمّة صاحبة السيادة، وتمسّكوا به لتشكيله حماية لهم من مخطّطات الاستعمار، بالرغم من ضعفه منذ القرن الثامن عشر،[4] وبالتالي الانتقال بشحطة قلم إلى العروبة في “المؤتمر العربي” في باريس في العام 1913 كقاسم مشترك لعمل سياسي بينهم وبين المسيحيّين للاستقلال عن العثمانيّين،[5] ثم بعد ذلك الانتقال في العام 1920 إلى لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي، أي إلى الهويّة اللبنانيّة، والأمّة اللبنانيّة كما جاء في دستور العام 1926؟ لا يوجد، برأينا، شعب في العالم يغيّر هويتّه ثلاث مرّات خلال بضع سنوات.[6]
من هنا، تدرّج اندماج المسلمين في الدولة الوليدة لمقتهم لبنان المخلوق فرنسيًا والانتداب عليه،[7] وفي الوقت ذاته عدم تخلّيهم عن مشروع وحدة عربيّة. إنّ تدرّج الاندماج الإسلامي في لبنان الكبير وعدم مقاطعته يمكن ملاحظته منذ العام 1920 من خلال: مشاركة مسلمين باللجان الإداريّة، وانتخاب آخرين للمجالس التمثيليّة والنيابيّة، وترشيح الشيخ محمد الجسر نفسه لرئاسة الجمهوريّة في العام 1932،[8] وإعلان قيادات إسلاميّة شابة في “مؤتمر الساحل الثالث” في العام 1936 إيمانها بلبنان الكبير، وترؤس شخصيّات إسلاميّة الحكومات اللبنانيّة.[9] ثم أتت معركة الاستقلال في العام 1943 لتوحّد اللبنانيّين ظرفيًّا، بالرغم من الالتباس على الهويّة الذي ظهر في “الميثاق الوطني”.[10] وهناك عاملان ساعدا على ذلك: العامل الأوّل، وهو رغبة القيادات الإسلاميّة والمسيحيّة في حينه في العيش معًا في “وطن” وتجسّد ذلك في الميثاق كعبور إلى التاريخ المشترك للطوائف تحت مظلّة الطائفيّة المجتمعيّة،[11] لكن من دون أن يتحقّق الدمج. والعامل الثاني، وتمثّل بمصالح البرجوازيّة المشتركة من الطرفين في تأمين الانفتاح على العالمين العربي والغربي، بعدما تمكّن لبنان من تعزيز دورهِ الخدماتي الشرق أوسطي عقب الحرب العالميّة الثانية.[12]
بغضّ النظر عمّا إذا كان الالتباس على تفسير الميثاق وراء استمرار النزاع على الهويّة وتجسّد في السياسة والمجتمع واللغة والتاريخ،[13] أم المسار التاريخي والخصوصيّات المتيقّظة على الدوام لكلّ من الطائفتين الإسلاميّة والمسيحيّة، أم المحرّكات الخارجيّة، فقد بقي المسلمون منشدّين إلى هويّة عربيّة حتى “اتفاق الطائف” على الأقل: إلى الناصريّة وإلى الوحدة المصريّة-السوريّة بين العامين 1958 و1961، وإلى النشاط الفلسطيني من لبنان ضدّ إسرائيل منذ أواخر الستينيّات، وتسليم لبنان سيادته إلى منظّمات فلسطينيّة مسلّحة (اتفاق 1969)، وهو أمر لم تفعله أي دولة ذات سيادة في العالم.
