“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
أثار قرار القاضي محمد المازح أمس بمنع السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا من التصريح لوسائل الاعلام ومنع الأخيرة من طلب مقابلات معها تحت طائلة العقوبات ودفع الغرامات سجالا قويا في السياسة والاعلام على حدّ سواء.
وبغض النّظر عن احتدام المواجهة بين الولايات المتحدة الاميركية من جهة وإيران من جهة ثانية ووصولها الى المواجهة المباشرة وجها لوجه حيث بات لبنان ساحة لهذا الصراع بفعل الانقسام الموجود فيه بين مؤيد ومعارض لكلي المعسكرين، فإنه من المهم وضع هذا القرار القضائي في إطاره ضمن الاصول الدبلوماسية المتبعة سواء من قبل السفير المعتمد في دولة ما أو في تعاطي الدولة المعنية مع السفراء.
قبل ذلك، من الواضح بأن الدولة اللبنانية نـأت بنفسها عن هذا القرار القضائي، ومن المعروف بأن القضاء في لبنان سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبالتالي فإن الحكومة اللبنانية ليس لها علاقة به شكلا.
وبناء عليه فلن يتعدى موقف وزارة الخارجية والمغتربين في اي بيان ستصدره أو في أي جواب للسفيرة شيا إلا التذكير بمبادئ اصول واعراف التخاطب الدبلوماسي والقول بأن القرار قضائي لا علاقة للدولة اللبنانية فيه وفي أفضل الاحوال التذكير بالتعاميم التي وجهت سابقا للسفارات العاملة في لبنان.
في الواقع، فإن القضاء في لبنان مسيّس، وصدور هذا القرار عن قاض في مدينة صور بعد دعوى قدّمها سيدة من آل قصير وهي للصدفة من عائلة الاستشهادي الاول في حزب الله أحمد قصير الذي فجّر مقر الحاكم الاسرائيلي في صور ابان الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982 مع ما تمثله هذه العائلة من رمزية ليس أمرا عاديا.
كذلك، فإن الاصوات التي انطلقت بشتم سفيرة دولة وتخوين كل من لا يؤيد القرار القضائي صودف أنها جميعها من خط الممانعة أي الخط المواجه لسياسات الولايات المتحدة الاميركية في لبنان ما يؤكد أن المواجهة سياسية بحتة.
المادّة 41 تؤكد عدم المس بالمزايا والحصانات
بالعودة الى الأعراف الدبلوماسية، فمن المؤكد والثابت بأن اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الصادرة في العام 1961 والتي استند اليها القاضي المذكور على ما يبدو وكذلك البيان الذي أصدره محامو “حزب الله” الى المادة 41 من الاتفاقية التي يبدو بأن المحامين لم يتوقفوا مليا عند الكلمات الأولى التي تبدأ بها هذه المادة والتي تنص على الآتي:
“مع عدم المساس بالمزايا والحصانات على الأشخاص الذين يتمتعون بها احترام قوانين ولوائح الدولة المعتمدين لديها، وعليهم كذلك واجب عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة. كل المسائل الرسمية المعهود بحثها لبعثة الدولة المعتمدة مع الدولة المعتمد لديها يجب أن تبحث مع وزارة خارجية الدولة المعتمد لديها عن طريقها أو مع أي وزارة متفق عليها.
لا تستعمل مباني البعثة في أغراض تتنافى مع أعمال تلك البعثة التي ذكرت في هذه الاتفاقية أو مع قواعد القانون الدولي العام أو مع الاتفاقيات الخاصة القائمة بين الدولة المعتمدة والدولة المعتمد لديها”.
وبالتالي فإن المزايا والحصانات لا تسقط عن السفير المعتمد وهذا هو الجوهر، مع واجب هؤلاء عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة وهذا ما استند اليه القاضي المازح.
لكن، في ظلّ اختلاط الاصول الدبلوماسية في لبنان وتحوّلها الى “أعراف” بفعل العلاقات الودية بين لبنان وأكثر من دولة غربية وعربية فإن الاستفاقة على مقابلة السفيرة الاميركية دوروثي شيا مع “قناة الحدث” والتي هاجمت فيها “حزب الله” في ترجمة عملية لموقف بلادها بات أمرا فيه نظر ويخضع للاستنسابية اللبنانية.
صحيح بأن السفيرة شيا حاولت بلا مواربة ترجمة سياسة بلادها التي عبّر عنها من على منبر وزارة الخارجية اللبنانية رأس الدبلوماسية الاميركية مايك بومبيو في زيارته الى لبنان في العام 2019 فهاجم “حزب الله” وتوعد ولم ينبس أحد ببنت شفة، لكن، ربما كان من الأفضل أن ينحصر موقفها عبر القنوات الدبلوماسية التقليدية مع التأكيد بأن السفيرة شيا ليست الوحيدة في ممارسة حرية التعبير الدبلوماسية على الطريقة اللبنانية.
