“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
تطوق الصين عواقب وباء كورونا الذي يشغل العالم بحسّ عال من المسؤولية. لكن الوباء لم يوقف تحول الصين تنينا اقتصاديا ولاعبا في السياسة الخارجية الدولية وفي الشرق الاوسط
يمكن ان يستلهم لبنان دروسا عدة من المعجزة الصينية، خصوصا في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي وتداعياته الاجتماعية التي يعاني منها اللبنانيون بشكل عميق. الا ان لبنان لا يقوم بالجهد اللازم من اجل الافادة من خبرات الصين التنموية. في لفتة سريعة، يمكن اكتشاف ان النموذج الاقتصادي والتنموي الصيني تمكن من تحقيق معدلات نمو عالية جدا بلغت احيانا 14 في المئة، منتشلة مئات الملايين من الشعب الصيني من براثن الفقر، فتصدرت الصين قائمة التجارة الخارجية الدولية بالبضائع. الامر الذي مكنها من تكوين احتياطي هائل بالعملات الاجنبية، تحولت معه الى ممول رئيسي لديون دول كبرى، منها الخزينة الاميركية. عام 2013 تحولت مبادرة الحزام والطريق الى علامة فارقة في السياسة الخارجية للصين، بعدما اعلنها الرئيس شي جين بينغ ليرسم مسارا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا جديدا للتحول من اقتصاد موجه مركزيا الى اقتصاد مرن واكثر استجابة لمحركات السوق، والانتقال الى نموذج تنمية متجدد يسمح باندماج اوسع للصين في الاسواق العالمية من جهة، ويلبي الحاجة المتزايدة الى ايجاد فرص عمل من جهة ثانية.
يمكن ان تساعد الصين لبنان بالكثير. لكنه لغاية اليوم لم يقدم اي اقتراح لها لانجاز مشاريع ضخمة تستهوي الشركات الصينية الكبرى، وذلك بحسب ما قال السفير الصيني في لبنان وانغ كيجيان لـ”الامن العام”. كما ان لبنان، وعلى الرغم من توقيعه مذكرة تفاهم للتعاون مع الصين عام 2017، لا يبذل جهودا كافية للافادة من التجربة الصينية التي شهدت مع تولي الرئيس شي جين بينغ مقاليد السلطة عام 2013 ورشة اصلاحات داخلية على مختلف الصعد، الى جانب حركة ديبلوماسية خارجية نشطة وغير مسبوقة.
* ظهور وباء كورونا او “كوفيد 19” لم يكن حدثا متوقعا في الصين. كيف واجهت الحكومة الصينية تفشي هذا الوباء؟
– ظهر هذا الفيروس الجديد في نهاية عام 2019، حيث اكتشف وجود فيروس مجهول الهوية يحمل عدوى قوية ويؤدي الى التهاب رئوي لا علاج له. اكتشفت حالات الاصابة الاوسع في مدينة ووهان التي تقع في وسط الصين وتضم 11 مليون نسمة، وهي عاصمة مقاطعة هوبي. تعد ووهان مركزا تجاريا وصناعيا وعلميا كبيرا. بعد اكتشاف هذا المرض عمل الخبراء الصينيون على تحديد هذا الفيروس، وتم فرز الفصيلة التي ينتمي اليها فتبين انه من عائلة فيروس كورونا المتشعبة جدا وتشمل السارس الذي ضرب الصين عام 2003، وليس من معلومات وافية حول كيفية انتقاله. ثمة تقديرات من خبراء صينيين ومن منظمة الصحة العالمية عن وجود روابط وثيقة بين هذا الفيروس، وبين نوع محدد من الخفافيش ينتشر في الصين وفي جنوب شرق اسيا وافريقيا وفي عدد من البلدان، لكن لم نعرف كيفية انتقال هذا المرض من الخفافيش الى الانسان لغاية اليوم. يبدو ان انتشار هذا الفيروس انطلق من سوق الاسماك والدواجن في ووهان، من دون معرفة كيف. اصبحت ووهان ومقاطعة هوبي مركزا للوباء. بازاء هذا الواقع اتخذت الحكومة الصينية اجراءات شديدة وشاملة منها فرض حصار شامل على مدينة ووهان حيث مصدر الوباء، ومنع دخول المواطنين وخروجهم خوفا من انتشار هذا الفيروس.