في المقابل شعر المسيحيّون، رواد العروبة منذ منتصف القرن التاسع عشر، بخطر الإسلام الزاحف على هويّتهم برداء العروبة، وسط تنامي الديموغرافيا الإسلاميّة “المشاغبة”؛ فتمسّكوا بلبنانيّتهم وتعسكروا ودخلوا الحرب الداخليّة بين العامين 1975 و1990 التي خطّط الأميركيّون لها بجدارة،[14] حتى أنّ بعضهم فكّر بالتقوقع في لبنان صغير.[15] ولا ننسى الخلاف على تاريخ لبنان وهويّته الذي تجسّد في المؤلّفات ومراكز الأبحاث.[16] وقد اعتبر فؤاد افرام البستاني أنّ الصراع في لبنان سياسيًا وحضاريًا بين المسيحيّة والإسلام.[17]
عندما أكّد “اتفاق الطائف” عروبة لبنان وانتمائه، كان المشروع الوحدوي العربي قد أصبح سرابًا. وفي زمن تخاذل الأنظمة العربيّة عن تحرير فلسطين والتطبيع مع إسرائيل، بدأ مسلمون يبحثون عن هويّة في إسلامهم السنّي أو الشيعي، كما حصل في مصر والجزائر والأردن وبلدان عربيّة أخرى وإيران. من تلك المنظّمات في لبنان “حركة التوحيد الإسلامي”، و”حزب الله،” والإسلام السياسي منذ التسعينيّات. في المقابل ظهرت أصوليّة مارونيّة ترفض لبنان الطائف وعروبته وتتمسّك بخصوصيّته.
إنّ جعل لبنان عربي الهويّة والانتماء بعهدة نظام الاحتلال السوري، وفق الطائف، واستخدام الأخير شعار “العروبي”، و”الخائن” أو “العميل”، لم يُتح للمسيحيّين اختبار “عروبتهم الجديدة” المفروضة عليهم في النصوص، في ظلّ عروبة سورية المخابراتيّة المنافقة التي توزّع شهادات العروبة على أتباعها، وتجعل من معاهدة “الأخوّة” نفعيّة وانتهازيّة. فضلًا عن ذلك، عملت دمشق على توسيع الشرخ المجتمعي ومصّ اقتصاد لبنان وتغييب مؤسّساته، وتقاسم النفوذ فيه سرًا مع إسرائيل وفق “اتفاق الخطّ الأحمر”، وسط صمت غالبيّة المسلمين السنّة، وتحالف “حركة أمل” و”حزب الله” معها.[18] كلّ هذا جعل مسيحيّين يقاومون منذ العام 2000، بمفردهم، العروبة السوريّة المفروضة عليهم، كذلك مقولة “شعب واحد في دولتين” التي كانت تلغي الهويّة اللبنانيّة وتجعل لبنان ملحقًا بالنظام السوري. وبعد اغتيال الرئيس الحريري في العام 2005 التفّ كثير من المسلمين الليبراليّين والمسيحيّين حول “هويّة لبنانيّة” كانت غير واضحة المعالم في مقوّماتها، سوى في إخراج السوري من البلاد، بعدما تقبّل كثير من المسلمين شعار سعد الحريري: “لبنان أولًا”، من دون التخلّي عن عروبتهم.
قبل تحرير جنوب لبنان في العام 2000، وبعده تحديدًا، بدأت تظهر ملامح هويّة جديدة منافسة للعروبة وللهويّة اللبنانيّة، هي الهويّة الفارسيّة التي استفادت من تحرير جنوب لبنان عبر “حزب الله” ومقولة: “شعب وجيش ومقاومة”، كذلك من مهادنة القوى السياسيّة كلّها، من دون استثناء، سلاح “حزب الله”، إلى درجة ربط النزاع والجلوس معه في مجلسي الوزراء والنواب والتحالف في الحياة السياسيّة.
