“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
تفتح القضية التي تحصل مع الاعلامي جاد غصن جروح الصحافة في لبنان وتزيل الضبابية عن بيئة اعلامية لبنانية انحسر وهجها وتأثيرها بفعل تخليها عن استقلاليتها وهي برأيي الشخصي وبعد خبرة دامت 25 عاما مرتبطة بجودة العمل الصحافي والاعلامي.
تشظّت هذه الاستقلالية بسبب أداء بعض الاعلاميين والصحافيين في الداخل اللبناني أولا، فتخلّوا طوعا عن سلطتهم ورسالتهم في محاربة الفساد والانحراف وقدّموها على طبق من فضة الى السياسيين والأحزاب اللبنانية وللأجهزة الفاعلة على انواعها ولأصحاب المصارف وللرأسماليين طمعا بالربح السريع وبالمكاسب المختلفة فتبدّل المشهد الاعلامي تدريجيا من صحافيين يحاسبون ويتابعون ويستقصون الحقائق الى “ماسحي جوخ” عاملين عند فلان أو فلان يتكسّبون بطرق غريبة: (مال، وظيفة في دوائر رسمية وتقاضي رواتب خيالية بلا حضور، اقتطاع مبالغ من مؤسسات خاصة وتقديمها لاعلاميين وصحافيين على شكل هدايا سنوية وهي تصل الى آلاف الدولارات)، مسترزقين بتخبئة الحقائق عن القراء وبالوشاية على من هم ضد الجهة التي يخدمونها. علما أن ذلك لا يعني أن العلاقات الجيدة مع جميع الجهات المذكورة اعلاه ليست مطلوبة، فالصحافي المهني هو الذي يشتغل على صيانة العلاقات مع الجميع كمصادر معلومات ضرورية لعمله، لكن مع حفظ خيط رفيع يفصل بين مهنته وبين مهام هؤلاء وهي لن تلتقي يوما مع رسالته المرتكزة على كشف الحقائق.
انتقل هذا السلوك الى الدول الفاعلة في الاقليم. صار استقطاب غير مفهوم بين صحافيي الممانعة “الممانعجيي” كما يسمّون انفسهم، وبين صحافيي الخليج المنقسمين بحسب تلك الدول، وخصوصا السعودية والامارات قطر والكويت، أي الامارات الثرية والتي تمتلك المؤسسات الاعلامية الكبرى والتي نجحت باستقطاب المؤسسات الاعلامية العالمية اليها، فزاد التكسّب بالوسائل كلها وعلى حساب كل شيء: الانحياز الواضح للمحور الموجود فيه الصحافي، التخلي عن الدور الرقابي والنقدي، رفض النقاش الحرّ والمنفتح وتبادل الافكار بحرية، (وإلا فالتهمة جاهزة بالانتماء الى الفريق الآخر)، وهذا ما عزّز السيطرة الحكومية الداخلية على هذا الاعلام المرتهن من جهة، وعزز في الوقت عينه سلطة هذه الدول على البيئة الصحافية والاعلامية في لبنان، وبما ان تلك الدول تمتلك المال وهو عصب الاعلام والحروب الناعمة اليوم، فكان يتمّ توظيف الاعلاميين الموالين لها بشكل منتظم أو مدّهم بما يلزم من مبالغ لمؤسساتهم، فتكدست ثروان الكثيرين من “أرباب” الصحافة في لبنان، التي عوض أن يستثمروا الاموال التي تأتيهم مجانا في تطوير الصناعة الصحافية الحديثة ومواكبة العصر الرقمي راحوا يدخرونها لشؤونهم الخاصة.
بالنسبة الى الدول الخليجية، فقد كانت هذه الدول لغاية العام 2015، تصادق الاعلام اللبناني بلا النظر الى انتماءاته السياسية أو ميوله، وكان أصدقاء لي في تلك الدول يعلمون مثلا بأن الصحافي الفلاني له مصالح مع ايران وهو يتكسّب منها في الوقت عينه، وكانوا يروون النكات عنه مكتفين بالقول: ” اللبناني شقيق وأخ” ويستأهل كل خير…وألف صحتين على قلبو!”.
هذا الزّهد الخليجي، انقلب كليا لا سيما مع وصول جيل جديد من الحكام الى تلك الدول لا يفهم بلغة العواطف بل بالمصالح السياسية والاقتصادية، ثم ترسخ هذا الواقع بعد توقيع الاتفاق النووي بين ايران والولايات المتحدة الأميركية وتعمّق مع بدء حرب اليمن التي اعتبرت فيها تلك الدول أن ايران وأذرعها وفي مقدمتهم الحوثيين و”حزب الله” في لبنان هم جزء لا يتجزّأ منها.
تخلّت تلك الدول عن رحمتها، لم يعد الأمر مجرّد مساعدة أو دعم “لأشقاء مهضومين”، صار الاصطفاف مطلوبا. أوقفت دول الخليج لا سيما المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة الدعم للاعلام اللبناني بشكل عام، بل عملت على تدميره بشكل ممنهج من أجل إعادة بناء اعلام موال لها كليا وهذا ما تظهّر بشكل واضح في طفرة المواقع الالكترونية الممولة منها أخيرا، فأغلقت صحف كبرى منها “السفير” ودار الصياد وتعثرت أخرى منها “النهار” وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
بعدها، شذّبت تلك الدول الصحافيين العاملين في مؤسساتها في لبنان او في الخارج بحسب ميولهم السياسية على قاعدة: “من ليس معنا فهو ضدنا”. وغالى البعض في تلك الدول بعد الازمة الخليجية وحصار دولة قطر في العام 2017، وراح بعض السفراء العاملين في لبنان يطلبون من الصحافيين والاعلاميين اللبنانيين بكل صراحة أن يقاطعوا الانشطة القطرية في لبنان، بعد أن كانوا قبل مدة قصيرة يتشاركون موائد الطعام والاجتماعات مع نظرائهم القطريين، وتمّ “عزل” الكثير من الصحافيين الذين رفضوا الخضوع إلا لقوانين مهنتهم منسجمين مع مبادئ الصحافة الحرّة.
