“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
تعتبر الدبلوماسية الاقتصادية جزءا من الدبلوماسية العامة وهي تسعى الى التوجه لصناع القرار والرأي لبناء جسور التعاون بين لبنان وتلك المجتمعات. في هذا السياق صدر أخيرا كتاب يعتبر مرجعيا بعنوان “الدبلوماسية الاقتصادية في عصر العولمة” للدكتور وسام كلاكش ( 441 صفحة عن الدار العربية للعلوم) كتب مقدمة الكتاب وزير الخارجية والمغتربين السابق الدكتور ناصيف حتّي ومما قاله:” “لقد اختار الدكتور وسام كلاكش موضوعا جديدا ومبتكرا على صعيد الكتب والابحاث المنشورة في العالم العربي، فقام برصد العمل الدبلوماسي على المستوى الاقتصادي، بكافة اهدافه ومفاهيمه، فضلا عن التطرق الى ارتباط الوظائف الاقتصادية بعمل البعثات الدبلوماسية والقنصلية. وهذا ما يقود مستقبلا الى وضع خارطة طريق علمية لكيفية ممارسة الدبلوماسية على ارض الواقع”.
عرض الكاتب الى تجارب عدد من الدول الرائدة في مجال الدبلوماسية الاقتصادية ولا سيما دول كإسبانيا واليابان وبريطانيا وماليزيا والمغرب ومصر وروسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية، فضلا عن التطرق الى تجربة الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية عارضا بالتفصيل لوظائف الملحقين الاقتصاديين وللأدوار الاقتصادية للدبلوماسي اللبناني وخصوصا يف بلدان الاغتراب.
وعرض الى اصول الدبلوماسية الاقتصادية كونها تعتبر من اهم المحركات الواعدة في عصر ثورة التكنولوجيا والمعلومات، واضعا حركة المكونين السياسي والاقتصادي، في عمل هذا النوع المتقدم من الدبلوماسية، ضمن أطر تتفاعل ايجابا وتولّد نماذج متعددة ومبتكرة في العمل الدبلوماسي. وكتب كلاكش وهو دبلوماسي في وزارة الخارجية والمغتربين في مقدمة الكتاب:
“يسعى هذا الكتاب الى رصد آليات الدبلوماسية الاقتصادية والفروع الناشئة عنها وتفكيكها. كما يعمل على دراسة تطوّر العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية ومدى انعكاس ذلك على الممارسة الدبلوماسية. ونعتقد أنه من أجل تحقيق هذا المقصد، ينبغي الانكباب على إجراء مقاربة من زاويتين: نظرية وواقعية عملية، المقاربة النظرية تفيد في تحديد الأطر العلمية لمقاربة الدبلوماسية الاقتصادية عبر فهم تطور الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الاطراف. أما المقاربة العملانية فتعطي صورة واضحة عن انعكاس التحولات النظرية على صعيد الممارسات الدبلوماسية على ارض الواقع”. وأشار:”أدت التحولات والتطورات المذهلة في عصرنا الى بروز اختصاصات وفروع علمية تستحق الدراسة والرصد وبرزت منها الدبلوماسية الاقتصالدية كمفهوم مبتكر للعمل الدبلوماسي، ويجمع في طيّاته الاقتصاد والسياسة”.
ولفت كلاكش:” في المجتمعات الحالية بات هذا النوع من الدبلوماسية يشكّل وسيلة مفيدة للمجتمع السياسي لاستخدامها، ليس لمقاصد اقتصادية فحسب، بل لبلوغ اهداف سياسية تتعلق بالمصالح المادية للدول، ومحاولة ترجيح موازين القوى بينها وبين العالم الخارجي لصالحها. وتأتي الثورة التكنولوجية وتحديدا القفزة الهائلة في تقنيات الاتصالات وتبادل المعلومات لتمنح الدبلوماسية الاقتصادية قدرات وامكانات واسعة بغية تعزيز الانشطة الاقتصادية ومضاعفة التبادل التجاري الدولي، وهو ما يضع الموارد المادية والطبيعية كافة في خدمة صنّاع القرار”.
تسعى هذه الدراسة بحسب كلاكش- ” الى رصد ظاهرة الدبلوماسية الاقتصادية من كل جوانبها. وإذ تركّز على مقاربتها نظريا، من خلال دراسة نظريات العلاقات الدولية الاقتصادية، فإنها تخوض في محاولة اجراء دراسة عملية عبر عرض نماذج واقعية لكيفية ممارسة هذا النوع من الدبلوماسية. وفي هذا الاطار، سنفرد قسما خاصا في البحث، لتناول الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية، بعد القفزات النوعية التي شهدتها خلال السنوات الماضية. ولعل السؤال الاساسي الذي تطرحه الدراسة وتسعى الى ايجاد الارضية اللازمة للاجابة عنه يكمن في الآتي:
كيف تؤثر السياسة في الاقتصاد من خلال الدبلوماسية الاقتصادية؟ وهل من حدود فاصلة بين ما هو سياسي وبين ما هو اقتصادي في ممارسة هذا النوع من العمل الدبلوماسي؟”.