بداية، رحّب كثير من اللبنانيين بخيار المقاومة لتحرير بلدهم،[19] من دون أن يتبيّنوا أهداف الحزب لتأسيس نظام إسلامي على أنقاض نظام لبنان وهويّته. في بيان الحزب الأوّل في شباط 1985 أُعلن الحزب عن تبعيّة وولاء وطاعة كاملة للولي الفقيه، وبأنّ لبنان هو جزء من أمّة الإسلام التي إيران طليعتها وتتمثّل بالولي الفقيه. وفي العام التالي صدرت فتاوى إيرانيّة بضرورة تسلّم المسلمين الحُكم في لبنان.[20] وكشف تصريحات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، كما في مقابلة له مع جبران تويني في العام 1986 عن عدم إيمانه بوطن اسمه لبنان، بل بالوطن الإسلامي الكبير.[21]
ومن خلال تشريع مقاومة إسرائيل والنشاطات الاجتماعيّة، تمكّن الحزب من تثبيت نفوذه في بيئته الشيعيّة أولًا، ثم محاولة مدّه إلى خارجها. وبعد التحرير، بدأ يفرض إرادته على المؤسّسات، وعلى القرار السيادي اللبناني بعد اغتيال الحريري: (تفاهم مار مخايل 2006، واجتياح بيروت في العام 2008، وإسقاط حكومة الحريري مطلع العام 2011 والاتيان بنجيب ميقاتي رئيسًا بديلًا للحكومة، والتدخّل في الثورة السوريّة لمصلحة نظام الأسد منذ العام 2012، وبالتالي إلغاء الحدود بين لبنان وسورية، و”التسوية الرئاسيّة” في العام 2016)، وكذلك التحكّم بالاستحقاقات الرئاسيّة، وتشكيل الحكومات وتهميش الجيش اللبناني. إنّ دعوات الأمين العام للحزب إلى مؤتمر تأسيسي في قصر الأونيسكو في 1/6/2012، وإعلان المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان في عيد الفطر في أيار 2020 عن رفضه “الميثاق الوطني” و”اتفاق الطائف”،[22] مطالبًا بتغيير نظام لبنان وعقده الاجتماعي، تكشف عن نوايا الحزب لتغيير النظام اللبناني وهويّة لبنان والحاقه بإيران قولًا وعملًاـ[23] وهذا عكس ما يدّعيه في الإعلام برغبته في جعل لبنان دولة مدنيّة في أثناء زيارة وفد من “حزب الله” البطريرك لتهنئته بعيد رأس السنة 2012، ودعوات برّي أكثر من مرّة إلى دولة مدنيّة، حتى رئيس الجمهوريّة عون نفسه).[24] ولهذا السبب رفض الحزب وأتباعُه بعيد تفجير مرفأ بيروت نداءات البطريرك الراعي لإعلان حياد لبنان وتدويله،[25] لأنه يقضي على مشروعه.
إنّ ما يُقلق اللبنانيّين ليس تحوّل “حزب االله” إلى رقم صعب في المعادلة اللبنانيّة فحسب، ولا ارتباطه بإيران ومشاريعها، ولا حتى إعادة تشكيل المنطقة، بل الاستقواء الاجتماعي وفرض ثقافته الأصوليّة، والتقييد على ممارسة حريّة القول والنقد والسلوكيّات، وأنماط العيش، والخيارات السياسيّة، وصولًا إلى التخوين. ولعل ترصيع شوارع الضاحية الجنوبيّة وطريق المطار بصور الأئمة والشخصيات الإيرانية وإسقاط أسمائها على الشوارع أسطع دليل على هدف الحزب بتغيير ثقافة اللبنانيين واستبدال أبطالهم التاريخيّين بأبطال الفرس.
2- تآكل الطوائف: خلافات ومحاصصات تدمّر الوطن
حتى الآن لا يوجد مشروع تضافر طائفي أو وطني يتصدّى لـمخطّط “فرسنة” لبنان، فيما الرؤساء والمؤسّسات مجرد شهود زور يتفرّجون على سقوطه، “صمٌّ بكمٌ لا يقشعون”. وهذا يقودنا إلى الأزمة الكبرى الثانية، وهي عدم وجود استجابة للطوائف تجاه التحدّيات الراهنة التي تتعرّض لها البلاد: هيمنة “حزب الله” على المؤسّسات والسيادة، وبقاء منظومة الفساد متمسّكة بالسلطة، وتصارع الرؤساء والأحزاب على المحاصصة ومشاريعهم الخاصّة، وسط الانهيار العام للمؤسّسات وللاقتصاد والماليّة والنقد، وسقوط المجتمع إلى الحضيض.
