الحاج محمد عفيف
“مصدر دبلوماسي”
كتبت مارلين خليفة:
في السابع عشر من تشرين الثاني من العام 2024 سقط الحاج محمد عفيف مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله شهيداً في غارة إسرائيلية استهدفت مقراً تابعاً لحزب البعث في منطقة رأس النبع في بيروت، فقضى مع أربعة من مساعديه هم: موسى حيدر، محمود الشرقاوي، هلال ترمس وحسين رمضان.
لم يكن اغتيال عفيف حدثاً عادياً في سياق الحرب التي اشتعلت عقب مشاركة حزب الله في اسناد حرب غزة، واستعرت عقب اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، واستمرت 66 يوما، بل كان تتويجاً لمسيرة رجلٍ تحوّل خلال واحدٍ وخمسين يوماً من مسؤولٍ اعلامي يعمل في الظل الى ما يشبه الأمين العام الإعلامي للحزب الذي فقد كبار قادته العسكريين والامنيين، فقاد معركة الوعي والكلمة في وجه آلةٍ إعلامية إسرائيلية ودولية ضخمة.

خلال تلك الأيام، تَصدّر الحاج محمد عفيف النابلسي المشهد الإعلامي، وأمسك بخيوط المواجهة المعنوية، فعقد اربعة مؤتمرات صحافية وشارك في أربعة لقاءات للّقاء الوطني الإعلامي، إلى جانب تنظيمه فعالية حاشدة في ساحة الشهداء ليُثبت أن الكلمة يمكن أن تكون بندقية الميدان الثانية وأن الإعلام، حين يدار بعقلٍ وصدقٍ وشجاعة قادر على حفظ التوازن مع دعاية العدو واحباط رواياته المضللة.
من الإحباط إلى التماسك: البداية من إذاعة “الصراط“
كان المؤتمر الصحافي الأول الذي عقده الحاج محمد عفيف امام إذاعة “الصراط” بعد أيام قليلة على اغتيال السيد نصر الله لحظة مفصلية في مسار المواجهة الإعلامية. كان المناخ حينها مثقلاً بالإحباط والضياع، والجمهور متعطش لرؤية أحد قادة الحزب بعد الفقد الكبير.
بعد ثلاثة أيام فحسب، دعا عفيف إلى اجتماع طارئ للإعلاميين في أحد المقاهي وضع خلاله استراتيجية لتفعيل العمل الإعلامي داعياً إلى التماسك وإطلاق تكتل إعلامي مقاوم قادر على مواكبة المعركة إعلامياً ومعنوياً.
ثم دعا الى جولة للاعلاميين في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت فشكّل ذلك خطوة نوعية في استعادة الثقة بين الجمهور والمقاومة وأعاد الروح إلى الشارع المقاوم.

المؤتمرات المتتالية: تثبيت الحضور وإعادة المعنويات
في مؤتمره الثاني، الذي عُقد بعد استشهاد السيد هاشم صفي الدين، شدّد عفيف على حضور المقاومة على المستويات كافة — الميدانية والسياسية والإعلامية — فاختار طريق المطار موقعاً رمزيّاً للمؤتمر، ليؤكد أنّ المقاومة ما زالت في قلب الميدان.
أما المؤتمر الثالث، الذي عقده في روضة الحوراء، فقد شكّل تحدياً مباشراً للعدو، إذ تبنّى فيه الحزب محاولة اغتيال بنيامين نتنياهو في قيساريا، وأعاد التأكيد على عبارته اللافتة: “بكير، بكير، بكير القول إن المقاومة خَسِرت.” ردّ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي بتهديد مباشر، تبعه قصف على الغبيري. لكنّ الشهود يؤكدون أنّ الحاج محمد ظلّ متماسكاً وصلباً رغم التهديد، يتنقّل يومياً في الضاحية الجنوبية على دراجةٍ نارية مع معاونه محمود الشرقاوي، يطّلع على الأضرار ويلتقي الناس والسياسيين، ويُنسّق بين المناخين السياسي والإعلامي.

