“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
تستمر انتفاضة 17 تشرين الأول التي اندلعت في لبنان منذ 48 يوما بفعل شرارة رفع رسوم الإتصالات المجانية عبر تطبيق “واتساب” لكنها لم تنجح لغاية اليوم في تحقيق تغييرات جذرية أو تنازلات من قبل السلطة بل سرّعت “دومينو” الإنهيار المنتظر أصلا، فتوقفت مصالح الناس وأعمالهم، وبات كثر من الموظفين عاطلين عن العمل وبدأت المدارس والمصانع والمحال التجارية والمستشفيات تعاني من نواقص مختلفة وتدفع لموظفيها نصف راتب.
لم تحقق “الإنتفاضة” أيّ مكسب شعبي، بل دفعت السلطة لأن تكون أشدّ عنادا فلم تتنازل قيد أنملة عن تشكيل حكومة تكنو- سياسية، وليس حكومة تكنوقراط كما يطالب بعض المحتجين، في وقت فعل الزمن فعله في تشتيت “الإنتفاضة” الى حراكات مختلفة حيث يبدو اللاتنسيق واضحا في عدد من الدعوات، فضلا عن حصول اجتماعين لما قيل أنهم ممثلين عن “الحراك” من شخصيات مختلفة جلّها تنتمي الى المجتمع المدني، بينما ينزع “الثوار” المرابضون منذ 17 تشرين الأول في ساحات الشهداء والعازرية ورياض الصلح عن هؤلاء أية شرعية تمثلية.
في غضون ذلك، ومع مرور الوقت تكثّف جهات دولية وسفارات أجنبية وعربية من حركتها في ساحات الاعتصام مرسلة مبعوثين في ثياب ناشطين أو صحافيين أو موظفين عاديين لجسّ نبض “الثوار” الباقين والتفاوض معهم ومحاولة اختراقهم.
وفي حين سقطت أقنعة كثيرة عن بعض الجماعات “الثائرة” وخصوصا حول مدى حجمها وقدرتها على التجييش مثل “حزب سبعة” على سبيل المثال لا الحصر، الذي فشل في خلق زوبعة تظاهرات ضد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ولم يحظ بتأييد مختلف أنشطة “الثوار” وتبيّن بالدليل الملموس أنه لا يعدو كونه “حالة” تتمظهر بقوة عبر “السوشال ميديا فحسب”، فإن شخصيات عدة سقطت بفعل تصاريحها الذاتية مثل شربل نحاس من “مواطنون ومواطنات”، كذلك فإن جمعيات مثل “بيروت مدينتي” وهي من الأوائل التي خاضت الإنتخابات البلدية عام 2016 مستخدمة سطوة “السوشال ميديا” و”الأندرويد” إضطرت لإصدار بيان اعتذار عن لقاء جمع بعضا من اعضائها مع رئيس الجمهورية العماد عون معتبرة مبادرة هؤلاء “شخصية” ولا تلزم الناشطين في الساحات.
بأي حال، فإن من يمسكون بزمام الميدان والتظاهر من ناشطين هم مختلفين تماما عن الابواق الإعلامية المعروفة الإنتماءات التي صفّقت للثورة وحاولت ركوب موجتها لحسابات وأجندات خارجية وهي اليوم في حالة من الركود وقد نزع عنها الجمهور الشرعية، وقد نجحت هذه الانتفاضة في تبديد وجوه اعلامية خلطت بشكل مستفز وغير مهني بين رسالة الصحافي الذي يجب أن يكون متجردا الى أقصى الحدود في نقل المعلومة وفي التحليل وبين العمل كناشطين سياسيين ومن أبرز الوجوه التي سقطت الاعلامية ديما صادق التي اضطرت الى الإستقالة الى “أل بي سي” تحت وطأة الأخطاء التي ارتكبتها والتي حرّكت ضدها رأيا عاما واسعا.
إن من بقوا في الساحات يختلفون تماما عن الأحزاب التي حاولت أن تمتطي الثورة قبل أن تكتشف متأخرة بأنها أول المنبوذين، وهؤلاء يختلفون عن سلسلة أكاديميين وجامعيين أو منتمين الى مراكز أبحاث لبنانية وعربية وأجنبية يحاولون تسويق أفكارهم السياسية حينا والفتنوية حينا آخر عبر منصات “السوشال ميديا”، وهؤلاء الذين في الساحات مختلفون عن شخصيات متسلقة تنتمي الى جهات مختلفة وقد سقطت بعض وجوهها حيث تكاثرت في الآونة الأخيرة “الفضائح” بين الثوار انفسهم، كذلك سقطت رموز للثورة منها الناشطة نضال أيوب التي هتفت لإبقاء اللاجئين السوريين في لبنان، وربيع الزين الذي رسمت أكثر من علامة استفهام حول دوره. ولعلّ من انجازات الثورة أنها فككت محاولات جرّ لبنان الى حرب أهلية فرفض الثوار بناء جدران فاصلة بين المناطق كما في نهر الكلب، واستوعبوا استشهاد علاء أبو خير والشاب من آل العطار و استشهاد المواطنين سناء الجندي وحسين شلهوب على طريق الجية الجنوب بفعل قطع الطرق.