هناك صراعات وانشقاقات في داخل الطائفة المارونيّة، وهناك مارونيّة سياسيّة جديدة وبيت سياسي جديد متمثّل بالرئيس عون متحالف مع “حزب الله”. وفي الجانب الآخر، هناك مارونيّة سياسيّة “قديمة” متكارهة ومتعادية، متمثّلة بالقوّات اللبنانيّة وحزب الكتائب والمردة يحصل بعض منها على تأييد السعودية، ويسعى كلّ واحد إلى تحقيق مصالحه وأسبقيّة إلغائيّة على الآخر. أما بكركي، فيغيب دورُها التاريخي كخطّ الدفاع الأول عن المسيحيّين، ولم يعد لها كلمة مسموعة.[26]
في الجانب الإسلامي وصل “تيار المستقبل” إلى نهايته، بعدما فقد تأييد السنّة له نتيجة ضعف زعيمه وغضب السعودية عليه وتشتت الطائفة. وسبق ذلك إنهاء الحريري الأب بدوره التعدديّة السياسيّة لدى طائفته على غرار ما فعله ميشال عون. وفي الجبل الدرزي حيث الخلاف التاريخي متجذّر بين الجنبلاطيّة والأرسلانيّة، فلا وجود لجبهة درزيّة موحّدة، بالرغم من فوز جنبلاط في انتخابات العام 2022، ولم يعد وئام وهاب عامل ازعاج للزعيم الدرزي، وربما كذلك طلال أرسلان بعد انفتاح جنبلاط من جديد على “حزب الله” (اجتماع كليمنصو في 11 آب 2022). وحدها الشيعيّة السياسيّة ظلّت متماسكة، وتحوّلت إلى الرقم الصعب في المعادلة اللبنانيّة. وبسبب كلّ ما أشرنا إليه، لا يوجد مشروع طائفي، أو مشروع عابر للطوائف للتصدّي لمخطّطات “حزب الله” في لبنان، وبالتالي إنقاذ البلاد من الانهيارات الحاصلة التي وصلت إلى درجة استباحة السيادة والحدود، والشلل الإداري والقضائي إلى العتمة الشاملة ورغيف الخبز والدواء والاستشفاء، والقضاء العاجز والليرة المتهاوية، وفوق كلّ شيء أصبح الاستحقاق الرئاسي سرابًا.
أمام هذا الواقع، تُطرح مشاريع الفدراليّة و”ديمقراطية الأكثريّة” و”المثالثة”، فيما يطرح البطريرك الراعي خيار الحياد الإيجابي النشط، وجميع هذه المشاريع تعكس مضامين الأزمة الكبرى الثالثة التي سنتناولها فيما يلي.
3- سباق بين المشاريع المدمّرة للبنان الموحّد
إنّ عودة مسيحيّين إلى نغمة الفدرلة والانقلاب على لبنان الموحّد معروفة ومتواصلة، ويمكن أن نتفهما، ولا حاجة لذكرها، وهي تعود إلى انتهاك “حزب الله” سيادة الدولة ومقوّماتها، وانهيار مؤسّساتها الدستوريّة، ومصالح لبنان وشعبه. ولا يبدو، برأينا، أنّ الفدراليّة يمكنها أن تنقذ اللبنانيّين لغياب ثقافة التعايش معًا أو بالقرب من بعضهم البعض، حتى ولو كانت مقنّعة. إنّ صغر حجم لبنان والتداخل بين طوائِفِه وثرواتِه المتوقّعة من النفط والغاز، ومعظمها في جنوب البلاد، قد يدفع إلى التهجير والحروب. وفي لبنان الموحّد يختلف اللبنانيّون على السياستين الخارجيّة والدفاعيّة، فكيف سيتفقون عليهما إذًا في لبنان الفدرالي؟ ومن يضمن أنّ الحكومة المركزيّة أو المجلس الرئاسي الطوائفي سوف يتمكّن أحدهما من فرض سلطته على الأقاليم بجيش مؤلّف من خليط طوائفي؟ لذا، سينتهي مشروع الفدرلة إلى تقسيم لبنان.
