“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة
وصل لبنان الى قعر الهاوية بسبب السياسات المالية والنقدية المتبعة منذ اعوام والتي تبين اخيرا انها فشلت فشلا ذريعا: تبين وجود فجوة نقدية كبيرة في مصرف لبنان تتعدى الخمسين مليار دولار بحسب التوقعات لأن المصرف لا يعطي ارقا ما واضحة، ملاءة المصارف صارت معدومة بالعملة الزرقاء اي الدولار، تفلت سوق الصيارفة وبلغ الدولار الـ4 آلاف ليرة لبنانية بعد ان ثبته حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منذ تسعينيات القرن الفائت على سعر الـ 1515 ليرة، وفرضت المصارف قيودا على ودائع اللبنانيين، مع قصّ غير مباشر لهذه الودائع بسبب رفض المصارف تسليم المبالغ الموجودة بالدولار إلا بالعملة الوطنية التي فقدت قيمتها الشرائية بشكل كامل، فضلا عن تدني مستوى احتياطات مصرف لبنان لتصل الى 21 مليار دولار بالكاد تكفي لشراء الطحين والادوية والفيول، بالاضافة الى تخلف لبنان عن سداد ديونه بالعملات الاجنبية اليوروبوندز والتي تبلغ الـ31 مليار دولار اميركي ما جعل تصنيفه متدنيا جدا من قبل وكالات التصنيف العالمية وصار في مصاف البلدان المتخلفة بنظر المجتمع الدولي. كل ذلك حصل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة يطمئن اللبنانيين الى سلامة الليرة وحصانتها وآخر تطميناته جاءت في مؤتمر صحافي عقده في مقر المصرف المركزي ابان ثوررة 17 تشرين الاول الفائت.
اليوم، بعد مرور 73 يوما من عمر الحكومة فجر رئيسها حسان دياب قنبلة حقيقية متهما الحاكم الذي بقي رمزا لا يمس طيلة 30 عاما من توليه حاكمية مصرف لبنان (في سابقة لم يعهدها التاريخ اللبناني، الولاية الرسمية هي 6 اعوام) بتعميق الازمة المالية وذلك بعد تدهور دراماتيكي لسعر صرف الليرة اللبنانية وصفه دياب بـ”المريب”. وقال دياب:” ثمة معضلة تتمثل بغموض مريب في اداء حاكم مصرف لبنان ازاء تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية، وهذا ما يؤدي الى تسارع هذا التدهور الذي ينعكس سلبا على كل شيء في البلد، وخصوصا على المستوى الاجتماعي والمعيشي، حيث تتفاقم الازمات التي يواجهها اللبنانيون في حين يبدو مصرف لبنان اما عاجزا او معطلا بقرار او محرضا على هذا التدهور الدراماتيكي في سعر العملة الوطنية”. وأضاف دياب:” من هنا لم يعد ممكنا اتباع سياسة المعالجة في الكواليس ويجب ان يكون هناك وضوح ومصارحة بين اللبنانيين، يجب تغيير نمط التعامل مع الناس لا يجوز ان تبقى هناك معلومات مكتومة عنهم بينما يدفعون ثمن تداعيات هذه السياسة. فليخرج حاكم مصرف لبنان وليعلن للبنانيين الحقائق بصراحة ولماذا يحصل ما يحصل وما هو افق المعالجة وما هو سقف ارتفاع الدولار”.
في الواقع ليس دياب لوحده من يتساءل عن السياسة المتكتمة لمصرف لبنان فقد سبقه يوما ما بحسب برواية لاحد الخبراء الماليين الذين تحدثنا اليهم اقتصادي مالي عالمي قال يوما انه قام بدراسات حول كل المصارف المركزية في المنطقة لكنه عجز عن معرفة كيف يعمل مصرف لبنان!
في العام 2008 حُكم على بيرني مادوف بالسجن 150 عاما لقيامه بأكبر مخطط احتيالي في تاريخ الولايات المتحدة. حتى الآن لم يستعد سوى عدد قليل من ضحاياه جميع خسائرهم. مادوف هو ممول حظي بحسب مقالات متخصصة عدة “باحترام كبير جعل آلاف المستثمرين يسلمونه مدخراتهم واعدًا اياهم زوراً بأرباح متسقة في المقابل”. تم القبض عليه في كانون الاول 2008 واتهم بـ 11 تهمة بالاحتيال وغسيل الأموال والحنث باليمين والسرقة.