* هل نجا اشخاص اصيبوا بهذا المرض؟
– نعم، بلغت حالات الشفاء لغاية اليوم اكثر من ستة الاف حالة.
* هل حصل ذلك بسبب اكتشاف دواء له؟
– لم يتم التوصل الى لقاح لغاية اليوم، لانه لا يوجد دواء للمرض سواء في الصين او في بلد آخر. علما ان الفيروس لا يؤدي في ذاته الى الوفاة، بل الى اضعاف جهاز المناعة، وتحدث حالات وفيات للمرضى الذين يعانون من امراض مصاحبة وخصوصا امراض رئوية وقلب وحالات اخرى. هذه الحالات هي التي تؤدي الى الوفاة. الادوية التي تستخدم اليوم هي لتقوية المناعة ولعلاج امراض اخرى. في الوقت ذاته، يعمل الخبراء الصينيون ونظراؤهم في العالم على تجربة الادوية لعلاج هذا الفيروس وتطوير لقاح ملائم.
* كيف كان التعاطي الدولي مع هذا الموضوع؟
– ابدأ بالتعاطي الصيني مع هذا المرض، حيث اتخذنا اجراءات قوية وصارمة من عزل مقاطعة هوبي بالكامل وقطع طرق الانتقال منها الى مناطق اخرى. في الوقت عينه، نحن نتصرف بكل مسؤولية تجاه صحة المواطنين الصينيين وتجاه صحة شعوب العالم. اوقفنا جميع رحلات الوفود الصينية الى الخارج، اذ توافق انتشار الوباء مع احتفالات رأس السنة الصينية، حيث تخرج وفود سياحية صينية الى انحاء العالم، وعدد السائحين الصينيين يبلغ سنويا 140 مليون سائح. لو لم تتخذ اجراءات لكان انتقل المرض الى انحاء العالم. نحن تصرفنا بحس عال من المسؤولية، كذلك نحن نتعاون بشفافية عالية مع منظمة الصحة العالمية من خلال تنظيم البيانات عن الفيروس والاجراءات التي نتخذها ونتائجها، ونشارك هذه البيانات مع خبراء في منظمة الصحة العالمية.
* كيف كان التعاطي اللبناني بعد سجال حول باخرة تنقل بضائع من الصين؟
– قبل لبنان، بادرت بعض الدول في العالم الى فرض قيود على الافراد وعلى التعامل مع الصين، ونعتقد ان هذه الاجراءات مبالغ فيها لان المرض لا ينتقل بالبضائع. يقول خبراء الصحة العالمية ان طريقة الانتقال هذا الفيروس هي من طريق الرذاذ الذي يخرج من فم الانسان. لكن الفيروس لا يعيش على سطح جاف الا بضع ساعات. بالنسبة الى لبنان، منذ بداية هذا الوباء والسفارة الصينية في لبنان تتعامل بشكل وثيق منسقة مع وزارة الصحة اللبنانية ونتبادل معلومات بشكل يومي. بحسب ما علمنا من الوزارة ان كل مسافر قادم من الصين يجب ان يفحص حرارته في المطار، وان يسجل وسائل الاتصال والمتابعة مع هؤلاء القادمين من الصين. واذا كان هناك من اعراض يجب ابلاغها الى السلطات الصحية في لبنان او تسجيلها في السفارة، ونحن نقوم بتعميم هذه المعلومات بين الجالية الصينية ونطلب منها التزام كل التعليمات. في العودة الى الباخرة، تعاملت السلطات الصحية اللبنانية بكل مسؤولية علمية مع هذا الموضوع. في الاصل ليست الباخرة صينية بل فرنسية وتتعامل مع شركة صينية للشحن البحري. اما الطاقم فمتنوع بين صينيين وجنسيات اخرى. قبل وصول الباخرة الى لبنان كان بعض افراد الطاقم من غير الصينيين يعانون من درجات حرارة مرتفعة، لكن تم شفاؤهم قبل وصولهم الى لبنان، وكانوا يعانون من مرض عادي. تم الحصول على تصديق صحي من جهات ايطالية ومصرية قبل وصول السفينة الى لبنان، ثم قامت السفينة بالتفريغ والعمل في ايطاليا ومصر قبل ان تأتي الى لبنان.