في الغرب أدّت “ديمقراطيّة الأكثريّة” إلى الاستقرار السياسي والمجتمعي؛ لكنّها ستشكّل في لبنان وجهًا من وجوه الهيمنة عليه، لانعدام ثقافة الحُكم على أساس أكثريّة وأقليّة واحترام حقوق الأقليّات وخصوصيّاتها وحمايتها من قبل الأكثريّة. تبقى “المثالثة” هي وجه آخر للهيمنة، حيث يمكن لطائفة معيّنة التحكّم بمفاصل البلاد، كتوقيع وزير المالية الشيعي على كلّ مل يتعلّق بالمال.[27] أخيرًا تبقى الدولة المدنيّة بعيدة المنال، في ظلّ رفضها بشكلٍ مطلقٍ من قبل الطوائف الإسلاميّة، فيما هي أكثر قبولًا لدى المسيحيّين.
ولتحقيق الدولة المدنيّة، يجب أن تتوافر التربية على الديمقراطيّة لأولادنا وأحفادنا والإرادة الجامعة. لكن حظوظها تبقى ضعيفة لصعوبة إسقاطها على مجتمع طائفي لم يتربّ يومًا على الاعتراف بـ “الآخر” والعيش معه وفق مساواة عادلة واحترام خصوصيّته وطموحاته. وأليس من الأفضل والأجدى أن نختبر هذه التجربة، بدلًا من الذهاب إلى الفدراليّة أو إلى “ديمقراطيّة الأكثريّة” أو أي نظام إسلامي أو هيمنة إسلاميّة تخيف الشركاء الآخرين، كحلول متطرّفة قد تشكّل خطورة على سرمديّة لبنان، كيانًا ومجتمعًا موحّدًا؟
في الدولة المدنيّة يتقارب أبناء الشعب الواحد، وتنبثق وحدة مجتمعيّة تؤسّس لمواطنيّة يشعر كلّ فرد فيها، في ظلّ نظام ديمقراطيّ عادل، بأنه مُتساوٍ مع “الآخر”، ويتمتّع بالحقوق والواجبات نفسها، ومنتفع مثله بالثروات ولا يشكّل الواحد منهم تهديدًا لـ “لآخر”، سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو ثقافيًّا. فيقوى الداخل اللبنانيّ في ظلّ وجود دولة تُمسك بقوّة بشعبها الذي يتّحد ويتضافر في سبيل مواجهة جيوسياسات الخارج ومؤامراته.
لذا، فمن الأفضل أن نبني الدولة المدنيّة القائمة على التعدّدية والديمقراطيّة العادلة والأكثر أمانًا، على أن نُبقي على النظام الطائفي والطائفيّة المجتمعيّة. وإن فشلت الدولة المدنيّة يبقى لبنان موحّدًا على علّاته، ويبحث اللبنانيّون عندئذ عن حلّ آخر، قد لا يكون متوافرًا. أمّا في حال اعتمدنا الفدراليّة أو “ديمقراطيّة الأكثريّة” أو “المثالثة”، في ظلّ الثقافة الطائفيّة والمذهبيّة وفشلت كلّها، فمعنى ذلك أنّنا ذاهبون إلى صراعات وحروب داخليّة وتقسيم للبنان.
[1] Kali Robinson, ‘Is Lebanon a Failed State? Here What the Numbers Say’. Council of Foreign Relations, Sept. 16, 2020, https://tinyurl.com /5n6pepsh (Accessed 11.10.2020.
[2] باسم الراعي (الخوري)، ميثاق 1943. تجذّر الهويّة الوطنيّة اللبنانيّة، نقله إلى العربيّة المطران يوسف ضرغام، المركز
الماروني للتوثيق والأبحاث، بينان، 2009.
[3] عبد الرؤوف سنّو، “الدستور العثمانيّ 1908 والرأي العام في مدينة بيروت وجبل لبنان”. لبنان بين الدستورين
1879-1908، دار سائر المشرق، جديدة المتن، 2020، ص 223-248.
