“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
رفض اللبنانيون المتظاهرون في لبنان الورقة الإصلاحية التي قدّمها رئيس الحكومة سعد الحريري سلفا حتى قبل أن يعلنها بعد ظهر أمس الإثنين، فالطبقة السياسية باتت بحاجة الى عملية جراحية أعمق من ورقة إصلاحية ولو شكلت تغيرا نوعيا في توجهات الحكومة التي كانت منصبة على فرض ضرائب على الناس فحسب دون اصلاحات جذرية. إلا أن الورقة التي رفضتها أحزاب وقوى مدنية تم رفضها أيضا من أطراف قريبة من فريق السلطة الحاكم، معتبرة انها غير ذي صدقية لأن الحكومة والمسؤولين السياسيين برمتهم غير موثوقين.
وأخيرا، برزت مصالح زعماء الطوائف الى الواجهة وهم بدأوا الاستثمار السياسي الفعلي في الحراك الشعبي العفوي.
* درزيا، اكتشف وليد جنبلاط بأن التسوية الرئاسية أطاحت به كما بسمير جعجع، فقرر الإنقلاب على عهد الرئيس ميشال عون وإزاحته واستعادة سطوته، وهو حاول قبل يومين من انفجار التظاهرات بسبب قرار فرض زيادة 20 سنتا على المكالمات المجانية لتطبيق واتساب تحريك الشارع الدرزي بتظاهرات لم تستطع أن تشمل جميع اللبنانيين، ولما اندلع الحراك دعمه.
زعيم الحزب التقدمي الإشتراكي يقبل الورقة الإصلاحية ويرفضها في آن واضعا أمام نفسه خيارات الانقلاب عليها في أية لحظة مترقبا تطورات الحراك والصدى الدولي الذي سيتخذه الذي لم يتظهر بعد بشكل واضح.
سمير جعجع: قفز حزب القوات اللبنانية ورئيسه سمير جعجع من مركب الحكومة معلنا استقالة وزرائه الأربعة وركب موجة التظاهرات الشعبية محاولا فرض نفسه بصورة حراك مدني، لكنه سرعان ما انكشف إذ عاد شبابه وهذه المرة من الجيل الصاعد الى ممارسات معروفة في الحرب مثل قطع أوصال المناطق اللبنانية المسيحية خصوصا وقمع اي رأي ينتقد رئيسه سمير جعجع. جعجع يحمل حنقا دفينا ضد غريمه ميشال عون ويعتبر أنه أوصله الى رئاسة الجمهورية ولكن الأخير انقض على ورقة تفاهم معراب التي كانت تقسم “المغانم” الإدارية اللبنانية على الطرفين مفضلا أن يقود الشارع المسيحي لوحده. يرى جعجع في الحراك فرصة مميزة لانتفاضة قواتية جديدة في الشارع المسيحي وهذا ما يعمل عليه.
المعارضون الشيعة: على غرار حزبي القوات والإشتراكي، تتصرف شخصيات شيعية مناوئة لحزب الله في مناطق نفوذ “حزب الله” وحركة “أمل” بطريقة تحاول استثمار الحراك سياسيا. فهذه الشخصيات المعروفة بولائها لسفارات معينة (أطلق عليها أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله تسمية “شيعة السفارة”) ركبت موجة الاحتجاج محاولة فرض نفسها، وهي نجحت في تحريك احتجاجات ضد رئيس المجلس النيابي نبيه بري وزوجته رندة من خلال هتافات انطلقت ضده في مدينة صور حيث تم حرق فندق (استراحة صور) و يقال أن زوجته مساهمة فيه، من غير أن تستطيع لغاية الآن ان تنفذ اجندتها كاملة.
وتبرز قوة هذه الشخصيات من خلال صحافيين وإعلاميين شيعة بدأوا تحريضا كبيرا ضد عهد الرئيس الحالي ميشال عون المتحالف مع “ميليشيا “حزب الله” كما يسمونها من على منابر عدّة “مزروعين فيها” في لبنان وفي وسائل اعلامية مدعومة وعبر السوشال ميديا ولكن أيضا عبر جمعيات كثيرة تحمل يافطة “المجتمع المدني” وهي تشكل دينامو أساسي في هيكلة الحراك وتنظيمه من وراء الكواليس وعبر قيادات شابة.
