“مقالات مختارة”
داود رمّال
مجلّة الامن العام
استحوذ العمل الشاق في اتفاق الاطار للتفاوض غير المباشر بين لبنان والعدو الاسرائيلي برعاية الامم المتحدة وبوساطة مسهلة من الولايات المتحدة الاميركية على عقد من الزمن، حيث خاض رئيس مجلس النواب نبيه بري جولات مضنية تمسك فيها بالثوابت والمبادئ الوطنية المجمع عليها دستوريا وشعبيا، حتى تمكن من صياغة الورقة النهائية بابرة الصبر.
الركيزة الاساسية لاتفاق الاطار الذي وضعت مسودته في مرحلة الموفد الاميركي اموس هوكشتاين، كانت النقاط الاربع الاولى الواردة في الاتفاق والتي اضيفت اليها نقطتان تتعلقان بطلب الوساطة الاميركية وحصرها بالترسيم البحري طالما ان الخط الازرق البري في عهدة اللجنة العسكرية الثلاثية بقيادة الامم المتحدة. ولولا الانقطاع الطويل من الموفد الاميركي عن مواصلة مهمته والذي وصل في بعض المراحل الى سنة، في موازاة التعنت الاسرائيلي، والذهاب في طروحات بعيدة من الهدف الاساس وهو الترسيم وفق القانون الدول وقانون البحار، لكان يفترض ان يعلن هذا الاتفاق قبل سنوات مع مباشرة التفاوض، وربما كنا اليوم امام واقع مختلف لجهة بدء الاستئثار في الثروة النفطية والغازية.
هذا العمل التفاوضي الشاق والشيق اوجزه لـ”الامن العام” في رواية رسمية لمسار المفاوضات مستشار رئيس مجلس النواب علي حمدان الذي اوكل اليه الرئيس بري منذ البداية متابعة هذا الملف بكل تفاصيله ودقائقه.
* متى طرحت الفكرة الاولى للترسيم البحري، وكيف تم تسويقها محليا وخارجيا وصولا الى الوسيط الاميركي؟
– في حقيقة الامر هي ليست فكرة بل شكوى، اكتشفت ما بعد نية لبنان الاستثمار في مياهه الاقليمية ومياه المنطقة الاقتصادية الخاصة، وعلى اثر الترسيم مع قبرص والذي اكتنفه شيء من الخلل، استغله العدو الاسرائيلي ليعتبر ان ما بني بالترسيم مع قبرص هو نهائي. وادعى ان النقطة الاخيرة افقيا ما بين لبنان وقبرص لجهة الجنوب بانها النقطة النهائية، وانها نقطة ثلاثية مشتركة، واعلن هذا الموقف. من هنا اكتشف بأن هناك ادعاء اسرائيليا في المنطقة الاقتصادية الخاصة في لبنان.
* متى تسلم الرئيس نبيه بري ملف البحث عن اتفاق اطار ومتى انطلق في رحلته الشاقة في شأنه؟
– بعد الادعاء الاسرائيلي في المنطقة الاقتصادية الخاصة، كان تحرك لرئيس مجلس النواب نبيه بري. هذا التحرك نابع من العمل على المعالجة وحماية السيادة اللبنانية، ولأن قبرص دولة صديقة كانت له زيارات اليها واثار الامر مع الرئيس القبرصي والمسؤولين فيها، علما ان لجنة الاشغال النيابية كان لها صولات وجولات في الموضوع، في محاولة لتدارك الامر وتصحيحه لأن الخلل الذي حصل مع قبرص كان يمكن تجنبه. لكن وقعت الواقعة والقبارصة لم يلتزموا الاتفاق مع لبنان الذي هو غير مصادق عليه حتى الان، لأنه عند المفاوضات مع الطرف الاخر جنوبا، وهو العدو الاسرائيلي، يجب عليهم اعلام لبنان. لكن الجانب القبرصي انهى هذه الخطوة مع العدو من دون اعلام لبنان، وهذا خلل. تأكيدا على الحق اللبناني، بوشر التحرك لردع العدو الاسرائيلي، وهذا كان مع بدايات العام 2009، وقد اثير الامر مع الامم المتحدة.