مفاهيمها واهدافها
في تعريف عناصر الدبلوماسية الاقتصادية يقول كلاكش بأنها “الادوات والتقنيات التي يستعملها اللاعبون الرسميون والخاصون من اجل خدمة المصالح الاقتصادية للدولة الوطنية وحمايتها في المجال الدولي”. مشيرا الى صعوبة في تعريف الدبلوماسية الاقتصادية “بالنظر الى طبيعتها الهجينة، فالأدوات التي تنطوي عليها فيها جوانب سياسية واقتصادية لا يمكن تجزئتها عضويا، او بالأحرى تتضمن جوانب متعددة تبدو للراغب برصد حركتها عسيرة على التمييز بعض الشيء كونها تقع في المنطقة الرمادية للفحص العلمي”.
تطورها…بدأت منذ القرن الـ15
بدأت فاعلية الدبلوماسية الاقتصادية مع ازدهار التبادل التجاري في اوروبا، وخصوصا في القرن الخامس عشر في ايطاليا وبريطانيا، لا سيما من خلال التفاوض من اجل ابرام معاهدات ذات طابع سياسي وتجاري. وقد كان الغرض من هذه المعاهدات انشاء علاقات تجارية، إن لم تكن هذه العلاقات قائمة بالأصل. ويمكن اعتبار المعاهدة التجارية التي عقدت بين بريطانيا وفلورنسا في العام 1490 نموذجا حسنا لهذا النوع من المعاهدات. وبموجب تلك المعاهدة تعهدّت الأولى للأخيرة بأن تترك لها احتكار تجارة الصوف في ايطاليا، وتعهّدت فلورنسا مقابل ذلك بأن تسمح بتأسيس نقابة رسمية للتجار البريطانيين في مدينة “بيزا”، على أن تكون خاضعة لسلطة القنصل البريطاني. وشملت تلك المعاهدة تحديد شكل المحكمة التي ستنظر في النزاعات التجارية التي قد تنشأ مستقبلا، بين تاجر بريطاني ومواطن من مدينة “بيزا”، فنصّت على تشكيل تلك المحكمة من شخصين اثنين هما القنصل البريطاني وحاكم مقاطعة “بيزا”. وكانت هذه الحادثة كفيلة بالإيحاء لليونانيين بفكرة ألا وهي ابتكار منصب القنصل الذي يغطي الشؤون التجارية، فبعد أن كان قنصل اليونان يتولّى رعاية مصالح مواطنيه الذين يختارونه لتولي هذا المنصب، صار يتقاضى راتبا من مواطنيه التجار الذين يقيمون في البلد يعمل فيه، ثم اصبح يتمتع بصلاحيات قضائية. كما عمدت فلورنسا الى فتح بعثات قنصلية تجارية لها خارج القارة الاوروبية على غرار انتشار بعثة لها في مدينة صيدا اللبنانية في العام 1630، وذلك بالتوازي مع الازدهار الاقتصادي الذي عرفته الاخيرة جينما كانت عاصمة الامارة في عهد المير فخر الدين (…). وبهذا بدأنا نلمح بداية تأثير المصالح التجارية في الدبلوماسية وفي السياسة الخارجية وتكريس ذلك بنصوص قانونية لها صفة الالزام للأطراف الموقعة عليها. وقد تعمّق هذا المنحى المؤسساتي أكثر في عمل الدبلوماسية الاقتصادية، وتلازم مع التوسع التجاري للدول الكبرى، حيث انتقلت الدبلوماسية، في العام 1919 عبر مؤتمر الصلح في فرساي، من طابعها القديم الى طابعها الحديث. ويعود ذلك التطور الذي اوصل الى بداية ما يمكن ان يسمّى “دبلوماسية المؤتمرات” الى التأثير الناجم عن عوامل ثلاثة، ظلّت تتفاعل منذ زمن غير بعيد حتى بلغ تأثيرها ذروته في اعقاب الحروب المنسوبة الى “نابوليون”.
