“مصدر دبلوماسي”- مارلين خليفة:
قدّم المفكر والكاتب الشيوعي كريم مروّة سردّية رائعة لشاهد عيان على ثورة 1958 أو “الحرب الصغرى” التي شكلت “بروفة” لحرب 1975 . سردية تستحق القراءة بتمعّن يتفرّد موقع “مصدر دبلوماسي” بإعدادها إثر حضوره ندوة نظمها معهد عصام فارس للسياسات العامة ومركز الدراسات العربية والشرق أوسطية في الجامعة الأميركية في بيروت حول “إعادة تخيّل ثورة عام 1958 في الشرق الأوسط”.
سرد مروّة وقائع تاريخية منها كيف اعترض رئيس وزراء سوريا جميل مردم على توقيع لبنان المستقل حديثا عام 1943 لبروتوكول جامعة الدول العربية، وسرد مروّة كيف أنه بعد الحرب العالمية الأولى وامتدادا الى الحرب العالمية الثانية كانت عين القيادات السورية على لبنان ” ليس بالضرورة ان يكونا بلدا واحدا، لكن كما قال يوما الرئيس السوري حافظ الأسد: نحن شعب واحد في دولتين”،
وتحدث عن لبنان المستقل عام 1943 الذي بني على المحاصصة الطائفية، وقال أن مشكلة الرئيس كميل شمعون هو أنه تبنّى ادخال لبنان في حلف بغداد الأميركي الإنكليزي الفرنسي، وتطرّق الى تأسيس الجمهورية العربية المتحدة والدور السوري في لبنان وصولا الى أيار 1958 تاريخ اغتيال نسيب المتني. وبالرغم من دموية الثورة لاتخاذها طابعا طائفيا (قتل على الهوية) فقد كانت لها طرائف منها طلب كمال جنبلاط من الحزب الشيوعي” إرسال “كم شخص مسيحي” للوقوف على الحواجز كي لا تبدو كلها ذي صبغة درزية. يقول مروّة: كان الطابع الأساسي للمعركة القتل والإغتيال بحسب الهوية الطائفية، كان الأمر مرعبا. كانت من أبشع أنواع الصراع السياسي باللغة الطائفية. (ننشر مداخلة مروّة كاملة في سياق هذا التقرير)
شارك في الندوة التي أدارها الدكتور جيفري كرم من الجامعة اللبنانية الأميركية شخصيات سياسية ومتخصصين في التاريخ الحديث شرحوا خلفيات هذه الثورة التي بدأت تباشيرها فعليا منذ تأميم قناة السويس وبداية ضعف الوجود البريطاني في المنطقة وقرار الولايات المتحدة الأميركية دخول الشرق الأوسط عبر ثورات وقلاقل ووسط حرب باردة مع الإتحاد السوفياتي السابق تجلت في أكثر من مكان في العراق والأردن ولكن أيضا في لبنان الذي دخل في “حلف بغداد” ما وضعه على فوهة بركان تفجّرت في ثورة 1958.
تكمن أهمية هذا الحدث في الجامعة الأميركية بدراسته هذه الثورة من نواحي مختلفة تتعلق بتأسيس لبنان المستقل على جملة من “الأعطال” بحسب الكاتب حازم صاغية – قدّم بدوره سردية تحليلية عميقة ومعبّرة للمعضلة اللبنانية التاريخية- أبرزها المحاصصة الطائفية والإتكال على القوى الإقليمية والدولية لحل مشاكلنا لا بل استجلاب مشاكل هذه الدول الى لبنان، كما فعل رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون حين أدخل لبنان في “حلف بغداد” وهو نموذج للصراع السوفياتي الأميركي في حين أن لا شأن للبنان به، وهذا ما دفع قسما من اللبنانيين المناوئين للتمديد لشمعون والمعترضين على تزوير انتخابات عام 1957 على الإستعانة بجمال عبد الناصر الذي بعد أن شكّل الوحدة المصرية السورية في 1958 وضع عينه على لبنان.
ولعل أبرز ما في دراسة ثورة 1958 هي في كونها شكلت “بروفة” لحرب عام 1975، التي اشتعلت بسبب التناقضات الداخلية مستعينة بالخارج الذي تمثل هذه المرة بمنظمة التحرير الفلسطينية وبسوريا بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد.
