“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
لن تحصل أية مقايضة على دماء ضحايا انفجار مرفأ بيروت ولا على دماء شهداء الطيونة الذين سقطوا بسلاح القناصة في 14 الجاري، فدماء الشهداء في الانفجار وفي مجزرة الطيونة لن تذهب هباء ولن تكون هاتين الكارثتين في تاريخ لبنان مطيّة لمقايضات السياسيين.
يبدو هذا التأكيد شديد الأهمية حين يكون الموقف الذي يحمله “حزب الله” الذي يرفض رفضا قاطعا الزيارات المفاجئة التي قام بها البطريرك الماروني بشارة الراعي الى الرؤساء الثلاثة، إثر زيارة وفد قواتي له في بكركي بعد استدعاء رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع للتحقيق لدى مديرية المخابرات في الجيش بناء على طلب مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي الذي اعطى اشارة بالاستماع الى افادة جعجع كشاهد على خلفية الاعترافات التي أدلى بها الموقوفون في هذا الملف.
إلا أن جعجع رفض المثول، وقام البطريرك بجولة على الرؤساء الثلاثة كانت تستهدف بالأصل رئيس المجلس النيابي نبيه برّي فحسب نظرا لأنه أيضا ولي الدّم مع “حزب الله” إذ سقط له 3 متظاهرين مناصرين لحركة أمل بينما سقط 4 لحزب الله من بينهم السيدة مريم فرحات التي قتلت برصاصة وهي على شرفة منزلها.
هذا الرفض الذي قام به رئيس حزب القوات اللبنانية، والذي تظهّر بشكل فاقع في المقابلة التي اجراها على قناة أم تي في، بالاضافة الى الجولة البطريركية “المتسرعة والخاطئة” بحسب اوساط مقربة من “حزب الله”، كانا لهما مردودا سلبيا على جعجع وسرديته حول تشبثه بالعدالة ومطالباته بمثول كل المطلوبين في قضية المرفأ أمام المحقق العدلي طارق البيطار، وعدم إصغائه الى شكاوى المطلوبين ومنهم مدّعى عليهم بأن القاضي مسيّس ويطلب التحقيق مع شخصيات تابعة لمحور معين هو الممانعة أو أقله مقربة من هذا المحور. وحين طلب جعجع للمثول كشاهد، رفض ووصف القاضي عقيقي بأنه “مفوض “حزب الله” لدى المحكمة العسكرية”.
في هذا السياق، تؤكد الأوساط لموقعنا بأن “حزب الله” لن يقبل المقايضة التي يسوّقها الراعي، ولن يعود الى اجتماعات الحكومة قبل ايجاد حل لقضية المحقق العدلي طارق البيطار. وللتذكير فإن الحزب يطالب بكف يده تماما عن تحقيقات المرفأ.
النقطة الثانية التي يتوقف عندها خصوم جعجع تتمثل بأنه قال في مقابلته الاخيرة بأنه لم يكن يشكّك يوما بأن حزب الله له علاقة بانفجار المرفأ نظرا الى الامكانات اللوجستية والبشرية الواسعة التي يتمتع بها الحزب والتي تعفيه من ان يكون محتاجا لنيترات المرفأ، ولكنه حين سمع أمينه العام السيد حسن نصر الله يشكك بالتحقيق ويقول أنه مسيس أصبح على يقين بان للحزب ما يخفيه في قضية انفجار مرفأ بيروت. هذه السردية، ترد عليها اوساط مقربة من “حزب الله” بأنها مردودة بوجه صاحبها، فإذا كان يعتمد هذا المنطق، فلماذا يتردد في المثول كشاهد امام المحقق؟ إذن هو لديه ما يخفيه. وبحسب المعلومات التي حصل عليها موقع “مصدر دبلوماسي” من أوساط متابعة للتحقيقات فإن الشبان الذين تمّ التحقيق معهم لدى مخابرات الجيش أدلوا بمعلومات دقيقة جدا عن التحضيرات التي سبقت مجزرة الطيونة: استقدام قواتيين بسلاحهم وبسياراتهم من عدة مناطق لبنانية، واعطاء الاوامر لهم بالتمركز في اماكن محددة. وقال الشبان بأن من اعطاهم الاوامر هو المسؤول الامني الشخصي لجعجع سيمون مسلم، وتتساءل الاوساط هل يعقل أن يكون مسلم تصرف بقرار شخصي مرسلا كل هؤلاء الشبان دون علم رئيس الحزب؟ وبالتالي تخلص الاوساط الى القول بأن جعجع لديه ما يخشاه لذا لا يريد المثول امام المحقق. أما الدليل الآخر فيتمثل بإيفاد البطريرك لترقيع ما يمكن ترقيعه ولمقايضة قضية انفجار المرفأ بقضية الطيونة. وهنا تجزم الاوساط المقربة من “حزب الله” الى أن الحزب لن يقبل البتة هذه المقايضة لأنه لن يرضى إلا الوصول الى الحقائق الدامغة والكاملة في ملف انفجار مرفأ بيروت بالرغم من أنه غير معني به.