صار هنالك تلازم مع بداية القرن العشرين بين الشأنين السياسي والاقتصادي من قبل الحكومات في علقااتها الخارجية. ويظهر لنا جليا ان المجالات التي يمكن ان تعمل فيها الدبلوماسية هي واسعة وتنوعة، وتتوقف على الغايات المنوي الوصول اليها. ومن بين المجالات التي يمكن ذكرها في هذا السياق ما يلي: تعزيز الصادرات الى الخارج، جذب الاستثمارات وتوريدها، التفاوض مع الخارج حول السياسات النقدية والحالية للدولة، استقطاب الصناعات المعرفية والتكنولوجية من الخارج، استقطاب اليد العاملة المهاجرة، مشاريع الطاقة والطاقة المستدامة والتعاون الدولي على هذا الصعيد، التعاون في مجال الامن الاقتصادي والتعاون الدولي من اجل تنفيذ مشاريع تنموية. (…).
الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية
اختار الكاتب بالنسبة الى الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية، ما أسماه “عيّنة اختبارية” للفترة الممتدة من العام 1990 الى اليوم، ويقول انه للامانة العلمية فإن الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية (بصورها التقليدية المندمجة مع الدبلوماسية السياسية) موجودة منذ الاستقلال في العام 1943، ومن خلال اوجه متعددة سواء في الإتفاقيات الدولية او المؤتمرات الاقتصادية، فضلا عن تواجدها في البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة بأشكال وصيغ مختلفة. وقارب الكاتب الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية عبر فرزها الى مرحلتين زمنيّتين: تتناول الأولى الحقبة الممتدّة منذ انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990 حتى العام 2006، وتغطي الثانية الفترة الزمنية القامة منذ العام 2006 حتى يومنا هذا”. (…)
خصائص الحقبة الاولى 1990 2006، بحسب كتاب الدكتور كلاكش: تميزت هذه الحقبة، بأنها تعبّر بأمانة عن النتائج الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي خلص اليها، بالدم والنار، الصراع الاهلي في لبنان، فكانت الاولويات الدبلوماسية تتركز من ضمن ما تكزت عليه لملمة آذار هذه الحرب واعادة تعزيز السلك الدبلوماسي اللبناني ورفده بالموارد البشرية والمادية اللازمة، بعد أن تناقص عدد الدبلوماسيين اللبنانيين كثيرا بفعل الاحالة الى التقاعد، وعدم التمكّن من اجراء مباريات تعيين دبلوماسيين جدد لعشر سنوات خلت، أي من العام 1982 حتى 1992 بسبب الاضطرابات الداخلية. (…). وكان ايضا من نتائج نهاية الاقتتال الداخلي أنها سمحت للقيّمين على الشؤون الدبلوماسية بدراسة كيفية اعادة تموضع البعثات الدبلوماسية في الخارج. فاتخذت في هذا المجال قرارات مسؤولة في سبيل تقوية الحضور اللبناني، وذلك عبر تأسيس عدد من البعثات الدبلوماسةي الجديدة وتوزيعها جغرافيا على القارات الثلاث في آسيا واوروبا واميرما اللاتينية.
بالنسبة الى النصوص القانونية يوجد نصان قانونيان يرعيان عمل الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية، يتعلقان بعمل مديرية الشؤون الاقتصادية في وزارة الخارجية والمغتربين وبشروط تعيين الماحقين الاقتصاديين في البعثات الدبلوماسية.
بالنسبة الى الدبلوماسية اللبنانية من العام 2006 حتى يومنا هذا، منذ العام 2014 اسهم وزير الخارجية جبران باسيل في تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية كذلك تزايد دور البعثات الدبلوماسية اللبنانية في الخارج من حيث النشاط الاقتصادي عبر التوفيق بين رعاية المصالح اللبنانية في البلد المعتمدة لديه منةجهة، وتعزيز التنسيق الداخلي مع الادارات المعنية في لبنان من جهة اخرى. وكان من ضمن الخطوات البارزة التي تحققت للدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية بعد انقطاع زمني تعيين 20 ملحقا اقتصاديا في البعثات الدبلوماسية في الخارج بعد امتحان خضعوا له في وزارة الخارجية والمغتربين. وصدر القرار رقم 61 بتاريخ 21 أيار 2018 والقاضي بتعيين الناجحين في البعثات في الخارج. إن هذا القرار التنفيذي لمندرجات ما نصّ عليه المرسوم الصادر في العام 1971 حتى وإن جاء متأخرا بعد 47 عاما، فإنّه يشير الى اكتمال أدوات الدبلوماسية اللبنانية في الخارج، ليبدأ العمل بعده على احداث قفزات نوعية في الدبلوماسية الاقتصادية”. ويخلص الكاتب الى أن “تعيين الملحقين الاقتصاديين وبدء عملهم في الخارج، يمكن له بالتوازي مع انشطة الدبلوماسية التقليدية ان يفتح آفاقا للاقتصاد اللبناني عبر تعظيم استفادته من علاقات لبنان الخارجية”.