* كيف كان موقف الامم المتحدة من الامر؟
– كان هناك محاولة لتتجنب الامم المتحدة الانخراط في هذا الامر بحجة انها حدود بحرية. الجواب اللبناني كان دائما بأن القرار 1701 ناطق وصريح، وهناك قوة بحرية للامم المتحدة. انتم تتحدثون عن الحدود اللبنانية وهذا الامر جزء من الحدود اللبنانية. في الزيارة الثانية للامين العام السابق للامم المتحدة بان كي مون الى لبنان، اثار الرئيس بري الامر مع ضيفه، يومها اشار بان كي مون الى انه من المفيد الاتصال بالولايات المتحدة الاميركية لأن في استطاعتها المساعدة، ونحن جاهزون.
* هل انتقلتم حينها الى الخطوة الثالثة وهي الاتصال بالولايات المتحدة الاميركية؟
– حصل الاتصال مع الولايات المتحدة الاميركية، واثار الرئيس بري الامر طالبا وساطتها، وبعد اخذ ورد كان له ما اراد.
* تعددت وجوه الوفود الاميركية على هذا الملف وانتقل من موفد الى آخر، هل في الامكان اطلاعنا على ما تحقق مع الموفدين؟
– في البداية تم تعيين السيناتور جورج ميتشل والمبعوث فريدريك هوف، وكان زيارة ميتشل يتيمة تنحى بعدها واستمر هوف الذي حاول ايجاد ما يسمى خط هوف. في اثناء سؤالنا له عن كيفية اعتماده هذا الخط والذي كان واضحا انه لا يفي بالغرض ولا يعيد الحقوق اللبنانية بل هو جزء من الحقوق، اعتبر في تبريره للامر انه اعتمد مع الخبراء في رسم الخط كما لو انه خلاف ما بين اميركا وبين المكسيك او بين اميركا وبين كندا. حينها كان مطلب لبنان عبر الرئيس بري انه طالما لديك خبراء واعتمدت هذا الخط، فليكن دعوة الخبراء واستضافتهم في لبنان ومناقشة الامر مع خبراء الجيش اللبناني والخبراء اللبنانيين وعندها اما نتطابق واما نؤكد اختلافنا ونصحح الامر. الا ان هوف رفض هذه الفكرة، وتبين بعدها ان خط هوف لم ينطلق من البر بل من مسافة بعيدة من البر من 4 الى 5 كلم (3 اميال بحرية) وبدأ الترسيم. هذا شيء شاذ وسابقة لم تحصل في التاريخ، لأن القانون يقول بسيطرة البر على البحر.
* ماذا حصل بعد انتهاء مهمات هوف؟
– بعد هوف جاءت ادارة الرئيس باراك اوباما وتم تعيين اموس هوكشتاين، والشكوى الدائمة خلال فترة ولايته انه لم يلتزم يوما تاريخا للزيارة. كان يحضر الى لبنان وينتقل الى فلسطين المحتلة، وبدل ان يعود الى لبنان كان يغيب لاشهر واحيانا لمدة سنة. في احد الايام اشتكاه الرئيس بري الى وزير الخارجية الاميركية جون كيري، وحضر هوكشتاين على الفور معاتبا الرئيس بري الذي قال له انك غير منصف في العلاقة. نحن نعرف علاقاتك مع العدو الاسرائيلي ولا علاقة لنا فيها الا انك الان وسيط وعليك ان تكون في وساطتك عادلا، وهناك صداقة بين لبنان واميركا عليك احترامها. خلال هذه الفترة وردت الى لبنان، اي الى الرئيس بري، عروض عدة منها ما يسمى بالعروض الاستثمارية. وقد طرح علينا رأي يقول ما قيمة البحر اذا لم يختزن ثروة، لماذا لا نؤسس شركة من اصدقاء لبنان واصدقاء اسرائيل، وهذه الشركة تستقدم شركة للتنقيب وفي حال وجدنا مخزون هيدروكاربون توزع الحصص على اساسها. قلنا لهم اي شركة تريد الاستثمار وعلى اي اساس سيتم توزيع الحصص،. نحن لسنا اول بلدين مجاورين يمكن ان يكون بينهما خزان مشترك. هذا الامر تكرر في المنطقة والعالم، والتقاسم لا يحصل من دون ترسيم الحدود. وفي اجراء لاثبات حسن النية اللبنانية قلنا لا مانع من الاستكشاف لتحديد اذا كان هناك من ثروة، لكن قبل بدء الاستثمار تبقى الامور معلقة ولا تحتسب حصة للعدو الاسرائيلي الا بعد انهاء خط الترسيم. لكننا جوبهنا دائما بالرفض وكان يقال لنا ان الجانب الاسرائيلي يستفيد واذا تبين لاحقا ان حدوده لا تصل الى حيث الاستثمار يعيد الاموال، وهذا بطبيعة الحال كوعد ابليس بالجنة.