خدع مادوف مستثمريه فضاعت 65 مليار دولار لم يتم اكتشافها لعقود.
استخدم مادوف ما يسمى بـ”مخطط بونزي” الذي يجذب المستثمرين من خلال ضمان عوائد عالية بشكل غير عادي.
بدأ مخطط بونزي في العام 1919 وكان يعد من يعطونه اموالهم للاستثمار بعوائد 50 في المئة على الاستثمارات في غضون 90 يومًا فقط. يتم تشغيل مخططات بونزي من قبل مشغل مركزي يستخدم الأموال من المستثمرين الجدد القادمين لسداد العوائد الموعودة وهذا يجعل العملية تبدو مربحة وشرعية على الرغم من عدم تحقيق أي ربح فعلي. في هذه الأثناء ، يقوم الشخص الذي يقف وراء المخطط بتجميع الأموال الإضافية أو استخدامها لتوسيع العملية.
لتجنب استحواذ عدد كبير جدًا من المستثمرين على “أرباحهم”، تشجعهم مخططات بونزي على البقاء في اللعبة وكسب المزيد من المال. تعتبر “استراتيجيات الاستثمار” المستخدمة غامضة أو سرية والتي يدعي المخططون أنها تهدف إلى حماية أعمالهم.
في حالة مادوف ، بدأت الأمور في التدهور بعد أن طلب العملاء ما مجموعه 7 مليارات دولار أميركي من العائدات. لسوء حظ مادوف، لم يبق لديه سوى 200 مليون دولار أميركي إلى 300 مليون دولار أميركي للعطاء. جلس مادوف في مجلس إدارة الرابطة الوطنية لتجار الأوراق المالية وقدم المشورة للجنة الأوراق المالية والبورصات بشأن تداول الأوراق المالية. كان من السهل تصديق أن هذا المخضرم البالغ من العمر 70 عامًا كان يعرف بالضبط ما كان يفعله.
يبلغ رياض سلامة اليوم السبعين عاما، امضى منها 30 عاما حاكما لمصرف لبنان ولمّا يزل، اعتمد السرية المطلقة بعمله متكلا على دائرة ضيقة جدا من المساعدين
ومارس سياسة الوهم التي خلقها للبنانيين بأنه ينعش المصارف والاقتصاد. اوهم مصرف لبنان المركزي الناس بفوائد عالية يغطيها بأموال جديدة يحصل عليها، كما خلق حسابات وهمية بالدولار هي غير موجودة اصلا وهذا ما فعله كارلوس منعم يوما بالارجنتين، اوهم البلد بأنه القلب الذي يضخ الدم لكنه اصيب اخيرا بذبحة قلبية حادة تبين فيها عطبه، أحاط نفسه بهالة تفوّق جعلته ابرز حاكم مصرف مركزي عالميا فيما البلد ينهار، ساعدته بذلك منظومة صحافية واعلامية ابتعدت عن مساءلته كليا متخلية عن دورها الرقابي. اعتمد سلامة مخططا شبيها جدا بالبونزي مستفيدا من تثبيت سعر صرف الليرة الذي لم يكن في محله، وأبدع في تطوير شبكة علاقات ومصالح في الداخل اللبناني كما في الخارج. يقول عارفوه بأن علاقاته في الخارج واسعة والمجموعات التي يقدم لها خدماته لا ترتبط بعلاقات مع بعضها البعض وهذه احدى استراتيجياته للحفاظ على السرية.
ماذا بعد رياض سلامة؟ لا احد يدري ان كان هذا السؤال في محله اليوم او سيحظى بجواب، فالرجل مسؤول ذو ذكاء ودهاء كبيرين ويرتكز الى شبكة علاقات داخلية بين السياسيين والنافذين لا يمكن زعزعتها بسهولة، فإذا سقط رياض سلامة ستسقط المنظومة اللبنانية التي حكمت لبنان في الاعوام الاخيرة برمتها ولا اعتقد ان هذا التحول الجذري سهل في لبنان. يقول الخبير المالي المذكور تدليلا على عمق الازمة: “في السابق كان مصرف لبنان يبيع الدولار من احتياطه على السعر الرسمي مهما كان الطلب، اليوم لم يعد هذا ممكنا حتى اذا تغير الحاكم، فالاحتياط لم يعد متوافرا. الحل الوحيد والسريع لأزمة الليرة هو ضخ دعم خارجي اي صندوق النقد الدولي في الاحتياط لتلبية احتياجات السوق”.