“مصدر دبلوماسي”-مارلين خليفة:
خمسون عاما هو فارق “الجنون” بين وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان بن عبد العزيز وبين رئيس جمهورية لبنان العماد ميشال عون.
الأول، أمير يافع ملؤه الحياة والعنفوان والثورة وهو لم يكمل الـ32 من العمر، والثاني يغلي تمرّدا وعزّة وأنفة ونضالا مشتعلا لا يستكين، وهو طوى الـ82 من العمر.
خمسون عاما، يلتقي فيها “جنون” الأمير والعماد حينا ويفترق حينا آخر.
“جنون” ميشال عون الشاب أدّى الى إعلانه حربا على الوصاية السورية المحتلّة للبنان لوحده، من طابق تحت الأرض في قصر بعبدا، من دون أن يصغي الى نصائح الأقربين والأبعدين رافضا قراءة المتغيرات الإقليمية بعد حرب العراق فدفع الثمن نفيا قسريا الى فرنسا لأعوام.
وبعد نضال طويل وممضّ، ومطبات واكبت عودته عام 2005 وصل الرئيس عون الى سدّة الرئاسة الأولى متربّعا على تسوية داخلية بمباركة السعودية وإيران ليحكم والى يمينه سعد رفيق الحريري.
لم يكن الأمير محمد بن سلمان بحاجة الى كلّ تلك الأعوام ليصل الى سدّة الحكم، اكتفى منذ أيام بانقلاب أبيض أطاح بكلّ معارضيه المحتملين وأمسك بمفاصل الدولة السعودية الأمنية والإقتصادية والعسكرية، وها هو يحاول تدعيم أسسها الإقتصادية وتوجيهها نحو العصرنة على المستويات كلّها.
قد يعتبر البعض أنه من الجنون أن يقوم الأمير الشاب بهذه الإصلاحات كلها دفعة واحدة، كما اعتبروا يوما أنه من الجنون بل من المستحيل أن يصل ميشال عون الى سدّة الرئاسة الأولى. لكنّ الأمير محمد وصل، والعماد عون وصل… كلّ الى مبتغاه وإن بمسار مختلف كليا وبفارق 50 عاما بين “جنونيهما”.
اليوم، يحاول الأمير السعودي الشاب أن يعزّز دفاعات السعودية ضدّ طموحات إيران في الشرق الأوسط، ويحاول أن ينزع أيديها من ساحات تعتبرها المملكة ساحاتها من اليمن الى سوريا والبحرين ولبنان والعراق…
يقوم بحركة إستباقية ضدّ إيران التي تطمع بنظر السعودية بثروات المملكة وبنفوذها وبمكانتها وبدورها.
وهو يقوم بتحالفات إقليمية ودولية لا تستثني إسرائيل، ما قد يعتبره البعض خيارات مجنونة، لكنّ القيادة والتغيير يتطلبان شيئا من الجنون والإقدام، سواء كانت هذه القيادة على حق أو على خطأ.
إلا أن الأمير الشاب، إختار للبدء في خطته الإستباقية التعرض للساحة اللبنانية. ويقول لسان حال السعوديين أنهم يريدون قطع ذراع “حزب الله” في لبنان لتحريره من قبضة “الحزب” ليكون ركنا اساسيا في المحور العربي الذي يتحضّر في المنطقة.
إلا أن الأمير الشاب الذي لا يعرف لبنان إلا من تقارير وأخبار مستشاريه الذين يضعون في لبنان مستشارين آخرين تحرك معظمهم مصالح صغرى بعيدة من الرؤية الإستراتيجية للأمير الشاب، أوقعوه في خطأ جسيم، سيكون قاضيا إن استمر بالإتكاء على آرائهم، تماما كما قضى هؤلاء أنفسهم على “ثورة الأرز”.
هؤلاء المستشارين من إعلاميين وصحافيين ومنظرين لم يخبروا الأمير محمّد بدّقة عن وجود رئيس جمهورية في لبنان لا يقلّ جنونا منه هو العماد ميشال عون، وبوجود شعب يتناحر يوميا لكنه يأبى الإقتتال الداخلي في ما بينه.
ظنّ الأمير الشاب والثائر والمتحمّس للطيران بالمملكة من عصور قديمة الى الحداثة، أنه بهذه السهولة يمكنه تحريك الساحة اللبنانية، والقفز فوق ميشال عون والشعب اللبناني بغية صفع “حزب الله” وإيران…وقد يكون اعتقاده مبررا لأن لبنان بلد صغير وهو كما وصفه المحاور السعودي أمس في برنامج “كلام الناس” نقطة صغيرة في الإستراتيجية السعودية.
لكنّ المحلل، نسي بأن نقطة المياه الصغيرة قد تؤدي الى “شردوقة” تودي بالإنسان، كما قد تودي باستراتيجية إقليمية طويلة عريضة كتلك التي تعمل عليها السعودية وحلفاؤها.