* كثرت نظريات المؤامرة عن ان تفشي هذا الفيروس متعمد، وقد ارسل الى الصين بسبب التنافس التكنولوجي والتجاري العالمي؟
– اكد المتحدث باسم الخارجية الصينية ان لا اساس علميا لهذه النظريات المختلفة، لاننا نؤكد ان الامراض هي عدو مشترك للبشرية، وبالتالي ليس من دليل علمي او منطقي لهذه النظريات.
* دخل لبنان في منظومة اقتصادية واجتماعية جديدة. هل سيلقى مساعدة الصين؟
– ثمة علاقات اقتصادية قوية بين الصين ولبنان تعود الى حقبة بعيدة منذ بدء العلاقات الديبلوماسية عام 1971. الصين اكبر شريك تجاري للبنان، ويبلغ حجم التبادل التجاري نحو ملياري دولار اميركي. هناك تشاور مستمر ونقاشات مستمرة بين الحكومتين والوزارات وقطاع العمالة في البلدين حول سبل التعاون الثنائي في مشاريع تنموية في اطار مبادرة الحزام والطريق. طرحت الصين بناء طريق اقتصادي هو طريق الحرير يبدأ من الشرق وصولا الى الغرب، مرورا بالشرق الاوسط واسيا الوسطى ولبنان جزء من هذا الحزام. الحكومة اللبنانية كانت متجاوبة جدا بالتعاون مع الصين في هذا الاطار، وقد تم توقيع مذكرة تفاهم بين البلدين في هذا الخصوص في العام 2017. هناك مناقشة مستمرة وتساهم الصين في تقديم مساعدات اقتصادية وانسانية للبنان في السنوات الماضية، خصوصا في مساعدة لبنان للتعامل مع ازمة النازحين السوريين. قدمت الصين دفعات من المساهمات الى المجتمعات المضيفة. كذلك كان اتفاق على ان تمول الحكومة الصينية المعهد الوطني العالي للموسيقى الجديد. نلنا اخيرا اذنا بالتشغيل من الحكومة وقد بدأنا عمليات الحفر، اما البناء فسينتهي في غضون 3 اعوام. في الوقت الراهن ثمة تأخير بسبب اثار الوباء في الصين الذي يمنع تنقلات بعض الافراد العاملين على المشروع ومنهم مهندسون، ولا اعتقد ان التأثير سيكون طويلا. اما بالنسبة الى المشاريع الاخرى فتتعلق بالبنى التحتية والكهرباء وسواها، ونحن منفتحون للعمل مع شركائنا في لبنان سواء بالنسبة الى مشاركة الشركات الصينية في المناقصات الدورية او بالنسبة الى التعاون الثنائي في مجالات مختلفة. نحن على استعداد لمتابعة هذه المشاورات مع الجهات الرسمية.
* هل من الممكن ان يزيد مستوى التصدير الى الصين؟
– نبذل جهودا متواصلة في هذا المجال لتشجيع زيادة الصادرات اللبنانية الى الصين. نحن نتعاون بشكل وثيق مع وزارة الاقتصاد والتجارة اللبنانية لاختيار سلع لبنانية ذات ميزات تنافسية خاصة من اجل تصديرها الى الصين. حتى الان يتم تصدير بعض المأكولات مثل الشوكولا، ونحاول تصدير النبيذ وزيت الزيتون وايجاد سلع جديدة. كذلك نحن نقدم مساعدات ونتعاون بشكل وثيق مع وزارة الاقتصاد لتشجيع المشاركة اللبنانية في معارض تجارية صينية لعرض المنتجات اللبنانية.
* هل اثّر الوباء على استقدام البضائع من الصين والتصدير؟
– ليس الان لاننا كنا في فترة اجازة رأس السنة الصينية حيث توقفت الحركة كليا. بدأنا العمل في منتصف شباط وقد تكون بعض الاثار بسبب تعثر الانتقال والشحن والتواصل الطبيعي بين التجار او صعوبة يعاني منها بعض الشركات الصينية لاستهداف التشغيل بسبب الاجراءات الصحية.
