“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
يئس السعوديون من لبنان. هذه هي الحقيقة المرّة التي يظهّرها المسؤولون السعوديون في مجالسهم الخاصة مع أصدقائهم اللبنانيين.
وليس الإنفتاح الأخير الذي تمظهر بإعلان السفير السعودي في لبنان وليد البخاري رفع تحذير السفر عن المواطنين السعوديين وتفعيل عدد من الإتفاقيات عقب زيارة بدت وكأنها على عجل للموفد الملكي السعودي نزار العلولا سوى خطوة حميدة -لكن مترددة- الى الأمام، على أمل ألا تعقبها 10 خطوات الى الخلف بحسب ما يقول المثل اللبناني.
لم يأت يأس المملكة العربية السعودية من لبنان من فراغ، فهي استثمرت فيه الكثير منذ زمن بعيد، وخصوصا عقب اتفاق الطائف الذي احتضنته السعودية منهية الحرب اللبنانية، وفي حقبة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، مرورا بثورة الأرز، وصولا الى دعم كلّ الطقم المنضوي في 14 آذار، فإذا بها لم تجن من هذه الإستثمارات سوى “تين يابس” بينما شهد خصومها اللدودين أي إيران و”حزب الله” صعودهم الكبير في الداخل اللبناني وفي الخارج حيث تمدّدوا الى الميدان السوري ولم يتوانوا عن مدّ اليد الى حديقتها الخلفية المتمثلة باليمن والى مجالها الحيوي الخليجي في البحرين.
بدا للسعوديين بأن كلّ الدعم المالي والإنمائي والسياسي الذي قدّمته للدولة اللبنانية وفريقها ذهب أدراج الرياح، حتى الإعلام الذي طالما موّلته ودعمته انقلب ضدها بسحر ساحر، ما اضطرها الى وقف التمويل عنه لخلق مناخ إعلامي جديد عبر تعزيز منابر جديدة وتطويق الجيل الجديد من الصحافيين والمغرّدين الشباب عبر دعوتهم لفناجين قهوة متنقلة بين المناطق.
لا شكّ بأن السفير السعودي وليد البخاري الذي صار سفيرا أصيلا بعد أن خفضت السعودية تمثيلها لأكثر من عامين ونصف العام، يجيد الدبلوماسية الناعمة، وهو نجح في إحداث “نقزة” وتقليص الأضرار التي لحقت ببلده في لبنان وخصوصا عقب أزمة إستقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض في 4 تشرين الثاني 2017. لكنّ مرحلة تطويق الأزمة وتقليص الأضرار ستطول وسط وجود ممانعة داخلية لبنانية من قبل جمهور لا يستهان به هو ما يسمّى جمهور الممانعة، ووسط “ممانعة” سعودية لمّا تزل موجودة في الأوساط السياسية السعودية الحاكمة وعدم ثقة متنام من إمكانية خروج لبنان من تحت سطوة “حزب الله” كما يحلو للسعوديين توصيف الأوضاع.
ولعلّ الممانعة السعودية هي أشدّ وأدهى من الممانعة اللبنانية، حيث أن السعودية بضغطها على لبنان مع الولايات المتحدة الأميركية سواء بالرسائل المتواترة أو بالعقوبات المرفوعة كسيف مسلط نجحتا بلا أدنى شك في ثني أي تعاون لبناني مع إيران سواء إقتصاديا أو عسكريا ما أحدث خيبة أمل لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أثناء زيارته الأخيرة الى لبنان، لكنّ الإيرانيين المتمرسين بطول الصبر تلقفوا التمنع اللبناني برحابة صدر، فمن يحوك سجادة عجمية على مدة أعوام لن يزعجه الإنتظار لأعوام بعد لتبدّل اراء السياسيين اللبنانيين.
