بوصلة الاثنين-مارلين خليفة
@marlenekhalife
إن زيارة الاماكن المقدسة في القدس المحتلّة والاراضي الفلسطينية السليبة هي حلم كلّ مسيحي ومسلم. اثارت قضية النائب البطريركي عن القدس والاراضي الفلسطينية المحتلة وراعي ابرشية حيفا المطران موسى الحاج احتقانا غير مسبوق في لبنان منذ الاسبوع الماضي وذلك بعد أن تم التحقيق معه من قبل الامن العام اللبناني عند معبر الناقورة بناء على اشارة قضائية وضبطت بحوزته 460 الف دولار اميركي وأدوية تردد في الاعلام بأنها “أمانات” من لبنانيين “مبعدين” يرسلون اموالا الى ذويهم في لبنان وادوية بسبب النقص فيها.
أثارت هذه القضية انقساما حادا في الشارع اللبناني، اعتبرها قسم من اللبنانيين نوعا من التطبيع مع العدو الاسرائيلي، فيما أصرّ البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي على الدفاع عن المطران الحاج، معتبرا بأن الاموال بحوزته هي مساعدات انسانية ومن صلب واجباته الدينية والكنسية ويجب ان تعاد. وصدر بيان عن مجمع كنسي مصغر طالب بإقالة القاضي فادي عقيقي، واصطفّ جميع زعماء الطائفة الى جانب البطريرك الماروني واستنفر الموارنة بأن هنالك من يحاول أن ينسج مكيدة لكنيستهم بسبب مواقف بطريركها السياسية.
إن حجة المكيدة للكنيسة ومحاولة خنق صوتها أمر جائز في لبنان وهو رائج في حقبات عدة ليست بعيدة في الزمن، لكن طالما كانت البطريركية المارونية صوتا للحق وداعية الى تطبيق القانون واحترام القضاء، وبما أن سيادة المطران الذي يتمتع بامتياز لا يحظى به كثر وهو التنقل بين لبنان والأراضي المحتلة وهو أمر يحلم به كل مؤمن في المسيحية والاسلام فيجب أن يحترم القوانين المرعية الاجراء وهي التي تمنع نقل اموال واغراض من اسرائيل وهي لغاية اليوم دولة محتلة وعدوة للبنان.
أما الاصرار من قبل الادارة الكنسية المحلية على تجاوز القانون المرعي فهو مستغرب، ولغاية الآن لا نعلم نحن الموارنة والمسيحيين عموما بأن ديننا هو دين ودنيا، بالعكس فإن السيد المسيح في انجيله المقدّس حين سئل من قبل الفريسيين والهيرودوسيين الذين جاؤوا ليصطادوه بكلمة فقالوا له بحسب ما نقل انجيل القديس مرقس: ” يا معلّم، نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر الى وجوه الناس، بل بالحق تعلّم طريق الله. أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ نعطي أم لا نعطي”؟ فعلم رياءهم وقال لهم: لماذا تجرّبونني؟ إيتوني بدينار لأنظره، فأتوا به، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ فقالوا له: لقيصر، فأجاب يسوع: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. تعلّمنا هذه الآية بأن نعطي كل ذي حق حقه، وفي حالة المطران الحاج فليعط المطران حقه وليعط القانون حقه ايضا.
اراد السيد المسيح في هذا المثل أن يعلم تلامذيه اي الجماعة المسيحية العدالة والاعتدال وخصوصا التعامل مع السلطات الحاكمة بالاضافة الى كيفية التعامل مع الامور الدنيوية والمادية.
لماذا تزج الادارة الكنسية المحلية لبنان في هذا المأزق “الدنيوي” اذن ما يسبب احتقانا قويا بين الطوائف وتبادلا شائنا بالاتهامات بالعمالة؟ إن الاصرار على عدم اعطاء القانون حقه يثير شبهة التطبيع مع اسرائيل، وهو امر يثير شهية الدول الغربية ودول الجوار وخصوصا الدول الخليجية المطبّعة مع اسرائيل. إن التطبيع هو اليوم “موضة” لدى البعض واداة ضغط اقتصادية، وفي لبنان لا توجد لغاية اليوم ارضية قابلة له لدى معظم الطوائف اللبنانية. لا نريد الذهاب بعيدا كما فعل البعض واتهام البطريركية بالتطبيع، لكن، أن تتخذ طائفة مؤسسة للكيان ولها كل هذا المدى الحيوي الغربي والعربي خيار عدم معاداة الكيان الصهيوني بحجة المساعدات الانسانية هو أمر سيدخل الطائفة ولبنان في نفق مظلم، إلا أذا كان من تسوية قائمة مع الطوائف اللبنانية قاطبة ليست معلنة لغاية اليوم، وهذا ليس ظاهرا بعد.
ليس البطريرك الراعي اقوى من بشير الجميل، رئيس الجمهورية السابق الذي تم اغتياله، والمتهم من قبل خصومه انه انتخب بضغط اميركي اسرائيلي، بشير، وبعد انتخابه القصير زمنيا قبل اغتياله تحول الى من قائد حربي الى رجل دولة فعلي ورفض الاسهام باتفاق سلام مع اسرائيل طالبا موافقة المكونات اللبنانية كلها، ويتردد في الكتب التي قرأناها أن هذا هو سبب اغتياله.
لا يمكن لطائفة صغيرة مهما بلغ شأنها، وهي قوية فعليا لأنها ابنة الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية ولأنها ذات مدى حيوي عالمي، لا يمكنها اتخاذ خيارات لوحدها “بالكزدرة” الى اسرائيل وحيدة بلا رضى جميع اللبنانيين.
وبعد، إن الترهيب الفكري الذي يتعرض له المسيحيين ممن ينتقدون موقف البطريركية غير مقبول فلا احد ينتقد الكنيسة وهي أمنا كمسيحيين ونذكرها في قانون ايماننا قائلين: “نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية”، إنما النقد يجوز للادارة الكنسية وهذه الحرية هي في كنه الدين المسيحي وقد تعلّمناه في المدارس من آبائها.
“المشوار” الى الاراضي الفلسطينية المحتلة لا سيما القدس هو حلم كل مسيحي، لكن على المسيحيين عموما والموارنة خصوصا أن يعوا بأن ثمة عائلات لبنانية اكتوت بنار الاحتلال في جنوب لبنان، وخسر أبناءها حياتهم اثناء مقاومته وتعذّب ذووها في سجون الاحتلال وعملائه من اللبنانيين من الطوائف كلّها، هؤلاء اللبنانيون لديهم قضيتهم وواجبهم تجاه من خسروهم بأن يستمروا بالدفاع عنهم ضد كل من يشكون بتعامله مع العدوّ الاسرائيلي وهذا حقهم.
في الوقت عينه، على بقية الطوائف ايضا أن تتفهم هذا المدى العاطفي المسيحي مع مقدسات محتلة وعليها تاليا ان تهدأ قليلا وان تخفف من اتهاماتها لافساح المجال لمعالجة الامر بصوابية وحكمة وهدوء لأنه مهما كانت خلفيات قضية المطران فنحن محكومون بالعيش سويا في هذا البلد.