في بداية الندوة الأخيرة التي اختتمت يومين من النقاشات أشار مدير مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية الدكتور سامر فرنجية في مقدّمته الى ان ثورة 1958 هي نقطة ارتكاز للمؤرخين كونها مفصلية لفهم تحولات لبنان وبدايات لحروب ولثورات وهي عام اكتشاف ضعف لبنان، وسأل فرنجية: هل كانت ثورة 1958 “بروفة” لحرب
1975؟ وناقش 4 متحدثين ثورة ذاك العام وعلاقتها بالحاضر اللبناني هم الدكاترة: كارولين عطية وسامي بارودي والمناضل الشيوعي كريم مروّة والكاتب حازم صاغية.
الرهان الخاطئ على الولايات المتحدة الأميركية
تحدثت الدكتورة كارولين عطية عن أوهام نشأت لدى اللبنانيين بعد ثورة 1958، أولا ظنّهم بإمكانية الإعتماد على الأميركيين في أزمات لاحقة، في حين كان هاجس الولايات المتحدة الأميركية ينصب على لجم المدّ الشيوعي، التطلع اللبناني للخارج لكي يقدّم حلولا جاهزة للأزمات الداخلية كما في مؤتمرات لوزان وجنيف والطائف، وهذه أمور بدأت عام 1958، كذلك أدت تلك الثورة الى تعزيز الفكر الطائفي في لبنان. تستخلص عطية أنه بعد مرور 60 عاما لا تزال الطائفية موجودة وعاد الطقم القديم واستخدم الخطاب السياسي ذاته والمفردات ذاتها نسمعها الى اليوم مثل: أنا بيّ السنّة، وأنا أكبر حزب مسيحي وسواها.
بارودي: مجتمع لبناني مخترق
تحدث الدكتور سامي بارودي من الجامعة اللبنانية الأميركية، وسأل: لماذا الكيان اللبناني معرّض للأزمات؟ وقال أن لا بديل للوطن اللبناني وهو سيستمر شئنا أم أبينا. وقال أننا كلبنانيين لم نتعلم دروسا كافية مما حصل عام 1958 وكان يوجد احتمال عام 2008 لأن يغرق البلد في اقتتال جديد. واشار بارودي الى أن السبب الأول للأزمات اللبنانية هو خارجي، فنحن في محيط مليء بالأزمات من الصراع العربي الإسرائيلي الى العلاقات العربية المتصارعة وصولا الى وجود مجتمع مخترق، وإمكانية أن تمتدّ أزمات المنطقة الى لبنان.
وعاد أعواما الى الوراء ليذكّر بأن الوضع الإقليمي على مشارف عام 1958 كان مهيّأ للتسبب بأزمة أكبر من تلك التي حصلت في لبنان. لكن الحسابات الضيقة للأطراف الداخليين منعتهم من جرّ البلد الى أزمة أكبر. وكان الوضع أن يكون أسوأ بكثير لو لم يضغط الأميركيون على كميل شمعون بأن يتراجع عن التجديد، كذلك قام جمال عبد الناصر بالضغط على المعارضة. كادت الأطراف اللبنانية أن تتوجه الى مزيد من التصعيد، وكان ثمة استعداد للشعب اللبناني بالدخول في مواجهات ضد يعضه البعض وكانت الثورة لتكون أسوأ لولا لم تتم لملمتها. وتطرق بارودي الى حرب عام 1975 وقال بأنها انتهت بتوافق اقليمي دولي وكانت سوريا بحاجة لكي تحسّن علاقتها مع الأميركيين وحصل ضغط على الأطراف اللبنانية الداخلية. وخلص بارودي للقول بأن الحروب والأزمات لا تزال حولنا، ولدينا استعداد لكي ننجرّ إليها كما في الحرب السورية … وقال بأن لبنان هو امتداد للمعارك القائمة في الشرق الأوسط. لقد تعلّمنا بعض الدروس ولدينا استعداد أكبر لاحتواء الأمور لكنّ العقلية لا تزال مذهبية وذهنية استخدام الخارج للداخل اللبناني موجودة، فكيف يمكن تحصين الوضع الداخلي ليستمر البلد في هذه الظروف الصعبة في وضع إقليمي متفجرّ؟
كريم مروّة: سرديّة 1958 بتفاصيل شاهد عيان
قال كريم مروّة: إن البحث في ثورة 1958 يجب أن يقترن ببحث أوسع واعمق بمراحل تاريخية سابقة ولاحقة لعام 1958. أذكّر من لا يعلم بأمرين يحتاجان الى دراسة معمّقة لنعرف لم يقع لبنان من وقت الى آخر بما وقعنا فيه عام 1958 وعام 1975.