لكن، لغاية اليوم لم تقدّم هذه الإنتفاضة التي باتت برؤوس كثيرة بديلا موضوعيا يسهم في تحقيق مكاسب للناس، وفي مساعدة السلطة الفاشلة اصلا في وضع تصوّر لمرحلة انتقالية باتت جلية وستكون فيها لهذه الإنتفاضة الكلمة الفصل في أكثر من استحقاق.
جلسة في خيمة لـ”الثوار”
في ساحة الشهداء، تمتد الخيم ذي القواعد الحديدة على جزء غير قليل من الساحة، هنا يخيّم شباّن وشابات يصرون على ابقاء الشارع حيّا لأنه بنظرهم طريق التغيير. يتلاقون وينصرفون الى تظاهرات متفرقة، في قصر العدل، أمام مبنى الضريبة على القيمة المضافة وسواها من الأماكن…
هنا يحتسي الشباب ما تيسّر من ضيافات وصلتهم، يجلسون على مقاعد اسفنجية تلامس الأرض، يعلقون في أسقف الخيم أكياسا من المياه لطرد الذباب، يأكلون ما تيسّر.
كلّ هذه المظاهر من شظف العيش، لا يمكنها أن تلغي تساؤلات مشروعة: من أين لهؤلاء هذه الخيم الحديثة وما هي مصلحتهم بالبقاء في الشارع؟ كيف يحافظون على بقاء العديد من الشبان على الأرض؟ كيف تمكنوا من اصدار صحيفة “ثورة 17 تشرين” وطباعتها وهي صدرت بعددها الأول وتستعد للتحول أسبوعية؟ ما هو مشروعهم؟ من يتصل بهم؟ هل هم منفصلون عن المحادثات السياسية الداخلية وتلك الدولية التي تحصل بين العواصم من باريس الى لندن؟
هوشر: نحن بديل جدّي عن الأحزاب وليس عن الدّولة
منذ اليوم الأول للانتفاضة بقي ضياء هوشر ابن عكار في الساحات. التقيناه منذ قرابة الشهر ونصف الشهر وقد نال ضربة تحت عينه سببت له جرحا يبدو أنه اندمل حاليا. لا يزال هوشر متسلحا بالحماسة نفسها مثل الأيام الأولى للانتفاضة مع بعض الملاحظات التي سجلها:
-اعتقدنا بأنه توجد دولة قادرة على الإنقاذ قبل الإنهيار لكنها بدت أكثر عجزا. فقد تفاقمت الأزمات إذ عجزت منظومة الدولة عن تقديم أيّ حل، وكل ما يحصل من زيادة في اسعار السلع الأساسية وتفلت الدولار وسواها من المشاكل والأفق المسدود ليس لأننا مستمرون في الشارع بل لأن هذه الدولة اصبحت صامتة امام قدرة الشعب على المبادرة في الشارع. يعترف هوشر ان الانتفاضة لم تنجح لغاية اليوم في “انتزاع أي حق خدماتي” مسارعا الى القول:” لكنها غير مسؤولة عن اي تدهور اقتصادي لانها لاتمسك بمفاصل الأمور ويجب توجيه الأنظار الى مصرف لبنان وخلافاته مع جمعية المصارف والسياسيين واصحاب رؤؤس المال والإضاءة على المعابر غير الشرعية وما يحصل في المرفأ على سبيل المثال لا الحصر”.
*هل تحولت ههذ الإنتفاضة الى طبقات: مجتمع مدني، احزاب، وحراك الناس العاديين؟
-يقول هوشر:” لا توجد طبقات في الإنتفاضة، بل مطالب متفاوتة بين خدماتية وخدماتية- شخصية وأخرى سياسية حقوقية مثل المطالبة بالعدالة الإجتماعية. كذلك تتفاوت المطالبات السياسية بين مطالبين بالدولة المدنية وآخرين مطالبين بالدولة العلمانية الشاملة.