وبعد أن اصبحت المواجهة مع إيران على أشدها، وبعد أن قلصت العقوبات المال الايراني لكثير من الاعلاميين الموالين لها،و مع انتقاء الخليجيين لأصدقائهم بشكل يتطلب احيانا فحوصا لا تنتهي، تقلصت فرص العمل في لبنان ولكن ايضا في تلك الدول التي تعاني أيضا من ازمات اقتصادية بسبب انخفاض اسعار النفط من جهة وبسبب وباء كورونا من جهة ثانية.
ولعبت المؤسسات الخليجية الكبرى ذات الجمهور الواسع دورا في تهميش الاعلام اللبناني الذي فقد وهجه بسبب تخليه عن دوره. فقد قال لي مثلا أحد الاصدقاء القطريين: عندما نريد أن نقوم بحملة اعلامية لدينا منبر “الجزيرة” العالمي ولا نحتاج الى الاعلام اللبناني. من جهته، قال لي صحافي سعودي مرموق يوما: :من المعروف أن الاعلامي اللبناني يشتمك ما إن تتوقف بمدّه بالمال، ونحن كسعوديين قررنا تحمّل الشتائم ولن ندعم من يساندنا طمعا بالتكسّب فقط!”.
هكذا أصبحت سمعة الاعلام اللبناني في الحضيض في كثير من تلك البلدان.
بعد تأزم الاوضاع بين الخليج وإيران، تزايدت القيود وصارت اشارات السيطرة أكثر احكاما، وهي تقضي باحكام صارمة ضدّ أي صحافي أو اعلامي “يشتمّ” بأنه يهوى أو يشعر بميل طفيف أو ينتمي بطبيعة الحال الى المحور الآخر فيما هو يطلب فرصة عمل عند المحور المناوئ له.
انزلق كثر من الاعلاميين والصحافيين اللبنانيين الى هذا الفخ، كثر منهم وتحت وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية الشديدة، نسوا أو تناسوا مواقفهم المتشددة وتغريداتهم المناوئة لهذه الدولة أو تلك، فتكفّل وشاة وغالبيتهم لبنانيون بتذكيرهم، وارسال ما يلزم للجهات التي تقدم لهم فرصة العمل لكي تلفظهم لأنهم من المحور المناوئ.
هكذا أوقع اعلاميو لبنان والصحافيين فيه أنفسهم في كمّاشة المحاور، ولعلّ قصة الزميل جاد غصن الذي لا اعرفه شخصيا إلا على التلفاز هي جرس الانذار الأخير للاعلام اللبناني.
لا أعرف إن كان جاد مستقلا أو ينتمي الى محور معين، بل أعرف من خلال مشاهدتي لبعض حلقات يقدمها أنه مهني.
لكن ما أريد قوله، أن ما حدث معه هو جرس انذار أخير لكل صحافي واعلامي لبناني كي لا ينسى أن لديه ربّ عمل واحد وهو القارئ، وألا يتناسى بأن حرية التعبير والاستقلالية تبدآن من احترامه لمهنته بل لرسالته ولمبادئ الشرف التي تحكمها وأولها: عدم الانحياز إلا للقارئ، وان رأيه السياسي يعبّر عنه في الانتخابات أو في عواميد الرأي الحر. ليس خطأ أن يكون لدى الصحافي والاعلامي موقفا معينا أو أن يدعم محورا دون آخر، شرط ألا يكون ذلك على حساب مهنيته وإلا يخسر ذاته ومهنته فيصبح ثمنه بخسا.
وفي الختام، اعتقد أنه على تلك الدول أن تعمل أيضا على زيادة سعة صدرها. صحيح بأن المواجهة محتدمة بين المحورين العربي والإيراني، لكن الاجندات المتناقضة قد تفسح المجال لكثير من الوشاة والمسترزقين لأن يستخدموا هذه الحروب الكبرى للدول في حروبهم الصغرى لدوافع لعل أهمها تكون الغيرة أو حب الأذية المجاني، لذا اقتضى التنبيه بكلّ محّبة.
*جاد غصن هو اعلامي في قناة “الجديد” نال فرصة عمل في “بلومبرغ الشرق” ومقرها دبي، لكن أحد المسؤولين في “تيار المستقبل” قرر البحث في تغريداته القديمة ليكشف عن تغريدات كتبها جاد في الماضي يهاجم فيها سياسة المملكة العربية السعودية، فولّفها بفيديو ونشرها على حسابه على “تويتر” معتبرا بأن جاد “ممانع وخرق بلومبرغ”. هذا الأمر أثار سخط الجمهور السعودي والخليجي فقام بحملة الكترونية لمنع بلومبرغ من توظيف جاد، إلا أن المؤسسة لم تتخذ قراها النهائي بعد.