جميل مردم يعترض على وجود لبنان الدولة!
وسرد مروّة: أخبرني المرحومان الصديقان فؤاد بطرس وغسان تويني أمرا لم أكن قرأته في كتب التاريخ. عام 1944، أثناء انعقاد مؤتمر لتشكيل جامعة الدول العربية في الإسكندرية، وكان من المفترض وضع بروتوكول للجامعة وتوقيعه من قبل 6 دول عربية ناشئة (أي نالت استقلالها حديثا) وعلى رأسها: مصر والسعودية واليمن وسوريا ولبنان والعراق.
تمّت دراسة الموضوع، وعند توقيع البروتوكول، وكان الوفد السوري برئاسة رئيس الوزراء جميل مردم (على ما أذكر)، الذي قال: أنا لا أوقع على البروتوكول إذا وقّع عليه الوفد اللبناني. فسأله رئيس وزراء مصر آنذاك مصطفى النحاس عن السبب، فأجاب: لأن لبنان غير مهيّأ بعد ليكون وطنا ودولة مستقلة. وأنا لا أوقّع الى جانبه. فقال له مصطفى النحاس: أنت نسيت أن لبنان نال استقلاله عام 1943، في حين استقلت سوريا في نيسان 1944، اي قبل شهر من اجتماعنا هنا في الإسكندرية، فما هذا الإدعاء؟ لم يقنتع جميل مردم، فوقّع مع التحفّظ.
يتابع كريم مروّة: يشير هذا المثل الى أنه بعد الحرب العالمية الأولى وامتدادا الى الحرب العالمية الثانية كانت عين القيادات السورية على لبنان، ليس بالضرورة ان يكون لبنان وسوريا بلدا واحدا، لكن كما قال يوما حافظ الأسد: نحن شعب واحد في دولتين. من المهم أن يكون لبنان تابعا.
هذا الموقف لدى السوريين إقترن بموقف فريقين من الدول العربية: القوميون السوريون الذين يعتبرون لبنان جزءا من سوريا، والقوميون العرب الذين يعتبرون ان لبنان هو جزء من الأمّة العربية الموحّدة بدءا بالعلاقة مع سوريا.
وأردف مروّة: أنا متأكد مما أقول لأنني أتابع منذ أواخر الأربعينيات ما يجري في العالم العربي وقد بلغت اليوم التسعين عاما.
الأساس الطائفي للبنان المستقل عام 1943
وتابع مروة: حين نال لبنان استقلاله، وحصلت اشكالية حول المحافظات وسواها… صار البلد مستقلا وهذا ما عبّر عنه بيان رياض الصلح. لكن لنأخذ بالإعتبار ما حصل في الإستقلال منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أي زمن المتصرفية، فإن الطريقة التي تمّ بها الإستقلال عام 1943 كانت مختلفة تماما عمّا كان وضع اللبنانيين في القرن التاسع عشر.
وقراءتي أن أكثرية الوجوه في القرن التاسع عشر كانوا موارنة، لكنهم لم يكونوا يتحدثون كموارنة، بل كقوى مدنية منهم اشتراكيين وبعضهم علمانيين بشكل عام وبعضهم دروينيين الخ… وكانوا ينظرون الى لبنان كتاريخ قديم ومستمر وله دور أساس في المنطقة العربية. لكن الإستقلال عام 1943 تأسس منذ بدايته على المحاصصة الطائفية.
في زمن الإنتداب، ترشحت الى رئاسة الجمهورية شخصيات عدة لم تكن مارونية كلها، كان يوجد بروتستانت وشخصية سنّية من آل الجسر. بعد الإستقلال تقسّم كل شي، هذه البداية كانت بداية لما بعد.
يتابع مروّة: كنت معجبا كثيرا بالأديب اللبناني عمر فاخوري، وعام 1943 ترشح للإنتخابات وهو قال في أحد خطبه بعد الإستقلال: نريد وطنا…لا طيف وطن. أنا لا أنسى هذه الكلمة، وهذه تعني بأنه لديه شكوكا بأن هذا الوطن المستقل ليس الوطن الذي نريده.
خطأ شمعون في إدخال لبنان في حلف بغداد…وحوادث أليمة
إن مشكلة كميل شمعون –ودائما بحسب مروّة- هي في أنه تبنّى ادخال لبنان في حلف بغداد الأميركي الإنكليزي الفرنسي، أي أنه حلف استعماري. وكان الهدف الوقوف ضد الإتحاد السوفياتي ونحن لا شأن لنا في الصراع بين الرأسمالية والشيوعية.