أما بالنسبة الى حزب الله، فعجزت هذه الشخصيات لغاية الآن من تأليب الشارع الشيعي ضده بالرغم من هتافات وانتقادات متفرقة نالت من الحزب “لأنه يغطي فاسدين” لكنها لم ترق الى مستوى الإنقلاب في بيئته الشعبية والتي يضعها المعارضون الشيعة ومن يدعمونهم نصب أعينهم مراهنين على ثلاثة أمور: مواجهة مسلحة بين “حزب الله” والجيش اللبناني، مواجهة بين “حزب الله” والمتظاهرين ورفع الغطاء الشعبي عن “حزب الله” بحجة أنه يدعم حكومة فاشلة وفاسدة.
*الشارع السني: في هذا الشارع انقلاب أيضا، في طرابلس وصيدا المدينتين الوازنتين سنيا وكذلك في عكار وفي البقاع علت الهتافات مطالبة باسقاط رئيس الحكومة سعد الحريري، علما أن هذه البقع السنية كانت ومنذ قرابة العامين ونصف العام محطّ اهتمام غير مألوف لدول إقليمية وازنة سعت الى أن تعوض تقاعس الدولة اللبنانية في إنمائها ومساعدة أهلها الفقراء، وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة التي افتتحت مشاريع ضخمة فيها، أما السعودية فكان دعمها فرديا لشخصيات مؤثرة، ولا ننسى قطر التي تحركت على أكثر من جبهة لا سيما في طرابلس محاولة وقف المدين السعودي والإماراتي لا سيما في بيئات محددة. هذا الحراك، أثمر اليوم ثورة حقيقية ضد سعد الحريري التي تسعى هذه الدول وخصوصا التحالف السعودي الإماراتي الى استقالته الفورية وهي خطة لم تتغير منذ احتجاز الحريري عام 2017 في السعودية. فهل تنجح؟ الوقت كفيل بتأكيد ذلك.
علما بأن دولة الإمارات العربية المتحدة قدّمت نفسها أخيرا راعية للحريري واستقبلته بحفاوة أثناء انعقاد مؤتمر الإستثمار الإماراتي اللبناني في أبو ظبي، وأعطته دفعا قويا برفع حظر السفر عن المواطنين الإماراتيين، لكن يبدو بأن الحراك الشعبي اللبناني العفوي وغير المنتظر قد يعيد الساعة الإماراتية الى عام 2017، علما بأن هذا السيناريو غير مؤكد بعد.
*حركة أمل: الحركة بمأزق حقيقي شعبيا وقد تبين ذلك بشكل واضح في الإنتخابات النيابية الأخيرة، التي خاضتها في لوائح مشتركة مع “حزب الله” لكن التصويت الشيعي كان واضحا بأنه يصبّ أكثر لصالح “الحزب”. هل يتمكن الرئيس نبيه بري من ضبط شارعه ومنعه من الدخول في ردود فعل غوغائية ضد المتظاهرين الذين يشتمون “الحركة” كما جميع أركان السلطة؟ يوم أمس الاثنين سارت مجموعة من المناصرين للحركة في حركة استفزازية في شوارع بيروت محاولين ترهيب المتظاهرين في ساحة رياض الصلح، تصدى لها الجيش اللبناني وشتتها. تنصلت حركة أمل منها ببيان رسمي، كذلك فعل “حزب الله” الذي يبدو بأن مناصري “الحركة” حملوا أعلامه لاعطاء الإنطباع بأن “حزب الله” سيقمع المتظاهرين في أية لحظة وهذا أمر غير صحيح لمن يعرف النفس الطويل والإنضباط الذي يتمتع به “الحزب”.
*”حزب الله” “حزب الله” في موقع مريح قياسا الى المناخ الذي يصدّره عبر أوساط مقربة منه. فهو يقول بأن الحراك الشعبي دفع الحكومة الى تصويب مسارها الضرائبي واتخاذ اجراءات تقود الى إصلاح مستقبلي كان ينادي به في مجلس الوزراء. أمينه العام السيد حسن نصر الله وضع خطوطا حمرا للحراك: ممنوع اسقاط العهد أو الحكومة خوفا من غرق البلاد في الفوضى وفي انهيار مالي. لا شك أن حزب الله تفاجأ بهذا الحراك الشعبي الذي انضوى فيه أنصار له لا سيما في الايام الأولى، لكنّه لا يزال لغاية الآن يراقبه بعين تتقبل الحراك من جهة لأنه محق، وتتوجس من ناحية أخرى من استثمار اقليمي له بدأ يظهر في اليومين الأخيرين من خلال تلفزيونات محلية وعربية يصوّب مراسلوها آراء المحتجين ضد حزب الله ويقمعون على الهواء مباشرة أي رأي لصالحه. وتمثل أمس بحرق متعمد من أحد المتظاهرين لعلم حزب الله في طرابلس، علما بأن المدينة أحرقت كل قياداتها السنية ومنعتهم من أي مشاركة في الحراك نابذة الجميع. معروف بأن حزب الله، لا يتحرك عشوائيا، هو في طور دراسة ما يحصل لكن لا احد يمكن أن يتنبأ بردود فعله في حال تأكد استهدافه نظرا الى السرية التامة التي يحيط بها قراراته.
“التيار الوطني الحر”: هو أكبر الخاسرين من هذا الحراك الشعبي. صحيح بأن مناصريه يحاولون الإيحاء أن المطالب هي أصلا مطالب “التيار” لكن الواقع مغاير. فمنذ أن أوصل “التيار الوطني الحر” زعيمه ميشال عون الى سدة الرئاسة، مارس سياسة استبعاد لجميع من يعارضونه الرأي سواء في الداخل المسيحي كاستبعاد القوات اللبنانية عن اية مشاركة سياسية وادارية وازنة ناسفا ورقة معراب، و أبرز مؤسسيه من العونيين سواء مدنيين او ضباطا متقاعدين مجردا نفسه من حصانة ضرورية تاركا المجال لقياديين معدومي الخبرة في ممارسة الشأن العام، يعتمدون سياسية التكبر والإستعلاء وكأنهم في أبراج عاجية. الى ذلك لم يستطع رئيس التار الوطني الحر جبران باسيل من “لمّ شمل” الشارع المسيحي حوله ولم يتقبل التعاون بالحد الادنى مع الأحزاب المناوئة كالقوات والكتائب والمردة فاستبعدها محاولا تصويب مشاركة المسيحيين في الدولة لوحده. باسيل، كان يحمل نوايا جيدة من أجل إعادة المسيحيين الى السلطة وارساء توازن مع بقية الطوائف، لكنه أخطأ في اسلوب العمل ولم يهتم يوما لصورته لدى الرأي العام معتبرا بأن نتائج عمله هي الأهم وهذا ما استخدم ضده ونسف صورته كسياسي لذا نال الحصة الأكبر من انتقادات المتظاهرين. كما أن طموحه الرئاسي جعل خصومه يهجمون عليه من كل حدب وصوب وفي مقدمتهم سليمان فرنجية الذي يشعر أنه الوريث الشرعي للرئاسة بعد عون، وسمير جعجع الذي وجد في الحراك فرصة مناسبة لحرق أوراق باسيل والتيار الوطني الحر واستعادة القرار القواتي في الشارع المسيحي. هل يستطيع باسيل القيام من هذه المحنة؟ هل احترقت اوراقه كلها؟ علّمت التجارب اللبنانية أن لا أحد يحترق كليا في لبنان. لكن لا شك أن رفع المحنة صعب لا سيما أن خطاب باسيل الإستفزازي طاول سياسيين محنكين في السياسة اللبنانية أبرزهما وليد جنبلاط ونبيه بري.