* كيف واجهتم هذه الضغوط الاميركية؟
– يومها كلفني الرئيس بري شخصيا بتوحيد الموقف اللبناني، لأن كل موفد كان يجول على الرئاسات والوزارات والمؤسسات المعنية. ليس سرا القول انه احيانا كان يظهر اكثر من رأي، لذا عملت على توحيد الموقف اللبناني وايجاد ورقة مشتركة وفقنا بوضعها. حصل مسعى مكثف مع هوكشتاين وتوصلنا الى ورقة مشابهة الى حد كبير لاتفاق الاطار الذي توصلنا اليه مع السفير ديفيد شينكر. طوال هذه الفترة، لم تتوقف عروض التسوية حول خط هوف ووصلوا الى اعطائنا 90 في المئة من مساحة 850 مترا مربعا و10 في المئة لاسرائيل، وهذا دليل ان الطرف الاخر ليس له حق في هذه المنطقة. كان الرئيس بري يرفع كوب الماء ويقول لن اعطي العدو كوب ماء من المياه اللبنانية ولا اريد كوب ماء من بحر فلسطين. اريد حق لبنان لا اكثر ولا اقل لأن السيادة الوطنية غير خاضعة للتسوية. يومها كانت ممثلة الامين العام للامم المتحدة سيغرد كاغ والسفيرة الاميركية اليزابيت ريتشارد، وبوشر التحضير لانطلاق الاجتماعات وفق الورقة – التصور التي وضعت على غرار الاجتماع في الناقورة حاليا، ويومها كانت الغيبة الطويلة لهوكشتاين.
* ماذا عن حقبة السفير ديفيد ساترفيلد؟
– كان هناك فترة فراغ قبل مجيء السفير ساترفيلد. مع بداية عهد الرئيس دونالد ترامب كان وزير الخارجية ريكس تيلرسون القادم من اباطرة عالم النفط، وعمل على تسويق الطرح الاستثماري على قاعدة انه في اعالي البحار الدول تفتش على تقاسم الاستثمارات، وكان جوابنا على الدوام ان التقاسم مرتبط بالملكية. الزيارة الاولى للسفير ساترفيلد في العام 2018، وكان يردد جملة شهيرة: “لا اريد ان اسمع بشيء اسمه هوف ولا بخط هوف”، وهذا يعني سقوط كل طروحات التسوية، علما ان التقدم مع ساترفيلد كان بطيئا. يومها اعاد الرئيس بري توحيد الموقف اللبناني، وبحث في اجتماع رئاسي ثلاثي ضم الرؤساء ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري لتثبيت المبادئ الاساسية التي هي الثوابت الوطنية للتفاوض، وقد نالت الموافقة الفورية. طلب الرئيس عون من الرئيس بري ان يستمر في متابعة الامر، حينها طلب الرئيس بري من الرئيس عون استدعاء السفيرة الاميركية وابلاغها بورقة الثوابت اللبنانية، وهكذا حصل. بعد اجتماعها في بعبدا حضرت السفيرة الاميركية فورا الى عين التينة وابلغت الرئيس بري انها تبلغت من الرئيس عون الموقف اللبناني وقالت له طلب مني المتابعة معكم وان السفير ساترفيلد قادم، فانطلق التفاوض. كان تفاوضا صعبا جدا وصل في كثير من الاحيان الى شبه حائط مسدود. انتكس مسار التفاوض مع ساترفيلد الى حين زيارة وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو ونائبه للشؤون السياسية السفير ديفيد هيل في حضور ساترفيلد وريتشارد، حيث اثار بومبيو الموضوع بانه آن الاوان لحل هذه المشكلة. كان جواب الرئيس