المهم، نصل الى التاريخ الذي وصلنا اليه. إن الوقوف عند عام 1958 لا يكفي للدخول الى عمق المشكلة اللبنانية، توجد مشكلة لبنانية تجدر دراستها. أنا شاهد حيّ على ما حصل عام 1958، وهي سنة الأحداث الكبيرة والمتناقضة. لكن قبل ذلك، يجب تذكّر ما حصل عام 1957، حيث زوّر كميل شمعون الإنتخابات بعد أن غيّر الدوائر الإنتخابية، ليكرر ما فعله رئيس الجمهورية السابق الشيخ بشارة في ايار 1947، بهدف المجيء ببرلمان يعدّل الدستور ويمدّد له ولايته.
كان كميل شمعون من الأقطاب السياسيين الذين عملوا على اسقاط بشارة الخوري لأنه عدّل الدستور، وأنا شاركت بالتظاهرات عام1952. انتخب كميل شمعون رئيسا للجمهورية عام 1952 اعتراضا على بشارة الخوري. وهو قام بالشيء ذاته سنة 1957، وأسقط مجموعة من الوجوه الأساسية، كان من بينها صائب سلام وصارت تظاهرات…
نشأت في ذلك الحين حركة معارضة كان عنوانها “جبهة الإتحاد الوطني” التي ترأسها صائب سلام. وكانت تضم قوى سياسية عدّة. الملفت للنظر أن هذه القوى كانت كلها من المسلمين سنّة وشيعة ودروز.باستثناء شخصين هما حبيب ربيز (مستقل) وأنطون تابت( عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وكان ترشح للإنتخابات في بيروت وأسقط من بين الذين اسقطوا).
بدأت المعركة منذ 1957، كنت في آخر هذه السنة في الشام حيث كان الحزب القومي السوري الإجتماعي والحزب الشيوعي على تحالف، وكانت تصدر جريدة إسمها جريدة “النور” وكنت عضو محرر في الجريدة برئاسة فرج الله الحلو. في آخر، السنة، وتحديدا في كانون الأول بدأت المفاوضات حول الوحدة السورية المصرية، فطلب مني فرج الله الحلو مغادرة سوريا متوقعا مشكلة.
جئت الى لبنان، وحصلت الوحدة، وزار جمال عبد الناصر سوريا، وبدأت الوفود تتوجه بكثافة من لبنان وسوريا لتحية عبد الناصر وللتهنئة بولادة الجمهورية العربية المتحدة. وأذكر جيدا بأن عبد الناصر كانت عينه على لبنان، البلد الثاني بعد سوريا، وتمّ التعبير عن ذلك بصيغ غير واضحة، لكن يمكن رصدها بقراءة ما بين السطور.
شكل تأسيس الجمهورية العربية المتحدة استمرارا للدور السوري في لبنان، كثرت العمليات والحرتقات وصولا الى أيار 1958 حين اغتيال نسيب المتني.
اغتيال المتني وبداية الثورة البشعة
كنت أعرف المتني جيدا، وهو صحافي ولديه جريدة واسعة الإنتشار وكان عضوا في الحزب التقدمي الإشتراكي وكان شعبويا. تمّ اختياره، ليعمل مشكلة في البلد وكان البلد عمليا يتحضر لهذا المشكل. بمجرّد أن تمّ اغتياله بدأت التظاهرات، وكانت جبهة الإتحاد موجودة، وبدأت تتشكل تدريجيا في بيروت وأنا كلّفت من بعض الرفاق لأن نعمل مركزا للمقاومة وتم اختيار مدرسة عائشة على قصقص على أطراف المنطقة الغربية لبيروت، وكنت أحد المسؤولين عن هذا المركز.
وكان مركز ثان للحزب في الزيدانية، وتشكلت مراكز في مختلف المناطق اللبنانية…في طرابلس حيث كان لرشيد كرامي مركزا اساسيا للمقاومة والى جانبه مركز الحزب الشيوعي وفي بعلبك قاد الثورة صبري حمادة وفي الجنوب أحمد الأسعد وفي الشوف كمال جنبلاط. ومن طرائف الثورة، طلب كمال جنبلاط من الحزب الشيوعي” إرسال كم شخص مسيحي للوقوف على الحواجز كي لا تبدو كلها ذي صبغة درزية”، وكن يريد الغاء الطابع الطائفي للثورة، فأرسلنا له مجموعة من المسيحيين ليس للقتال بل للوقوف على الحواجز وليعرفوا عن أنفسهم: أنا حنّا و وأنا بطرس…بصوت عال. ليقال أن حواجز كمال جنبلاط ليست درزية!