شاهدٌ آخر يروي أنه رآه في ذروة الحرب جالساً في مقهى “شي بول” في الجميزة يحتسي القهوة مع مجموعة من السياسيين، في مشهدٍ يلخّص شجاعته غير العادية في أكثر الأوقات استثنائية.
قائد إعلامي استثنائي وروحٌ جامعة
لم يكن عفيف مجرّد متحدثٍ رسمي أو مسؤول علاقات اعلامية بل كان صلة وصلٍ بين الإعلاميين والسياسيين والمقاومة. اجتمع مراراً إبان الحرب مع أعضاء اللقاء الوطني للإعلام في مقاهٍ عدة، وكان يحضر كل اجتماعٍ ما لا يقل عن خمسين إعلامياً. يصفه أحد أصدقائه بأنه كان “الأمين العام الإعلامي للحزب بكل معنى الكلمة” لما شكّله من حالة اطمئنان وقوة في لحظات الانكسار”.
في مؤتمره الرابع والأخير في مجمع سيد الشهداء، أعلن الحاج محمد عفيف عن تعافي القيادة واستعادة السيطرة ونظّم بعدها فعالية تضامن كبيرة في ساحة الشهداء.
من خلال حضوره وكلماته، عكس صورة التعافي والالتفاف الشعبي حول المقاومة واستطاع تقديم الرواية الحقيقية لمجريات الميدان وإنجازاته بالرغم من التعتيم الإعلامي المقصود في حرب الستة والستين يوماً.
رجل الميدان والإعلام
كان الحاج محمد عفيف وجهاً مألوفاً للإعلاميين كافة، أصدقاءً وخصوماً.
لم يضع “فيتو” على أية وسيلة إعلامية، حتى تلك التي تحسب على خصوم المقاومة. تميّز بانفتاحه الواسع، وساعدته علاقته الوثيقة بالسيد حسن نصر الله — الذي كان مستشاره الإعلامي في بداياته — على أن يكون جسراً بين القيادة السياسية والحزب وبين الوسط الإعلامي والسياسي اللبناني.
يروي أحد عارفيه أن مكتبه في شارع معوض كان ورشة لا تهدأ، يجتمع فيها الأصدقاء والخصوم معاً، وأن بعض المحطات الإعلامية المعارضة كانت تستعين به لتصويب مقدمات نشراتها الإخبارية أو لصياغة بعض فقراتها.
ويقول عنه أحد أصدقائه الإعلاميين: “هو مقاوم قبل أن يكون إعلامياً، وإذا كان الإعلام رسالة، فهو أصدق من حملها.”

من ذاكرة المقاومة إلى ذاكرة الوطن
كان عفيف من الجيل المؤسس للإعلام المقاوم. واكب مراحل الحزب كافة منذ التسعينيات، من حرب 1993 إلى 1996، إلى انتصار عام 2000، ثم حرب تموز 2006 حين كان مديراً لتلفزيون “المنار”. في تلك الحرب، أشرف على مناورة تفريغ المحطة ونقل معداتها تحت القصف، فاستمر البث من دون انقطاع رغم تدمير المقر. حينها قال السيد حسن نصر الله عبارته الشهيرة: “لولا المنار لضاع الانتصار.”
يقول أحد زملائه: “مع اغتيال محمد عفيف، خسرت العلاقات الإعلامية رفيق البدايات، والرجل الذي كان الأقدر على كتابة أرشيف المقاومة.”
نهاية تليق بمسيرته
رفض عفيف أن يختبئ أو ان يطفئ هاتفه. بعد استهداف مكتبه في شارع معوض، راح يتنقّل مع فريقه بين المكاتب والمناطق، مؤكداً أنه سيواصل عمله حتى النهاية. قبل استشهاده بأربعة أيام، كان يُعدّ لفعالية في قصر الأونيسكو بعنوان: “إعلاميون في مواجهة العدوان.”
وفي يوم اغتياله، شاهده صديقه العميد في رأس النبع قبل ساعة واحدة من اغتياله كان، على دراجته مع معاونه محمود الشرقاوي يحثّه على الإسراع للوصول الى المكتبـ يومها قال لصديقه العميد “لم أنسَ الأمرالذي حدثتني عنه، وأنا أتابعه.”
بعد لحظات، أنهت الصواريخ الإسرائيلية رحلته.

رجل الرسالة حتى اللحظة الأخيرة
يقول أحد الإعلاميين الذين عرفوه عن قرب: “كان محمد عفيف مبادراً، شجاعا،ً المعيا، منفتح العقل، يعرف كيف يختار عباراته ويصف الوقائع من دون أن يمنح خصمه مادة يمكن أن يستغلها.”
وبعد استشهاد السيد نصر الله، جلس مع أحد أصدقائه الإعلاميين في جلسة بكاء طويلة وقال له: “صارت الحياة بعده بلا معنى، لكن علينا أن نكمل المسيرة.”
ويضيف صديقه: “كان واضحاً أنه يشعر بأن عليه حملاً ثقيلاً، وقد قرّر ألّا يتخلّى عنه.”
في رحيله، خسرت المقاومة صوتها الأصدق وصورتها الأوضح، وخسر الإعلام اللبناني واحداً من أكثر رجاله توازناً وصدقية. أما في الذاكرة، فسيبقى محمد عفيف شاهداً على أن الكلمة قد تكون آخر خط للدفاع عن الكرامة، وأن الإعلام حين يقوده رجل بمستوى الحاج محمد، يصبح جزءاً من المعركة لا مجرّد ناقلٍ لها.