[4] عبد الرؤوف سنّو، النزعات الكيانيّة الإسلاميّة في الدولة العثمانيّة 1877-1887: برد الشام-الحجاز-كردستان-ألبانيا،
دار بيسان للنشر، بيروت، 1998.
[5] حسّان حلّاق، التيّارات السياسيّة والطائفيّة في لبنان. 1913-1943، دار النهضة العربيّة، بيروت، ط 4، 2018، ص
11-18، وراجع مقرّرات المؤتمر، في المرجع ذاته، ص 31-34.
[6] يعالج المؤلّف بالتفصيل إشكاليّات عدم اندماج المسلم في لبنان الكبير في المراحل المشار إليها في المتن، في مقاله الصادر
حديثًا: لبنان: عبد الرؤوف سنّو، “صراع الهويّات قبل الطائف وبعده”. موقع: Mon Liban، 28/6/2022
https://www.monliban.org/monliban/ui/topic.php?id=9479
[7] وجد المسلمون في الانتداب الفرنسي على لبنان مشروعًا صليبيًا لخدمة الموارنة. كمال ديب، هذا الجسر العتيق: سقوط لبنان
المسيحي؟ 1920-2020، ص 91.
[8] فشل الجسر في الوصول إلى المنصب، لأنّ سلطة الانتداب الفرنسي رفضت ذلك لعدم انسجامه مع مصالحها، كذلك قيادات
سياسيّة دينيّة مارونيّة. راجع: عبد الله إبراهيم سعيد، الشيخ محمد الجسر: من مجلس المبعوثان إلى رئاسات لبنان، بيروت،
[9] لم تجر الانتخابات بسبب إقدام سلطات الانتداب على تعليق العمل بالدستور اللبناني وحلّ مجلس النوّاب. حول انخراط
المسلمين بلبنان الكبير: عبد الرؤوف سنّو، دولة لبنان الكبير 1920-2021: إشكاليًات التعايش والحياد والمصير، دار
المشرق، بيروت، 2022، ص 30-40.
[10] رغيد الصلح، لبنان والعروبة. الهويّة الوطنيّة وتكوين الدولة، دار الساقي، بيروت، 2006، ص 248-249.
[11] الفصل الأول من كتاب: باسم الراعي، ميثاق 1943، مرجع سابق.
[12] Theodor Hanf, ‘Die drei Gesichter des Libanonkrieges’. Friedenanalysen für Theorie and Praxis 8 (1978), 64-122; Carolyn Gates, ’The Historical Role of the Political Economy in the Development of Modern Lebanon’, Papers on Lebanon 10. (Centre for Lebanese Studies, Oxford, September 1989,19.
[13] عبد الرؤوف سنّو، المدن الأقطاب في لبنان: بيروت–طرابلس–زحلة–صيدا، منشورات مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا
زريق الثقافيّة، طرابلس، 2018، ص 124-129.
[14] بعد تفاقم خطر المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة من لبنان على أمن إسرائيل، وعمل الفلسطينيّين على خطف الطائرات
الإسرائيليّة والأجنبيّة إليه وإلى دول الجوار، كما حادثة ميونيخ في العام 1972، رأت الإدارة الأميركيّة وجوب
إدخال سورية إلى لبنان للجم المقاومة الفلسطينيّة عن مهاجمة الدولة الصهيونيّة وتحقيق الأمن في الملاحة الجويّة
الدوليّة. فكان “اتفاق الخط الأحمر” السرّي بين دمشق وتلّ أبيب في العام 1976 لتقاسم النفوذ بينهما في لبنان،
وبالتالي إمساك النظام السوري بالمقاومة وبلبنان وتأدية دور نشط في منطقة الشرق الأوسط. فأمّنت إسرائيل بذلك
سلامًا نسبيًا مع لبنان، فيما حقّقت سورية حلمها التاريخي ومصالحها بفرض هيمنتها على البلاد. ولتنفيذ الاتفاق،
قام دبلوماسيّون أميركيّون بتأجيج الوضع العسكري الملتهب في لبنان في العام 1975، لإعطاء دمشق الذريعة
للدخول إلى لبنان بموافقة الموارنة. واستمر العمل فيه حتى نهاية العام 2003، عندما أصدر الكونغرس
الأميركي قرار معاقبة سورية على أفعالها في لبنان، وبالتالي الطلب إليها سحب جيشها من لبنان. David M. Wight, Kissinger’s Levantine Dilemma: The Ford Administration and the Syrian Occupation of Lebanon’. Jstor, 37 (2013), 144-177.