فالمنسق الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيش لا يتردد من اطلاق التغريدات حول السياسات الداخلية اللبنانية بشكل شبه يومي فلماذا لم تتحرك ضده الماكينة الاعلامية التي تهاجم شيا؟ ولا ننسى سابقا تصريحات نارية للسفير الأميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان وهو عاد (بعد مغادرته منصبه” وصرّح بأن الولايات المتحدة الاميركية دفعت ملايين الدولارات لتشويه صورة “حزب الله” وذلك للاعلام اللبناني؟!
ربما تعذّر على السفيرة شيا رؤية أن الحرية الدبلوماسية في لبنان استنسابية، بينما نظراؤها يعرفون ذلك واكبر دليل بأن دولا تتدخل في الشؤون اللبنانية بشكل واسع وميدانيا ويبقى سفراؤها صامتين أو يطلقون تصريحات تظنهم فيها أنهم “سفراء للنوايا الحسنة” بينما جميع أعمالهم تشير الى تدخل كبير في شؤون الاعلام والاقتصاد والمال والاخطر في شؤون الميدان كما بيّنت الحوادث الأخيرة التي حصلت في لبنان لا سيما في مدينة طرابلس.
مبدأ عدم التدخل وتعاميم للخارجية اللبنانية
بأي حال، بالعودة الى اتفاقية فيينا لعام 1961، فهي تحدد إطار العلاقات الدبلوماسية بين الدول وامتيازات بعثاتها لكن لا ينبغي ابدا تهميش “أعراف” غير مألوفة دوليا تميّز لبنان الذي وقع المعاهدة عام 1971. في العام 2018، أطلق وزير الخارجية والمغتربين السابق جبران باسيل في تصريح له صفارة انذار دبلوماسية حين حثّ السفراء الاجانب العاملين في لبنان على احترام “اتفاقية فيينا” وعدم التدخل في الشؤون السياسية اللبنانية وهنالك تعاميم عدة صدرت من وزارة الخارجية اللبنانية للسفارات والبعثات الدبلوماسية العاملة في لبنان تذكر بمبدأ عدم التدخل.
وبالتالي، يتشعب موضوع احترام البعثات الدبلوماسية لاتفاقية فيينا وتتداخل الاصول الدبلوماسية بالممارسة الواقعية التي تفرضها خصوصيات الدول العاملة في لبنان من جهة وخصوصية الديموقراطية اللبنانية من جهة ثانية وكيفية توزّع موازين القوى.
يبدو مبدأ عدم التدخّل هو المدخل الرئيسي لموضوع شائك من هذا النوع،
يرتكز منشأ قاعدة عدم التدخل بحسب كتاب “الدبلوماسية الحديثة” للدكتور سموحي فوق العادة الى مبدأين: “سيادة الدولة على اقليمها والتي يترتب على الدول الاخرى احترامها وعدم الاساءة اليها، والى مساواة الدول من الناحية القانونية، الامر الذي يحظر على اي دولة التدخل فيما يجري داخل اراضي الدول الاخرى لتحويل الاحداث التي في تلك الدول لصالحها. وقد تأيدت هذه القاعدة بنص الفقرة 7 من المادة الثانية من ميثاق الامم المتحدة التي تنص على الآتي: “ليس في هذا الميثاق ما يسوّغ للامم المتحدة ان تتدخل في الشؤون التي تكون في صميم السلطان الداخلي لدولة ما…”.
ويسرد الدبلوماسي في كتابه أن مظاهر التدخل في الشؤون الداخلية لدولة اخرى كثيرة ومتنوعة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: “عقد مؤتمر صحفي بدون موافقة الحكومة المستقبلة، اتخاذ موقف في الحملة الانتخابية التي تجري لدى الدولة المستقبلة، تقديم المساعدات المالية الى احد الاحزاب السياسية لديها، اتخاذ موقف من الصراعات الداخلية التي قد تمزق كيان البلاد، اثارة الاضطرابات في البلاد، او الاشتراك في مؤتمرات ترمي الى قلب حكومة الدولة المستقبلة، انتقاد تصرفات هذه الحكومة ولا سيما سياستها الخارجية، تعكير صفاء العلاقات القائمة بين الدولة المستقبلة او اللجوء الى وسائل التجسس وتوزيع المواد الغذائية على المواطنين مباشرة بدون وساطة السلطات المحلية وذلك في حالات المجاعة او حدوث الكوارث.
في حال لم يلتزم الدبلوماسي مهما كانت رتبته بهذه المبادئ يؤدي ذلك الى اعتباره شخصا غير مرغوب فيه أو
Parsona non grata
وطرده من البلاد بالسرعة التي يقتضيها الامن الداخلي وسلامة الدولة.
