“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
شاهدت الرجل المعمّر حسن الزين الحاج علي منهمكا في تحريك الهريسة في دست ضخم، يساعد أحد الشبان الذي يرتدي لباسا يشبه زي الصحابة في زمن الامام الحسين اي قبل 1444 عاما. كنت اتواجد في احد شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت حيث عمّت اليوم الثلاثاء العاشر من محرّم مسيرات عاشورائية لاحياء مقتل الامام الحسين وصحبه، ثم اخترت مقهى شعبيا لاحتساء القهوة. توجه الي الحاج حسن وقدّم لي طبقا من الهريسة التي اعدّت سابقا ووضبت للتوزيع. قال لي: “تذوقيها، وادعي للحسين”. في شوراع الضاحية الجنوبية لبيروت، يقوم كثر من الشبان والشابات والكبار والصغار المرتدين لون الحداد الاسود بتقديم المياه والعصائر للمارة وللضيوف حيث تجتذب المراسم العاشورائية الكثير من الاجانب وخصوصا الصحافيين الغربيين، وتقدم ايضا الفاكهة مثل التفاح والتمر وكعك العباس. سألت الحاج حسن عن سبب مشاركته في طهو الهريسة، فأجاب بأنه كسائق تاكسي لا يمتلك ما يقدّمه لنيل الاجر في هذه المناسبة، “لذا قصدت هذا المقهى لأقدّم عملي ونيل أجر لدى الله”.
هكذا يفكّر سكان هذه المنطقة ذي الغالبية الشيعية، التي يصرّ الاعلام الغربي والعربي بربطها بـ”حزب الله” نظرا لولاء معظم سكانها لهذا الحزب الذي تأسس في العام 1982، وبات الاقوى في الطائفة الشيعية سياسيا وعسكريا وهو يرتبط عقائديا بإيران وبالإمام الخميني قائد الثورة الاسلامية. لكن، هنا في الضاحية وبين أولئك الناس المتجمعين تختلط الثقافتين الايرانية واللبنانية مع طغيان للاخيرة. صحيح، بأن صورا مرفوعة للخميني وبأن أناشيد تستلهم الثقافة الدينية مع ايران، ومنها ما اثار حفيظة لبنانيين يناصبونها العداء وخصوصا بعد انشاد انصار “حزب الله” من الاطفال نشيد “سلام يا مهدي” معتبرين اياه خرقا للثقافة اللبنانية ما يشير الى مبالغة كبرى، إلا أن هذه المظاهر تبقى خجولة جدا قياسا بالمناخ اللبناني الموجود لدى طائفة لبنانية تحيي طقوسا دينية بمظاهر حزينة، وتقوم بواجباتها مع الجميع على الطريقة اللبنانية، باستثناء بعض الصور وجزء من خطاب أمين عام حزب الله السيد نصر الله وهو لزوم التحالف مع ايران. بالعودة الى الحاج حسن، فقد دأب الرجل السبعيني على المشاركة في طهو طبق الهريسة التقليدي الذي يواكب شعائر عاشوراء في جنوب لبنان وفي ضاحية بيروت الجنوبية بطبيعة الحال. هذا الطبق يرافق مجالس العزاء يوميا، وهي الطبخة المباركة في عاشوراء يساهم الفقراء والاغنياء في تمويلها وهي تعدّ من القمح والدجاج واللحمة والسمن وتوزّع على الناس مجانا.
يقول الحاج حسن لموقع “مصدر دبلوماسي”:” قدّم الامام الحسين روحه فداء للمسيحيين وللمسلمين على حدّ سواء، وبالتالي لا يمكن ان يستكثر المسلم تقديم طبق الهريسة مجانا، وهي تعطي الاجر لأن صنعها يتطلب وقتا طويلا لا يقل عن 7 ساعات ويجب تحريكها في دست كبير كي لا تحترق”. تواكب مراسم احياء عاشوراء في لبنان تقاليد اجتماعية منها اعداد اقراص حلوى العباس، وتقديم راحة الحلقوم مع البسكويت.
يختلط السياسي بالديني والتاريخي في واقعة عاشوراء، وتقول تقارير صحافية تشرح معاني عاشوراء بأن ” الفرادة التاريخية ميَّزت الظاهرة الحُسينية التي قامت على خلفية تطبيق عدالة الدين في المجتمع لنُصرة المظلومين، أن كافة الأديان تعرَّضت خلال التاريخ لإنقسامات طائفية ومذهبية وبقيت ضمن الإطار الديني البحت، بينما تميَّزت ظاهرة الحسين بأن جعلت الدين مرجعاً عادلاً لإدارة المجتمعات، وتحرير الناس من خوف المطالبة بالحق، وتعميم الإنصاف بينهم وتحقيق ذلك بإسمهم، وإستلهام الأنظمة والقوانين الوضعية التي تُراعي المتغيِّرات عبر العصور، واعتماد سيرة الحسين نبراساً لمسيرة “الولي الفقيه” في إدارة شؤون الدولة واحتضان هموم الناس وتطوير المجتمعات نحو الأفضل، وقد تكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي الدليل الأكبر والتجربة الأعظم، في كيفية دمج التاريخ الحسيني المقاوِم للظلم والإستكبار في الأزمان الغابرة، بدستورٍ عصري وثقافة قومية قائمة على المبادىء الحُسينية لدولةٍ نهضوية عظيمة تُجاري أرقى الدول المتطورة في حداثة الكيانات المعاصرة، من أجلِ شعوبٍ طامحة للعدالة الإجتماعية ضمن الكرامة الإنسانية المقدَّسة.”. هذا التفسير الديني الذي يحمله “حزب الله” ومناصروه ليس محط اعجاب خصومه السياسيين وخصوصا في الآونة الاخيرة بعد أن وصل الاصطفاف الاقليمي الى ذروة الحدّة لا سيما بين ايران والمملكة العربية السعودية، وبين مؤيدي الغرب والولايات المتحدة الاميركية وايران.