وبحسب المعلومات فإن هذا الموقف يتبناه أيضا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لكن لحسابات الكيدية السياسية التي يعتمدانها في خصومتهما مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري. وبالتالي لن يتخلى “التيار الوطني الحر” عن ورقة القاضي البيطار الذي “يجرّ” خصومه مثل النائب علي حسن الخليل للتحقيق لتقديمها مجانا لخصمين له هما نبيه بري والبطريرك بشارة الراعي.
النقطة الثالثة، هي أن التكهنات من أن سلوك “حزب الله” انعكس إيجابا على شعبية جعجع في الشارع المسيحي هي غير دقيقة. بالعكس، فبحسب الاوساط المذكورة فإن اللحظة الاولى لحوادث الطيونة مدّت جعجع ببعض التعاطف في الشارع نظرا لهول الحدث، وبعد أن ظهر في المقابلة الاولى التي اجراها على شاشة بيروت انترناشونال مزهوا بقيامه بـ”ميني 7 أيار مسيحي ضد “حزب الله” كما وصفه.
وسرعان ما تبدّد التعاطف بعد ظهور حيثيات الهجوم المسلّح والمدبّر مسبقا، وتبيان أن المتظاهرين تعرضوا لكمين لكي يدخلوا الى أحد احياء عين الرمانة، ثم اعتماد جعجع سردية مناقضة في مقابلته الثانية على “أم تي في” استبعد فيها كليا أن يكون هؤلاء الشباب من “حركة أمل” مركزا على “حزب الله” الذي ابتعد مناصروه عن مكان الحوادث ليلتزموا قرار قيادتهم بعدم الانجرار الى أي رد قد يقود البلد الى ما لا تحمد عقباه. ثم نفى نفيا قاطعة سردية “الميني 7 أيار مسيحي” لتتحول الى 7 أيار قاده “حزب الله” على المسيحيين. هذا التردد والإرباك في السردية صدمت الكثير ممن تعاطفوا مع قائد مسيحي جعلوه في لحظة وجدانية متماهيا مع بشير الجميل رئيس الجمهورية الاسبق والقائد المسيحي الذي تم اغتياله في العام 1982. فتبيّن أن الامر غير صحيح، وأن السردية الاولى باتت عرضة لتغييرات جذرية تلائم المأزقين السياسي والقضائي اللذين يطوقان جعجع.
بالإضافة الى خيبة أمل جمهور جعجع من الاستماع الى خطاب يوازي أو يتفوق على خطاب أمين عام “حزب الله” بمواقف تصعيدية، وعلى عكس الحالة العاطفية التي ظهرت بعد حوادث الطيونة والتي أعطت الانطباع بأنه الوحيد القادر على حماية المسيحيين ومواجهة “حزب الله” فهي اضمحلت كليا في الفترة الزمنية الفاصلة بين المقابلتين، وخصوصا وان الحقيقة ظهرت من خلال خطاب أمين عام “حزب الله” الذي توجه فيه بوجدانية غير مسبوقة الى المسيحيين.
لكن الخيبة الكبرى بحسب المراقبين المناوئين لجعجع كانت لدى حلفائه من الاميركيين والسعوديين. وهنا تبرز قصة تتردد في الصالونات المناوئة لجعجع، تشير الى ان حلفاء جعجع وداعميه وفي مقدمتهم السعوديين، طلبوا منه التحرك على الارض وعدم الاكتفاء بالخطابات الرنانة تجاه “حزب الله”. بطبيعة الحال، تهيب جعجع الموقف وحاول –بحسب رواية الاوساط المناوئة له- أن يجمع حوله الحزب التقدمي الاشتراكي الذي لديه كما يتردد 5 آلاف مقاتل وأن يضمهم الى مقاتليه الـ15 الف كما أسرّ لوليد جنبلاط منذ قرابة العام، بالإضافة الى 10 آلاف بين سنّة يوفرهم أشرف ريفي وسواه من القوى السنية، لكن جميع هؤلاء رفضوا الدخول في قلاقل امنية وخصوصا قطع طرقات تستهدف مناطق حيوية لحزب الله مثل طريق الجنوب على سبيل المثال لا الحصر، وحوادث دامية منها حادثة خلدة، فاضطر جعجع لأن يقود المواجهة لوحده، فأسقط في يده وفي يد من دفعوه الى مغامرة غير محسوبة العواقب حسمها “حزب الله” لصالحه من دون أن يطلق “خرطوشة” واحدة: فأفقد جعجع صدقية أما حلفائه وأمام شارعه بحسب الاوساط المذكورة.