* تشارك الصين في عمليات حفظ السلام باكثر من 400 ضابط ركن وضابط وجندي. هل تزمع خفض عديدها في هذه القوات؟ وكيف تقيّم مهمتها في لبنان؟
– بالعكس، نحن مستعدون لمساهمة اكبر في قوات اليونيفيل لاننا نؤكد دوما على اهمية وجود هذه القوات في جنوب لبنان ودورها في الحفاظ على الامن والسلم في منطقة الجنوب ومنطقة الشرق الاوسط، حيث يعود الهدوء بدرجة كبيرة الى وجود اليونيفيل. نحن نرى انه يجب تعزيز دور اليونيفيل وليس خفض عديدها، واكرر اننا على استعداد لمساهمة اكبر في عملياتها.
* هل من استثمارات صينية جديدة تعد في لبنان؟ وماذا عن مشاركة الصين في مناقصات مستقبلية تتعلق بقطاعي الغاز والنفط؟
– في الوقت الراهن، ليس من استثمار كبير لاسباب عدة. لم يطرح لبنان في الاعوام الماضية مشاريع كبرى، في حين ان الشركات الصينية لديها امكانات ضخمة وتهتم بمشاريع كبرى. اما الشركات الصغرى فيصعب عليها الوصول الى السوق اللبنانية. الامر الاخر، هنالك معرفة ضئيلة للشركات الصينية بالاسواق اللبنانية، لذلك تبذل جهودا من اجل استكشاف السوق اللبنانية ودرسها. بالنسبة الى قطاعي الغاز والنفط لم تشارك الشركات الصينية في المناقصة ولم تتضح الاسباب، لكنها ليست اسبابا سياسية.
* حاولت الصين لعب دور مهدئ اخيرا بعد التوتر الذي نشأ اثر اغتيال اللواء قاسم سليماني. هل لك ان تخبرنا عن الدور الذي لعبته وزارة الخارجية الصينية في هذا المجال وفي الشرق الاوسط عموما؟
– نحن نعمل على تحقيق الامن والسلم في الشرق الاوسط لما يتمتع به من اهمية كبيرة لناحية الطاقة والجيوبوليتيكية ومكافحة التطرف والارهاب، ونتعاون مع الجميع في حل النزاعات في منطقة الشرق الاوسط على المستوى الدولي المتعدد الطرف وعلى المستوى الثنائي. نعمل على تسوية الملفات الشائكة مثل الملف النووي الايراني، وقد بذلنا جهودا قوية جدا مع شركائنا في العالم للتوصل الى اتفاق نووي ايراني وما زلنا ندعو الى الحفاظ على هذه الاتفاقية كونها نتيجة للديبلوماسية المتعددة الطرف ولحل النزاع الاقليمي الشائك من طريق مفاوضات سلمية عوضا من الحرب.
* هل ثمة موقف صيني من صفقة القرن؟
– ما زلنا ندرس هذه المبادرة، لكننا اكدنا اكثر من مرة ان القضية الفلسطينية يجب ان تحل على اساس قرارات الامم المتحدة ذات الصلة والرؤية المشتركة المتفق عليها، ومنها الارض في مقابل السلام وحل الدولتين. اي اقتراح حول تسوية هذه المشكلة يجب ان يراعي مصالح جميع الاطراف لاسيما الجانب الفلسطيني، والاستماع الى ارائهم حتى نضمن حقوقهم الوطنية المشروعة، واهمها دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية وايضا حق العودة للاجئين، وهي من ضمن الحقوق الوطنية المشروعة.
* ماذا عن مشاركة الصين في اعادة اعمار سوريا؟
– الصين مستعدة للمشاركة في اعادة الاعمار في سوريا منذ بداية الازمة. الاهم في سوريا هو وجود حل سياسي وعودة النازحين واعادة اعمارها. الحل السياسي هو الموضوع الاساسي لكن يجب ان يتم من السوريين انفسهم ووفقا لقرارات الامم المتحدة ذات الصلة. لسنا مع الربط بين عودة النازحين واعادة الاعمار في سوريا وبين العملية السياسية، ونرى ضرورة عودة النازحين الى سوريا واعادة الاعمار في اسرع وقت ممكن.
*نشرت هذه المقابلة في مجلة “الأمن العام” في العدد 78 الصادر في آذار 2020.