بري باننا نحن من طلبنا وساطتكم وموفدك الحالي موجود، وساقدم لك ملخصا عن ما حصل وما سبب تعطل هذا الامر. ليس سرا القول ان بومبيو كان متفاجئا، واكد انه التقى كبار المسؤولين الاسرائيليين الذين طالبوا بوضع حل لهذه المشكلة. كان جواب الرئيس بري ان هذه المشكلة افتعلها الاسرائيلي، وفي كل الاحوال نحن جاهزون. فكان الموقف الشهير الذي عبّر عنه بومبيو انه يجب الاتفاق على كل شيء، برا وبحرا. بعدها زرت مع وفد نيابي واشنطن وكان لقاء عاصفا مع ساترفيلد حيث رفضنا التراجع مربعا الى الخلف، واعيد العمل بالمبادئ وبالورقة الموجودة، وكان لبنان قد وضع اربع نقاط اضيفت اليها نقطتان فاصبحت من ست نقاط. شرط الوسيط الاميركي كان ان تكون وساطته لترسيم البحر، وان لاعلاقة له بالبر لانه خاضع للجنة العسكرية الثلاثية.
* ما الاضافة التي قدمها السفير ديفيد شينكر الذي تسلم الملف بعد ساترفيلد؟
– الصيغة النهائية من اتفاق الاطار ولدت مع شينكر، علما ان اكثر فترة تخللها تكتم على مسار المفاوضات كانت معه اذ كان حريصا جدا على عدم تسريب اي شيء. ظل العمل مكتوما الى ان خرج الى الضوء في 1 ايلول 2020 في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس بري. قبل ساعات من اعلان اتفاق الاطار، تعرض المسار الى نوع من الانتكاسة تداركها الوسيط الاميركي. ما اود التاكيد عليه انه من شهر تموز كان الاتفاق جاهزا للاعلان وكنا في انتظار ابلاغنا عن آلية الاعلان عن الامر، ولم يعلن الا على ساعة المصالح اللبنانية التي نسعى دائما اليها.
* هل ما تم التوصل اليه من اتفاق اطار يرضي الرئيس بري ويتوافق مع الثوابت الوطنية؟
– اتفاق الاطار يرضي طبعا الرئيس بري لانه مطابق للسيادة الوطنية وللمصلحة الوطنية. لم يكن هناك اي معيار آخر يحكم التفاوض، ونحن اصررنا على تفاهم نيسان 1969 والقرار 1701 الذي كرس تفاهم نيسان. يكفي الاشارة الى انه عشية التصويت على القرار 1701، قالت وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس ان ما يرعى هذه الفترة حتى الانتقال من وقف الاعمال العدائية الى وقف اطلاق نار هو تفاهم نيسان.
* من خلال المعطيات المتوافرة لديكم هل ترون انه يمكن الوصول الى اتفاق حول الترسيم؟
– اهم ما انجزه اتفاق الاطار انه الغى اي تسوية يمكن ان تكون وانهى ما يسمى خط هوف، وركن الى ركن واحد هو مبدأ الترسيم. هذا كفيل بأن ينصفنا ويحفظ حقنا لان القواعد الدولية موجودة، ونسمع الكثير من ان الرئيس بري يطرح هذا الخط او ذاك. جوابنا ان الرئيس بري طرح مبدأ الترسيم، طالما ان الجيش اللبناني المؤتمن على هذا المبدأ وله الحق في الاستعانة بمن يريد من خبراء محليين او دوليين لتثبيت الحق اللبناني. الوسيط الاميركي ضمن نص الاتفاق ملتزم انجاح هذه العملية، والامم المتحدة هي الشاهد العالمي، فلم يعد من مشكلة في الوصول الى حقنا.