الحقيقة، أنه في إطار هذه الثورة، لم تحصل معارك كبرى. وقد اتخذ قرارا بحيادية الجيش، لكن قراره لم يكن قاطعا، لأن ثمة بعض الجهات في الجيش دخلت على خط الثورة…
كان الطابع الأساسي للمعركة القتل والإغتيال بحسب الهوية الطائفية، كان الأمر مرعبا. كانت من أبشع أنواع الصراع السياسي باللغة الطائفية. وقلت في كتاباتي أن تلك الثورة التي أرادتها القوى العلمانية الديموقراطية أن تكون ثورة ضد كميل شمعون الذي يريد التمديد وتعديل الدستور، اتخذت طابعا طائفيا، لذلك أنا مع ما قيل من أنها كانت التمرين الأول لحرب عام 1975. لماذا؟ لنسرد ما حصل، في 14 تموز حصل انقلاب في العراق وتأسست جمهورية ضد الملكية، وبمجرد حصول الإنقلاب جاء الأسطول السادس وأرسل قوات له الى لبنان، ولا أنسى أن مركزنا في قصقص تقع مقابله مستديرة شاتيلا حيث تواجدت دبابات أميركية، وهي لم تقف على الشاطئ كما قيل بل دخلت الى عمق بيروت. في الوقت نفسه، أرسل البريطانيون جيشا الى الأردن. إذن يمكن القول أنه لا تحصل تغييرات في البلد من دون أن يكون دور مدروس للقوى الخارجية الكبرى وتحديدا الأميركيين.
المهم استمرت هذه الصيغة للثورة، لفترة الإنتخابات الرئاسية، بالطبع أدرك كميل شمعون أنه لا يمكنه الإكمال، وهنا جرت تدخلات خارجية عربية وأجنبية، وكان واضحا جدا دور الجمهورية العربية المتحدة، ودور الأميركيين والفرنسيين، وانتهت بأنه تقرر انتخاب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية، وتشكلت الحكومة الرباعية وضمّت العميد ريمون إده كوزير للداخلية. وكان التحدي لريمون إدة أن أحد المهووسين في البسطة خطف مسيحيا وذبحه، فأرسل ريمون إده قوّة تعتقله وحاكمه وأعدمه حيث ارتكب جريمته.
جمهورية فؤاد شهاب نموذجية…ولكن
وهذه كانت آخر ضربة لاستمرار الطابع الطائفي في الثورة وانتهت بانتخاب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية. وكانت جمهورية فؤاد شهاب نموذجيّة، لكن هذه الجمهورية النموذجية استمرت خلال الأعوام الست واستمرار نهج فؤاد شهاب واستمرت خلال فترة ولاية الرئيس شارل حلو فتأسس الحلف الثلاثي في السبيعينات.
أذكر أن فؤاد بطرس أخبرني أنه حين كان وزيرا للخارجية، أنه قصد الرئيس شهاب وقال له يجب أن يتوقف تدخّل المكتب الثاني، وكرر هذا الطلب في زيارات مختلفة، فأجابه مرة الرئيس شهاب: يا فؤاد روح اشتغل شغلك.
بقي فؤاد بطرس يقوم بشغله وهو يقوم بشغله، الى أن أتت سنة 1970 فطلبه فؤاد شهاب وقال له لقد تشاطرت عليك يا فؤاد، كنت على صواب وأنا كنت على خطأ لكن خسرنا الفرصة…أكلناها وأنا لن أترشح وأملى عليه البيان الذي أعلنه لاحقا بعدم رغبته بالترشح، وفي هذا البيان ينتقد القوى اللبنانية السياسية التي لم تشارك…ولم يعمل نقدا ذاتيا أنه مسؤول عن خراب هذه الجمهورية.
نحن في حرب أهلية سلمية
يتابع مروّة: هذا الكلام يعني أننا لا نزال أمام أزمة عميقة لا نعرف كيف نخرج منها. لأن المحاصصة الطائفية صارت جزءا من الكيان اللبناني. نحن الآن في حرب أهلية من دون استخدام السلاح، ولكن عمليا لا يركب لدينا بلد، ونحن نستعرض حوادث عام 1958 ونطرح السؤال الى أين نحن ذاهبون؟ وهذا السؤال بحاجة الى إجابة.