[15] انظر في هذا الخصوص كرّاسات “القضيّة اللبنانيّة” التي كانت تصدر عن مركز البحوث في الكسليك، وكذلك مجلة العمل
الشهريّة التي صدرت مطلع حرب لبنان.
[16] حول هذا الموضوع، أنظر كتاب: أحمد بيضون، الصراع على تاريخ لبنان أو الهويّة والزمن في أعمال مؤرّخينا
المعاصرين، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1989.
[17] فؤاد أفرام البستاني، مواقف لبنانيّة، ج1، خواطر لبنانيّة في الأحداث والمحدّثين، جامعة الكسليك، الكسليك، 1982، ص
[18] عبد الرؤوف سنّو، لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف. إشكاليًا التعايش والسيادة وأدوار الخارج، المعهد الألماني
للأبحاث الشرقيّة في بيروت، بيروت، 2014، ص 218-223.
[19] شاكر أبو سليمان، “الوحدة الوطنيّة في مواجهة العدوان الإسرائيلي”. الجمهوريّة اللبنانية، مجلس النوّاب: حروب إسرائيل ضدّ
لبنان (نصوص ودراسات)، بيروت، 1997، ص 202-204.
[20] حسن فضل الله، الخيار الآخر. حزب الله السيرة الذاتيّة والموقف، بيروت، 1994؛ عبد الرؤوف سنّو، “الإسلاميّة الشيعيّة
في لبنان: بين التقليد والحداثة”، مراجعة كتاب Stephan Rosiny, Islamismus bei den Schiiten im Libanon. Religion im Übergang von Tradition zur Moderne, Berlin, 1996.
[21]جاء هذا التصريح لنصر الله في أيلول 1986 قبل انتخابه أمينًا عامًا للحزب في شباط 1992. “حزب الله”: لا نؤمن بوطن
اسمه لبنان”. موقع: القوّات اللبنانيّة، 17 شباط 2008
https://www.lebanese-forces.com/2008/02/17/5299/ (دخول 15/8/2022).
[22] “المفتي أحمد قبلان في خطبة الفطر: المطلوب إسقاط الصيغة الطائفيّة ومحاسبة من سرق وفتح خطّ (كذا) مع دمشق
بخصوص النازحين”. موقع: قناة المنار، 24 أيار 2020 https://almanar.com.lbl6722465 )(دخول 25/5/2020).
[23] “السيّد نصر الله يدعو إلى مؤتمر تأسيسي في لبنان… وقضيّة المخطوفين مسؤوليّة الدولة”. موقع: المنسقيّة العامّة
للمؤسّسات الكنديّة، نقلًا عن: تلفزيون المنار، 2 حزيران 2012.
[24] عبد الرؤوف سنّو، “دولة حزب الله المدنية المؤمنة!”. جريدة النهار، 15 كانون الثاني 2012.
[25] “كيف تفاعل الداخل اللبناني مع مبادرة الراعي؟” موقع: مركز المستقبل والدراسات المتقدّمة، 3 آذار 2021 https://tinyurl.com/2p95ehda (دخول 6/3/2021).
[26] سنّو، دولة لبنان الكبير، مرجع سابق، ص 361-368.
[27] مازن خطّاب، “المثالثة في لبنان-وهم أم حقيقة؟”. جريدة اللواء، 4 كانون الأول 2018؛ “البطريرك الراعي: سنرفض المثالثة
وسنحاربها وهذا ما سأقوله لماكرون…” موقع: المركزيّة، 31 آب 2020 https://tinyurl.com/2p9868jd (دخول
1/9/2020).