لكنّ اختصار السيرة الحسينية بهذا الجانب السياسي فيه الكثير من الظلم، وخصوصا عندما يبدأ مناوئون لـ”حزب الله” بترجمة مظاهر عاشوراء على غير حقيقتها حيث باتت الرموز الحسينية تقترن بأذهان كثر بصعود الطائفة الشيعية من لبنان الى العراق وصولا الى ايران. لكن للرموز معانيها الخاصة: لنبدأ بالالوان حيث تلحظ غلبة الاسود والاخضر والاحمر في الرايات والاعلام كذلك توجد الوان مثل الابيض والازرق والاصفر والوردي وهي بحسب دراسات منشورة تكون بحسب طبيعة النذور التي يقدمها اصحابها.
من المظاهر حملة الرايات، والراية اكبر من العلم وساريته اكبر ايضا ويختلف في اشكاله وفيما يكتب او يرسم عليه. تتقدم الراية المواكب اثناء من مسيرها ومن يحملها يطلق عليهم (حملة الراية).
وهنالك البيرق ويكون حجمه اكبر من بقية الانواع الاخرى ويتراوح طول ساريته بين 10 – 15 مترا، وهو غالبا ما يتقدم المواكب الحسينية في مسيراتها ويحملها احد الاشخاص من ذوي البنية القوية وهو يلوح بها يمينا ويسارا، وهو بثلاثة الوان:
الاسود: ويرمز الى الامام الحسين (ع).
الاحمر: ويرمز الى الامام العباس بن علي (ع).
الاخضر: ويرمز الى اهل بيت النبوة وكذلك الى الحسين والعباس.. وهو ايضا لون ما يعرف ب (العلك).
أما رفع القبضات عاليا فيرمز الى الاستعداد لتلبية النداء. ويتميز الاحتفال كما شاهدناه في الضاحية الجنوبية بمشاركة كبيرة لمواكب اللطم من دون ضرب الحيدر واسالة الدماء، وتتوزع مواكب اللطم بين جامعية وكشفية ومن اعمار مختلفة، وشاهدنا الكثير من الاطفال على مناكب اهلهم يشاركون في هذه المناسبة، وهذا ما يحرص عليه الاهل لكي يزرعوا في ابنائهم حب الحسين وينقلوا لهم قيم كربلاء اي التضحية والاباء والشجاعة والصبر ونصرة الحق من دون السؤال عن الثمن. أما التجمعات الكبرى للشيعة فهي ترمز الى الاحترام الكبير لهذه المناسبة الحزينة التي تمثل المظلومية بمعانيها المختلفة. وتكثر في هذه المناسبة ادعية عاطفية يرددها الرجال والنساء المفصولين في ساحتين أشهرها: هيهات منّا الذلّة، يا أبا عبد الله لا يوم كيومك، وأمير قلبي وسلطان روحي، يا وردة العشق وسواها. تبقى الاشارة الى الجاذبية التي تمثلها هذه الذكرى للمسيحيين في لبنان والعالم. في مقال له كتب أمين بو راشد في موقع المنار في العام 2015 بأن :” ان إعتلاء آلاف المسيحيين من رجال دينٍ ودنيا المنابر العاشورائية عبر تاريخنا المعاصر، ليس من قبيل العلاقة الإنسانية وتبادل الواجبات الإجتماعية كما في الأضحى والفصح والميلاد والإفطار الرمضاني المشترك، بل تأتي مشاركة المسيحيين في عاشوراء من منطلق التفاعل مع الفكر النهضوي للإمام الحُسين عليه السلام، والإضاءة من منظور إنساني شمولي على الثورة الحسينية، وتأكيد واجب وجودها في كل زمان ومكان، حاضرةً في الثقافة المجتمعية وفي الوجدان، من منطلق الحاجة الى استلهامها طالما على الأرض ظالمٌ ومظلوم”.
ويروي بأن:” سيِّدة بلجيكية كانت في زيارة سياحية للعراق منذ نحو ثلاثين سنة تقول: “ذهبت لزيارة كربلاء لأتعرَّف على مراسم عاشوراء، رأيت الدموع تنهمر غزيرة من الحشود الهائلة، لكني قرأت في عيونهم القوَّة وفي سواعدهم العزم وبدوا وكأنهم يزورون الحسين ليس فقط للصلاة بل للتزوُّد بالعزم على مواصلة طريقه في النضال من أجل العدل، إنهم قومٌ لا بدَّ مُنتصرون”.