“مصدر دبلوماسي”
بقلم رانيا حتّي*
جاءت الانتخابات النيابية في لبنان في 15 أيار 2022 على وقع حوادث ومتغيّرات دولية وإقليمية وبعد أزمات سياسية وإقتصادية وإجتماعية داخلية احتدمت منذ 17 تشرين الأول 2019 ولغاية اليوم. ما يلفت الإنتباه، بأن تلك الأحداث المأساوية التي تعرض لها اللبنانيون لم تكن عفوية بمعظمها، والدليل على ذلك، إعترافات مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر قبل يومين من الإنتخابات النيابية بدور واشنطن في أزمة لبنان عبر تسريع الإنهيار المالي وترقبه إلى ما ستؤول إليه نتائجها. إلى جانب كل ذلك، لا بد من قراءة موضوعية لنتيجة الإنتخابات النيابية الحالية، مع الأخذ بجميع تلك المعطيات ضمن إطار التحليل.
في البعد الدولي والإقليمي
إن نتائج الأزمات اللبنانية الداخلية في معظمها، لم تكن إلا إنعكاساً للحروب الباردة والساخنة الإقليمية والدولية . وهنا لا بد من الإشارة، بأن الأزمات المحلية في لبنان أتت في “عهد” رئيس الجمهورية ميشال عون، بالتزامن مع فترة حكم الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب ومشروعه الإستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط الذي توّجه بما أطلق عليه “صفقة القرن”. إن انخراط أغلبية الدول الخليجية في تلك الصفقة التي تقضي بتوطين الفلسطينيين في بلدان اللجوء عدا عن التخلص من كل حركات المقاومة والممانعة لتلك الصفقة بما فيها بعض الأحزاب والتيارات اللبنانية من بينها التيار الوطني الحر وحزب الله، بالإضافة، إلى عوامل أخرى، دفعت تلك القوى المذكورة ( الخليجية -الأميريكية) الى السعي الحثيث لوضع يدها على ثروة لبنان النفطية والتحكم بها كما تشاء عبر أدواتها المحلية وتأتي في مقدمتهم القوات اللبنانية بشكل خاص نظرا لوجودها في الشارع المسيحي الذي يتزعمه “التيار الوطني الحر” المتحالف مع “حزب الله”.
انطلاقا من هذا السياق، استغّلت الولايات المتحدة الى جانب حلفائها الإقليميين الأزمات المعيشية والإقتصادية المتوالدة في لبنان للضغط على معارضي الصفقة الكبرى و”شيطنتهم” عبر حرب الجيل الرابع “التكنولوجية ” وعبر استخدام كل وسائل وأدوات الثورات الملونة. ولكن، بالرغم من ذلك، لم تستطع خرق بيئاتهم الشعبية وسط الوضع المأساوي والمذري لها وبالرغم من ترويعهم وترغيبهم.
تعود صلابة مناصري التيار الوطني الحر خصوصاً، إلى وعيهم السياسي بما يجري من مخططات خارجية وداخلية ما جعل البيئة “البرتقالية” “تنتفض” على المخططات الخارجية عبر صناديق الإقتراع بالرغم من المال السياسي إقليمياً ودولياً. بعد محاولات رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع انتزاع الأكثرية النيابية من رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، بغية ترؤس المواجهة ضد حزب الله مباشرة باءت محاولاته بفشل ذريع سيكون له تداعياته على المشروع الاقليمي والدولي الذي يمثله. ولا بد من التذكير بأن حوادث الطيونة الأمنية (المتهمة فيها القوات اللبنانية بقتل 7 مواطنين لبنانيين عزّلا كانوا يتظاهرون ولا يزال الملف قيد التحقيقات في القضاء) شكلت “بروفا” لما سيحدث فيما لو نالت القوات الأكثرية المسيحية .
نتائج الإنتخابات
أشعلت الجيوش الالكترونية لحزب القوات اللبنانية مواقع التواصل الإجتماعي عبر حملات بروباغاندا احتفلت بفوزها بالأكثرية المسيحية في البرلمان الجديد الذي سينتخب رئيسا جديدا للجمهورية بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال عون في تشرين الاول القادم، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي سفنها. فبعد إيهام المجتمع اللبناني بأنها استحوذت على الأكثرية النيابية، تبيّن بأنها إدعاءات لا طائل منها سوى بث الإشاعات لإحباط مناصري التيار الوطني الحر وايصال رسالة مباشرة لحلفاء جعجع في الخارج بأن المواجهة مع “حزب الله” قد فتحت على مصراعيها في المستقبل القريب وبأن القوات اللبنانية ستفرض شروطها داخلياً وإلا ” فالطيونة” مجدداً .
إلا أن توقعات القواتيين أتت بعكس أحلامهم حيث تصدّر التيار الوطني الحر مجدداً الأكثرية النيابية (23 نائبا مع العلم ان النتائج الرسمية لم تصدر كلها بعد) وأحدث صدمةً للمجتمع الدولي والإقليمي والمحلي، وخصوصاً، بعد سيطرة المال الإنتخابي في معظم الدوائر المسيحية. لا بل، كانت الصدمة الكبرى في معقل سمير جعجع في بشري بخرق وليم طوق المقعد الماروني بدعم من تيار المردة الخصم التاريخي لجعجع، وذلك بعد خرق بشري بالمازوت الإيراني قبل ذلك بفترة.
بالمختصر، وبعيداً من المواضيع الإقليمية والدولية وصفقات المنطقة والحروب الباردة والساخنة وانعكاساتها الداخلية، على كل الأحزاب والتيارات السياسية القيام بقراءة موضوعية لنتائج الإنتخابات وما أفرزته من تغييرات في كل المناطق و إدراك هواجس المواطنين المعيشية والإقتصادية، فالمواطن اللبناني الذي “انتفض” بوجه الواقع المرير والإذلال الذي تعرض له،لا شك يسعى للتغيير أيضاً داخل تياره إن كان من خلال ترشيحه جيلاً جديداً يحاكي تطلعاته المستقبلية مثلما أفرزت نتائج الإنتخابات وجوهاً شبابية، مثقفة وتغييرية غير تقليدية. وإلا لن تسلم بعض الأحزاب وخصوصا في المناطق ذات الأكثرية المسيحية ما لم تُحدث تغييراً في النهج ومواكبة التحولات التغييرية التي تقود معظمها المخططات والصفقات الخارجية المستمرة.
*رانيا حتّي: أكاديمية وباحثة في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية