“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
دقّت ساعة الحساب. هذا ما قرره الشعب اللبناني المتظاهر منذ 4 أيام من الشمال الى الجنوب والبقاع وبيروت. دقت ساعة الحساب، لطبقة سياسية متوارثة تحكمه منذ عام 1943، ولطبقة أخرى أوصلها بنضاله ودعمه لها منذ 30 عاما، ولمّا وصلت رفعت إصبعها بوجهه وقالت له بغطرسة:” أوعا تسمّعنا صوتك”.
غيّر المدّ اللبناني المعادلات كلّها، وعوض أن يخاف رئيس الحكومة سعد الحريري من غضب الدول المانحة، صار يحسب ما ستكون ردّة فعل الشارع اللبناني على الورقة الإصلاحية التي بدأ بإعدادها والتي طلب مهلة 72 ساعة لكي يتشاور مع حلفائه.
قفز وزراء القوات اللبنانية أمس من المركب مقدمين استقالتهم ومتوقعين ألا يرضى الشعب على ورقة جاءت متأخرة 3 أعوام بالحدّ الأدنى ومنذ اتفاق الطائف بالحد الأقصى.
صار السياسيون يعملون على وقع جغرافيا التظاهرات التي شارك فيها اللبنانيون جميعهم متخلين عن أحزابهم وألوانهم الطائفية. وبلغت هذه الثورة ذروتها حين أحرق متظاهرون أملاكا لسياسيين لم يكونوا يجرأون على الهمس برأي مخالف لهم ولو بين ذواتهم. تواجهوا مع مسلحيهم ورفعوا التحدي واستمروا، وهذا ما حصل في صور وطرابلس ولكن أيضا في بيروت حيث اضطر زعيم طائفة أن يركب زورقا للوصول الى منزله.
دقّت ساعة الحساب، بحركة إعتراضية شاملة. لا شكّ أن هذه الحركة لم تكن متوقعة باتساعها وشموليتها، لكنّ أنين الناس الموجوعين في لبنان ومن الطوائف كلّها كان مسموعا بقوة ممن يعيشون مع الناس، لكنها لم تكن مسموعة من وزراء كانوا لا يزالون يتصرفون بعنجهية الجاهل لنبض الشعب المقهور، آخرهما (وهما ليسا الوحيدين) وزير الإعلام جمال الجراح الذي طلع على المنبر لـ”يزفّ” خبر فرض ضرائب جديدة ومنها ضريبة “الواتساب”، وسانده وزير الإتصالات محمد شقير، الذي رفض منذ فترة قصيرة المثول للمساءلة أمام القضاء عن أدائه في وزارة الإتصالات، بحيث اشترى مبنى لشركة “تاتش” بملايين الدولارات (ليصبح ملكا للدولة) فيما العجز يتراكم. ولم يسلم وزراء ونواب التيار الوطني الحر الموجود في السلطة من أخطاء مميتة، أبرزها في التعبير المتكبر والتعاطي الإنتقائي الذي يقرب محازبيهم وأنصارهم ويستبعد كل من يخالفهم الرأي ولو كان “عونيا”.
وآخر “إبداعات” وزراء ونواب “التيار الحر” التي “جنّنت” الناس: مخاطبة وزير البيئة فادي جريصاتي للبنانيين الذين لا يفرزون النفايات: أوعا تسمعونا صوتكم! ووزير المهجرين غسان عطاالله الذي خاطب زميلته النائبة بولا يعقوبيان محاولا التعرض لشرفها لأنها انتقدت تياره.
ووصف نائب جزين زياد أسود عن رئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري بأنه “مثلث اللعنات”، وأخيرا وليس آخرا كمّ الشتائم التي لا توصف التي يخاطب فيها بعض قياديي التيار مناوئيهم وبعضم رفقاء سابقين تم طردهم.
وليس آخرا… الإنقضاض على حقوق العسكريين والضباط القدامى، ومحاولة “تشليحهم” مستحقاتهم التقاعدية واجتزاء خدمات استحقوها بدماء قدموها للبنان عبر السنين ودفعوا ثمنها شهريا من رواتبهم.
هذا عدا الأمور التي باتت لازمة معروفة، والتي تحملها اللبنانيون أعواما “طامرين” كراماتهم خائفين على استقرار بلدهم اذ يدفعون فاتورتي كهرباء، فاتورتي ماء، فاتورتي إتصالات. ويعانون من انترنت رديء ومحسوبيات في الإدارات العامة وطائفية في التوظيف. علما، أن “التيار الوطني الحر” انغمس كما الأحزاب الأخرى في عملية تقسيم الوظائف على الأحزاب، فأنت كلبناني لا يمكنك أن تتوظف إذا لم تكن محسوبا على حزب معين! وإلا لا تكون من حصة أحد فتموت قهرا.
لا مكان للمثقفين، لا مكان للعقول النيرة، لا مكان للخلاقين وكم هم كثر في لبنان. لا عمل من أجل تطوير الصناعة ولا الزراعة ولا تسهيلات للناس لكي تفتح مشاريع صغرى ولتقوم بمبادرات تدرّ عليها مالا، بالعكس عوائق ورشاوى وعراقيل لا تعدّ ولا تحصى ومصرف مركزي يعمل بصمت وغموض لا يفقهه ألا العالمين فيه.