نسي مستشارو الأمير الثائر، ومستشاريهم المنتدبين في لبنان تاريخ ميشال عون الذي حارب العالم رافضا منح توقيعه لأحد، ونسوا إخباره أن الشعب اللبناني دحر إسرائيل بالقوة وأخرج الوصاية السورية بثورة شعبية.
ومن دون الدخول في نقاش سياسي مختلف تماما حول إستفادة “حزب الله” ومحور إيران من عودة سعد الحريري كركن رئيسي لتسوية أفاد منها الحزب بالتأكيد، فإن مستشاري الأمير السعوديين ومن ورائهم اللبنانيين أوقعوه في سوء تقدير جسيم، قلب الرأي العام اللبناني ضدّ السعودية البلد الشقيق واستثمره منه “حزب الله” بالتأكيد.
فرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، حامل جواز السفر السعودي، ليس تفصيلا في الحياة السياسية اللبنانية وعند اللبنانيين. صحيح أنه أنهك في أعوام نفيه القسري من قبل “حزب الله” وحلفائه لخمسة أعوام في الخارج وعاد متعبا الى السلطة، لكنّه شاب حاول إقامة توازن داخلي في لبنان، ومسايرة “حزب الله” في أمور باقيا على عناده في قضايا جوهرية منها مثلا رفض العلاقة السياسية الطبيعية مع النظام السوري، واستمراره برفض السلاح الموازي للدولة والتشبث بهوية لبنان العربية ودوره في العائلة العربية.
لكنّ الحريري، مارس سياسة ضبط النفس وربط النزاع والواقعية السياسية مع محور يمسك بساحات قوية وبقبضة السلاح والقتال، وليس من الممكن مواجهته في الداخل اللبناني بقوة السلاح لأنه جزء من النسيج اللبناني ومن الشعب اللبناني، وأية مواجهة تعني عمليا حربا أهلية لبنانية جديدة، لذا حاول الحريري و14قوى آذار مواجهته بالسياسة طيلة ايام النفي ثم عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي بلا جدوى. فوجد من الأفضل تسيير عجلة الدولة في انتظار حل إقليمي شامل مع إيران.
إلا أن الأمير الشاب، اختار التعجيل في تغيير المعادلة في لبنان اعتقادا أنه يمهد لانقلاب ضد “حزب الله”. فقام باستدراج الحريري الى الرياض واملى عليه استقالته ثم وضعه قيد الإقامة الجبرية.
بهذه الحركة الآتية من خارج السياق وقع في المحظور. فـ”نقطة المياه” اللبنانية غصّت بهذا التصرف الذي لا يمتّ الى الأصول الدبلوماسية بصلة، ولا الى أصول العلاقات الدولية ولا الى احترام سيادة الدول. ونسي مستشارو الأمير الشاب إخباره عن شخصية ميشال عون وأنه لا يزال ذاك “المجنون الثمانيني” الذي لا يقبل الظلم والتعرض للكرامات الشخصية والوطنية.
فكانت ردّة لبنانية مشروعة ضدّ العبث بالسيادة وبكرامة اللبنانيين. قد يعتبر بعض الدبلوماسيين والمفكرين الإستراتيجيين اللبنانيين أن الحديث عن الكرامة الوطنية مضحك وسط مخطط إقليمي طويل عريض يهدف الى قلب الطاولة على إيران، قائلين بأن السعودية جاءت تساعد لبنان على رفع هيمنة “حزب الله”… لكن شكل “المساعدة” وطريقتها لم يأت مؤاتيا للواقع اللبناني ولمصلحة الإستقرار في لبنان وهو أمر يتشبث به اللبنانيون الذين عانوا الأمرّين من حرب أهلية دمّرت البشر والحجر واستمرّت 15 عاما وتلقنوا منها عبرا أبرزها عدم الإقتتال الداخلي تحت أي ظرف، وهذا ليس بتفصيل صغير في النسيج اللبناني وفي البسيكولوجية اللبنانية بعد الحرب.
وكان العماد ميشال عون هو حجر الزاوية في هذه الردّة الشعبية الغاضبة، رافضا الإنصياع والخضوع لحركة دبلوماسية غيرمفهومة إلا في عقل الأمير الشاب.
الجنون، هو ميزة الأقوياء، ودينامو أي تغيير، لكنّ الجنون الثمانيني لا يقلّ سطوة عن الجنون الثلاثيني. وعلى الأمير السعودي الثائر على التقاليد والذي قد يصبح خادم الحرمين الشريفين قريبا أن يدرك ذلك، ويحسب ألف حساب “لنقطة المياه” اللبنانية قبل الإقدام على أي خطوة في ساحة تمرّست برفض الخنوع لعقود وأجيال.
مارلين خليفة