حازم صاغية أعطال الكيان اللبناني…
عاد الكاتب حازم صاغية الى تطورات عام 1953 حين توفي ستالين وقرر حلفاؤه تمديد الطموح الإستراتيجي السوفياتي الى ما يتجاوز المناطق المباشرة في آسيا، واقتربوا من الشرق الأدنى وهو أمر اعتبره الغرب تحرّشا بمناطقه التقليدية الخاصة. وهذا كله ضمن مناخ الحرب الباردة التي انفجرت في كوريا وفي المانيا، وقام الغرب بإنشاء الأحلاف لمواجهة التمدّد السوفياتي، حلف بغداد ومشروع أيزنهاور وكانت الناصرية في هذا المناخ وهي ناصرية 1956 (بعد حرب السويس) وما أفضت اليه من ولادة زعامة عبد الناصر بوصفه المخلّص … وبالتالي قيام الوحدة السورية المصرية. هذه التطورات هزّت لبنان وطرحت سؤالا اساسيا عن وجود عطل في كيان ينهار عند اي تطوّر في الخارج!
اكتشفنا العطل نفسه مع قيام الثورة الفلسطينية واكتشفناه أيضا مع التحوّل الذي طرأ في إيران. وبغض النظر عن راينا بهذه التطورات لا يمكننا تجميد العالم كي لا نهتز وننهار.
وبالتالي كان يوجد عطل اساسي في التركيبة اللبنانية يتمثل بعدم قدرتنا على تلافي هذه المسألة بشيء من المرونة. واضيفت أزمة أخرى، أشار اليها أحمد بيضون في إحدى كتاباته وتتمثل بالمشكلة الداخلية، فإذا طائفة صار لها ولادات أكثر من اللازم “يهر”ّ البلد، وغاا هاجرت طائفة “يهر”ّ البلد. هذا يجعلنا نستنتج أنه توجد أعطال أساسية بسبب عدم مرونة التركيبة اللبنانية.
ما حصل عام 1958 طرح ايضا سؤالا على الوضع العربي الذي أقلق لبنان وساهم في تصديعه. ليس صدفة أنه في 22 شباط عام 1958، أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا، وفي ايار 1958 اندلعت الحرب الأهلية الصغرى في لبنان، وفي تموز 1958 حصل الإنقلاب العسكري في العراق، واستباقا لسنة 1958، حصل انقلاب علي أبو نوار في الأردن علما بأن الملك حسين كان قدّم تنازلات لهذا المناخ، ممثلة بعزل غلوب باشا البريطاني مؤسس الجيش الأردني وهو بريطاني، وتشكيل حكومة سليمان النابلسي. بالرغم من ذلك حصل انقلاب علي أبو نوّار.
إن الوحدة المصرية السورية التي كانت تتويجا لهذه التطورات الإقليمية الجديدة لم تحتمل تغيير الوضع القائم بغير وسيلة الإنقلاب العسكري، أي العنف، وهذا يدل على عطل بنيوي أيضا في هذه التحولات العسكرية الراديكالية التي شهدتها المنطقة والتي تجسدت بصعود جمال عبد الناصر.
التحول الراديكالي القومي في المنطقة لا يتحمل التركيبة اللبنانية
لكن إنفجار لبنان اتخذ شكلا طائفيا دلّل على كيفية أن التحول الراديكالي الأمني القومي في المنطقة لا يتحمّل تركيبة مثل التركيبة اللبناني التعددية البرلمانية رغم تزوير الإنتخابات…وبعض المشاكل كان يمكن أن تصطلح من خلال سيرورة ديموقراطية في لبنان نفسه. لكن هذا التحول الراديكالي العربي العاصف، أثبت أكثر من مرّة أنه لا يشبه نفسه إلا بأن يصطدم بالتركيبة اللبنانية، وهنا، كل ما حصل في لبنان والأردن والعراق بإسم الوحدة وإذا بالوحدة نفسها عام 1961، تنهار وإذا بأعداد متعاظمة من السوريين، يتهمون مصر بالإستعمار وإذا بمصر تطلق على سوريا على سوريا تعبير انفصالية، وليتحول مصطلح الإنفصال الى شتيمة باللغة السياسية العربية.
وكأن تجربة 1958 تدلّ بألم على أمر مكلف كثيرا ومجانيا، في تجربتنا السياسية العربية الحديثة، أي أننا عملنا هذا الأمر للإلتحاق بالوحدة المصرية السورية، أو لنقلد هذه الوحدة وإذا بهذه الوحدة نفسها تنهار وتترك نوعا من إحباط مدهش. (…).