لكن ثمة حالات استثنائية يجوز فيها للدبلوماسي التدخل منها بحسب الدكتور سموحي فوق العادة منها: انتقاد الدولة المستقبلة في حال اقدامها على سن قوانين تسيء الى مصالح الدولة الموفدة او الى مصالح احد رعاياها، محاولة تحوير السياسة الخارجية للدولة المستقبلة التي قد تنعكس آثارها على الدولة الموفدة. ويشترط في الحالات المذكورة او المماثلة لها ان يتم التدخل بالطرق الدبلوماسية المالوفة، او اثناء المباحثات الرسمية او المفاوضات مع المسؤولين”.
أصول التخاطب مع الرؤساء والادارات العامة
لقد اقرت جميع الدول في “اتفاقية فيينا” ان السبيل لحد تدخل البعثات الدبلوماسية في شؤونها الداخلية وضع قاعدة تقضي بان ينحصر اتصالها بمختلف اجهزة الدولة عن طريق وزارة الخارجية فحسب، “وهي تتولى ابلاغ جميع وزارات الدولة واداراتها بحسب اختصاصها لأن موظفي وزارة الخارجية هم أكثر اطلاعا من غيرهم على الشؤون الدبلوماسية والعلاقات الدولية ويدركون النتائج والمسؤوليات المترتبة على جميع المساعي الخطية او الشفهية التي يقوم بها الممثلون الدبلوماسيون وكبار مساعديهم. بحسب كتاب الدبلوماسية الحديثة.
وتقضي انظمة بعض الدول بان تتم زيارة الممثلين الدبلوماسيين لبعض وزراء الدولة الفنيين او بعض كبار موظفيها، بناء على موافقة وزارة الخارجية وبموعد تحدده لهذه الغاية ادارة المراسم لديها، على ان يقدم الوزير او الموظف الكبير الذي يزوره الممثل الدبلوماسي تقريرا عن المحادثات التي جرت اثناء المقابلة الى وزارة الخارجية”. وعام 1959 صدر المرسوم الرقم 2894 في لبنان الذي يحدد شروط تطبيق بعض احكام المرسوم الاشتراعي رقم 111 المتعلق بتنظيم الادارات العامة، وذكر في فقرة عن العلاقات بين الادارات اللبنانية والهيئات الدولية او الاجنبية في المادة 25: تجري الاتصالات بين الادارات اللبنانية والهيئات الدولية او الاجنبية وفقا للمواد الآتية:
26: تنشأ كل علاقة جديدة بين الادارات والهيئات المذكورة في المواد السابقة بواسطة وزارة الخارجية والمغتربين.
27: على كل ادارة لبنانية تراجعها هيئة دولية او اجنبية في قضية جديدة ان تستطلع راي وزارة الخارجية والمغتربين في الامر او ان تقدم الجواب بواسطتها.
28: على وزارة الخارجية والمغتربين عندما تراجعها هيئة دولية او اجنبية في قضية تتعلق بادارة لبنانية ان تستطلع راي هذه الادارة في الامر قبل تقديم الجواب ثم ان تطلعها على الجواب المعطى.
29: اذا كان الامر يتعلق بمساعدة خارجية من اي نوع كانت تطلبها ادارة لبنانية او تعرضها هيئة دولية او اجنبية فعلى وزارة الخارجية والمغتربين ان تحيل الاوراق على وزارة التصميم العام لمعالجة الامر بعد استطلاع راي الإدارات اللبنانية المختصة فيه”.
الاستنسابية اللبنانية
يشمل عدم التدخل السياسي في لبنان ابداء السفير او الدبلوماسي الاجنبي مهما كانت رتبته رايه بالانتخابات النيابية او تشكيل الحكومة أو المؤسسات العسكرية والامنية أو في البيان الوزاري للحكومة أو تقديم دعم مالي لجهات أو أحزاب أو تحريض جهة على أخرى…او تمويل جهات معينة ولا يشمل ذلك الهبات إذا قدمت بحسب الأصول وعبر السلطات اللبنانية.
اما اصول التخاطب فهي تخترق في لبنان إذ نرى سفراء دول يجتمعون بالرؤساء الثلاثة وبالوزراء من دون المرور بوزارة الخارجية والمغتربين وتحديدا مديرية المراسم، كما يخاطب السفراء او المنظمات الدولية الوزارات المعنية او الاجهزة الامنية احيانا بصورة مباشرة وفقا لعلاقاتهم الشخصية وخصوصا في حال وقوع جرائم تطال رعاياهم او في متابعة مصالح هؤلاء الرعايا كالطلاب أو رجال الأعمال او بغية الحصول على وثائق ولادة او وفاة وسواها من المواضيع. الواقع اللبناني المعقد يضطر السفراء والدبلوماسيين الى نسج علاقات شخصية مع نظرائهم اللبنانيين فيحلون الأمور بالمسلك الشخصي لا عبر الروتين الاداري. ما يجعل ان لا خط واضحا بين ما هو متاح وما هو غير متاح وما هو مطابق للاعراف والاتفاقيات وما هو غير غير مطابق سواء في السياسة او في اصول التخاطب.