كذلك نجحت السعودية في عدم حصر الشاشات اللبنانية بزيارة ظريف فطلبت من أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط التوجه سريعا الى لبنان بحجة توجيه دعوة لمؤتمر عربي أوروبي سينعقد في القاهرة، ثم سارع الموفد الملكي السعودي نزار العلولا الى التوجه الى لبنان والقيام بجولات مكوكية تخللها إعلان عودة السعوديين الى لبنان وتوقيع اتفاقيات اقتصادية وتفعيل أخرى موقعة في مجالات مختلفة.
تدرك السعودية تماما، كما شقيقاتها الخليجيات أن صدى الميدان السوري يتردّد بقوّة في لبنان، وتعرف بأن الضغوط الأميركية على إيران يصعب أن تلقى نتائج فورية وخصوصا في لبنان حيث يقبل “حزب الله” على العمل السياسي الداخلي بشهيّة قلّ نظيرها غذّتها نتائج الإنتخابات النيابية التي فاز بها مع حلفائه بأكثرية ساحقة، والسعودية متيقنة بأن الدولة العميقة في لبنان ليس في يد حلفائها لوحدهم، بل يتقاسمونها مع الطرف الذي تخاصمه، وهي متأكدة بأن بندقية المقاومة تنال شرعية شعبية في لبنان حتى لدى جزء من حلفائها ولو لم يتجرّأوا على البوح بذلك علانية. لكنّ المملكة تعلّمت من خلال تجاربها المريرة في لبنان خصوصا سياسة “النّفس الطويل”، وهي أيقنت بأن الخطوة المتقدّمة التي خطتها في اتجاه لبنان ليست إلا تمهيدا لخطوة أكبر سوف تخطوها في اتجاه سوريا بعد تبلور المشهد السياسي وبعد أن تغير الولايات المتحدة الأميركية رياح الحل السياسي من خلال مرحلة انتقالية كما تسميها وتطلق عودة اللاجئين السوريين وإعادة الإعمار.
فالخطوة السعودية الأخيرة في عمقها هي في اتجاه الدور اللبناني المستقبلي وفي اتجاه لبنان “بوّابة سوريا” وليست في اتجاه لبنان الحالي، تماما كما يجاهر الخليجيون بأن انفتاحهم المفرمل أخيرا تجاه سوريا عبر اعادة افتتاح سفارات الإمارات والبحرين وسواها ليس في اتجاه “سوريا الأسد” بل صوب سوريا أخرى مختلفة لا مانع لديهم بأن تكون “سوريا بوتين” حيث إيران تكون خارجها بحسب ما يرغبون مع الأميركيين، مع “وهم” خليجي لم يتبدد لغاية اليوم بأن بشار الأسد سيبتعد عن إيران!
بحسب الأجواء السعودية التي حصل عليها موقع “مصدر دبلوماسي” فإن الإنفتاح الأخير في اتجاه لبنان ليس إلا لقطع الطريق على طهران، ويقول أحد كبار المحللين السعوديين لموقعنا بأنه لا رغبة لدى المواطنين السعوديين بالسفر الى لبنان بشكل مطّرد وهم لا رغبة لديهم بالسفر لأي بلد فيه “ميليشيات طهران وخصوصا “حزب الله” المسيطر على المطار ومداخله ومخارجه” بحسب تعبيره.
من جهتها، تقول أوساط دبلوماسية سعودية واسعة الإطلاع لموقعنا بأن “العلاقة طيبة مع لبنان لكن تقدّمها يعتمد على مسيرة البلد والحكومة اللبنانية ومدى نجاحها في الحفاظ على استقرار لبنان وهذا امر مهمّ جدا”. وأضافت الأوساط:” إن المملكة لا يهمها إلا مصلحة لبنان واستقراره وألا يهيمن عليه أحد، وهذا أمر في غاية الأهمية، لكن هذه العلاقة لكي تتطور وتعود الى سابق عهدها تحتاج الى جهود من قبل الطرفين وليس من قبل الطرف السعودي فحسب، وبالتالي فإن أي تفاعل إيجابي يحتاج الى تفاعل لبناني إيجابي لطمأنة المملكة الى سيادة لبنان على قراراه لأنّ “يدا واحدة لا تصفّق” على حدّ تعبير الأوساط الدبلوماسية السعودية.