*وماذا إذن عن اجتماعي “البريستول” و”سمولفيل” لجمعيات وشخصيات تقول أنها تمثل الإنتفاضة وتعمل على تصور مشترك؟
-هوشر: هذه الإجتماعات شكلية لبعض الجمعيات التي لا تمثل إلا نفسها، ولبعض الأشخاص الذين لا يمثلون إلا أنفسهم. أعطي مثالا: بالأمس دعت ما يسمى بـ”هيئة تنسيق الثورة” الى تظاهرة في بعبدا، فما هي الأعداد التي شاركت فيها؟ وكم تمكّنت من الحشد؟ في المقابل دعت المجموعات المستقلة المعتصمة دوما في ساحات الشهداء والعازية ورياض الصلح الى مسيرة مشتركة من الأشرفية والمتحف وفردان ومصرف لبنان وقد تمكّنت من حشد أكثر من 15 الف متظاهر.
*ماذا حققت الإنتفاضة بعد 48 يوما؟
-ان هذه الإنتفاضة هي ردّة فعل شعبية وقد حصدت لغاية اليوم نتائج عدة أبرزها اسقاط السلطة الثالثة (أي الحكومة)، ومنع السلطة الثانية (اي البرلمان) من الإجتماع واتخاذ قرارات غير ملائمة من أبرزها اقرار قانون العفو. ولعل الإنجاز الأهم يتمثل بإسكات صوت الطبقة السياسية الحاكمة.
*ما هي الأضرار التي تسببت بها الإنتفاضة؟ يبدو أنها كثيرة.
-لم تسبّب الإنتفاضة أضرارا، نحن طالبنا بتصحيح المسار وبتصويب الأمور لكن لم يتم التفاعل مع مطالب المواطنين.
*يبدو أن عجلة الحياة الطبيعية تعطلت أكثر، وتراجعت حياة المواطنين ومعيشتهم…
-هذا لم يحدث بسبب الإنتفاضة، نحن نطالب الدولة بالإسراع بتشكيل حكومة لإدارة شؤون الناس، تبين أن هؤلاء هم عديمو القدرة على تشكيل اية حالة لإدارة هذه الأزمة.
*ما هي المطالب حاليا؟
-حكومة تكنوقراط مؤلفة من كفاءات وإذا كان لا بد من تطعيمها بسياسيين عليهم ان يكونوا بعيدين من شبهة الفساد وانتخابات نيابية مبكرة يسبقها اقرار قانون انتخابي عادل ونزيه.
*ما هو الأفق الذي ترسمونه كمعتصمين دائمين منذ بداية الإنتفاضة للمواطن اللبناني؟
-سنبقى مستمرين في تحركاتنا حتى تقوم الدولة بتشكيل حكومة تدير شؤون الناس، نحن لسنا حالة بديلة بل نحن حالة شبه بديلة عن منظومة احزاب السلطة وهي حالة جدية لكننا لسنا بحالة بديلة عن الدولة، لذلك فنحن نطالبها لأنها هي المسؤولة الأولى عن اي تدهور أمني واقتصادي واجتماعي وصحي وعن أي انهيار سياسي لأنه يفترض بها الامساك بزمام الأمور.
*كيف يمكن أن تتحقق مطالبكم بلا حوار مع المسؤولين؟
-نحن نطالب، فليبادروا للدعوة الى استشارات نيابية، ليقوموا بخطوة الى الأمام بعدها نفكر ان كنا سنحاورهم ام لا.
*هل بالإمكان أن تكونوا مشاركين في الحكومة؟
-ان المتابعة السياسية لتاريخ المنظومة الحاكمة تؤشر الى أنه لا يمكن الدخول معها كشريك في السلطة، نزلنا الى الشارع قبل انفجار البلد، لكن يبدو أنه لا توجد لديهم حلول لمنع الفوضى الإقتصادية والمالية والضرائبية وسواها. كذلك فإن كل من يتفاوض مع السلطة يتفاوض بإسمه الشخصي وليس بإسم الشارع، لا يفك الإعتصام إلا من ينام في الشارع، أما المتسلقين من بعض الأحزاب وبعض الجمعيات المدّعية بأنها مجتمع مدني فهم لن يتمكنوا من تسلق هذه الإنتفاضة التي سبق وشبهتها بحصان جامح يسقط كل من يحاول امتطاءه.
*ما هي الخلاصة؟
-نحن كحالة شعبية عفوية منتفضة أصبحنا بديلا عن احزاب السلطة، ونحن نعمل انطلاقا من حاجة المجتمع لكي نكون بديلا جدّيا وضامنا للشعب وللناس ولكل شخص خلع عباءة الحزب والطائفة الخاصة به، وخلع ثوب المنطقة التي ينتمي اليها وعباءة الإقطاع في منطقته. نريد بناء مجتمع حر لإنسان حر.