بالإضافة الى ذلك، جاءت العقوبات الأميركية ضد “حزب الله” طالبة من المصارف برامج امتثال، فاستغلتها لتقيد الناس العاديين بأموالهم، فلم تعد تعطيهم أموالهم إلا بالقطّارة، وكأنهم يشحدون جنى عمرهم، وهو ما ستكون له نتائج كارثية في الأيام القليلة المقبلة عندما تفتح المصارف بعد إغلاق مستمر منذ 4 أيام.
في السياسة، وصل العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية بتسوية بينه وبين رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري، وبقبول من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وبرافعة من “حزب الله”.
لكن القائد المسيحي، الذي طرده الجيش السوري من لبنان عام 1989، ونفي الى فرنسا أعواما وعاد عام 2005 بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري بتسونامي حقيقي جعله يتربع قائدا لكتلة نيابية مسيحية وازنة عادت وأوصلته الى الحكم عام 2016، لم يسلك طريق التوازن في العلاقات الخارجية للبنان.
عند انتخابه، طلب منه من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي أرسلت له موفدين، وكذلك من قبل الدول الخليجية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية أن ينتهج سياسة توازن بين موقفه المؤيد لحزب الله وبين موقع لبنان العربي.
صحيح أن عون، اختار السعودية وجهة سفر أولى وهو رفض لغاية الآن زيارة إيران، لكنه في مقابلاته وتصريحاته العلنية وإحداها مع تلفزيون مصري إبان زيارته الى مصر أعلن ما لا تحبه هذه الدول، معطيا أسبقية لإيران. فوقع في المحظور. ورفع الغطاء عن عهده كليا. من جهته، وقف وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل في بعض المناسبات الدبلوماسية ضد الإجماع العربي في سابقة في تاريخ لبنان الدبلوماسي أذهلت العرب وزادت سخطهم على لبنان “الشقيق الصغير” فقرروا معاقبته جماعيا.
منذ عامين ونصف لعام، وهذه الدول تهيء أرضية الثورة التي نشهدها حاليا، وتحذر من عقوبات آتية، تم العمل على تظهير الإخفاقات بمكبّرات صحافيين واعلاميين ومغردين وناشطين ومسؤولين محليين من الشمال الى الجنوب والشوف وبيروت والبقاع وكل المناطق اللبنانية يأتمرون بأجندات الخارج.
وساعد الأداء السيء للنواب وللوزراء هذه الخطة، بسبب الإنغماس في سياسات الهدر وعدم المحاسبة والعمل على المشاريع الفردية لا الوطنية الشاملة. الى أن قرر الشعب اللبناني أن ينتفض لكرامته المسلوبة منذ 17 تشرين الأول الجاري.
في الأشهر الأخيرة، كان اللبنانيون يسيرون على الطرقات ويجلسون في المقاهي يحتسون القهوة ويأخذون النارجيلة وكأنهم سكارى.
كان اللبناني يقفز من منزله ليلا بعد عودته من دوام العمل ليملأ سيارته بالوقود لأن اضرابا مفاجئا لأصحاب المحطات طرأ بسبب شح الدولار، أو يقفز ليتناول ربطة خبز لاولاده بسبب اضراب الأفران. كان اللبنانيون الذين لا يتمتعون بضمان اجتماعي يموتون عند ابواب المستشفيات التي لا تستقبلهم إذا لم يدفعوا، نسب البطالة بلغت حدا أقصى، الفقر استشرى، المؤسسات أقفلت ابوابها، وأكبر دليل انهيار تام للمؤسسات الصحافية. جرّدوهم من كل شيء. واخيرا قرروا الإنخراط بمشاريع مؤتمر “سيدر” الذي كان من المتوقع افتتاحه المالي في 15 تشرين الثاني المقبل، لكن المؤتمر الذي ترعاه فرنسا ودول مانحة والبنك الدولي لتمويل مشاريع بقرابة الـ 11 مليار دولار، تمتد على اعوام، اشترط اصلاحات بنيوية في الإقتصاد، وطلب تفعيل وانشاء هيئات رقابية، وتخفيض عجز الميزانية نقطة واحدة في السنة على خمسة أعوام، باختصار طلب شفافية.
هنا وقع الطاقم الحاكم في المحظور. اختار وضع ضريبة على المستهلك المهترئ أصلا، فقامت الدنيا ولن تقعد. وإذا قدم الحريري اليوم أو غدا ورقته الإصلاحية، فستكون أعجوبة أن يقبل بها الشارع الثائر، الذي يريد استقالة جماعية للحكم القائم، واستعادة الأموال المنهوبة منه لأعوام طويلة، ولن يقبل بعد اليوم غشا ولعبا على الوتر الطائفي الذي أثبت انه انقطع في الأيام الأخيرة. وسط هذه المعمعة، تبقى نتائج التظاهرات المليونية ضبابية، فإما تكون نتيجتها تعديلا لسلوك طبقة يصعب تغييرها بسرعة نتيجة التوازنات الدقيقة للبنان، أو فوضى عارمة وانهيار ماليا وانفلاتا أمنيا لا يتمناه أحد.