جان غابان، الممثل العملاق في دور "الرئيس" الفيلم يعود للعام 1961 ولكن قيمه لا تزال حديث الساعة في عصرنا
“مصدر دبلوماسي”- خاص
في إطار يجمع بين الفكر والثقافة والعدالة اختتمت امس الاثنين وزارة العدل اللبنانية بالشراكة مع المعهد الفرنسي في لبنان وبدعمٍ من مؤسسة متروبوليس فعالية “أسبوع السينما والعدالة” التي امتدت بين التاسع والعشرين من أيلول والعشرين من تشرين الأوّل. وقد شكّل العرض الختامي لفيلم Le Président الرئيس” في سينما مونتاني في المعهد الفرنسي لحظة ثقافية لافتة، جمعت بين رجال القانون والفكر والدبلوماسية وحشد من القضاة والمحامين والأكاديميين والطلّاب وممثّلين عن المجتمع المدني والإعلام.
نصّار… الوزير المثقف الذي يجسّر بين العدالة والثقافة
يُعدّ وزير العدل اللبناني المحامي عادل نصّار واحداً من أبرز الوجوه الفرنكوفونية في الحكومة اللبنانية. فهو رجل قانون وأكاديمي مشهود له بعُمق المعرفة وهدوء الرؤية، يحمل في شخصه مزيجاً نادراً من الانفتاح الثقافي والتواضع الإنساني. لم يكتف الوزير نصّار بالعمل في الإطار القضائي التقليدي بل سعى بوعيٍ ومسؤولية إلى تجسير العلاقة بين العدالة والمجتمع وإدخال المفاهيم الحقوقية إلى دائرة الحوار الثقافي والإعلامي.
ومن خلال مبادرته إلى إطلاق هذا الأسبوع السينمائي أراد أن يعيد الاعتبار إلى العدالة كقيمة اجتماعية تتجاوز النصوص القضائية وأن يقرّب المفهوم القانوني من الناس عبر الفنّ والسينما والحوار. وفي كلمته امس ظهر الوزير نصّار كمفكّر هادئ يسعى إلى بناء الثقة بين المواطنين ومؤسّساتهم وبث الايمان بأنّ العدالة لا تزدهر إلا حين تنفتح على المجتمع والثقافة والشباب.

بعد عرض الفيلم، دار نقاشٌ معمّق بين الوزير عادل نصّار وصديقه الدكتور جوزف باحوط، مدير معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، الذي شاركه في تحليل الرسائل التي يحملها العمل. وتمحور الحوار حول مفهوم العدالة ومواجهة الإفلات من العقاب، من خلال مقارنة بين السياق السياسي في الفيلم وبين التحديات التي تواجه الأنظمة الديمقراطية الحديثة.
أشار باحوط إلى أنّ الفيلم، على الرغم من صدوره في مطلع ستينيات القرن الماضي، ما زال يحتفظ براهنيته، إذ يطرح سؤالاً مركزياً حول أخلاقيات السلطة وضرورة محاسبة المسؤولين، أيّاً كانت مناصبهم. أما الوزير نصّار فشدّد على أنّ العدالة ليست مسألة قضائية فحسب، بل هي بناءٌ تراكميّ قيميّ يحتاج إلى تعاون المجتمع بأسره، من قضاة وإعلاميين ومثقفين ومواطنين، لصون الثقة بمؤسّسات الدولة.
ومما قاله نصار في كلمته: “نحن عادةً نفضّل أن يتحدّث المعنيّ في ختام المناسبة لا في بدايتها، وقد اغتنمتُ فرصة هذا الختام لأتحدّث بالفرنسية، لغة الفيلم، وهي أيضاً اللغة المرتبطة بالقانون اللبناني، على الرغم من أنّني أكرّر عادةً مثل هذا الكلام بالعربية.
إنّ بناء الثقة بين اللبنانيين ومؤسّساتهم يمرّ حتماً عبر العدالة، فهي الممرّ الإلزامي لتحقيقها.
إنّ بناء الثقة يتطلّب إيجاد الجسور، وسبل التواصل، ومساحات الحوار. وهذه الأفلام ليست سوى جزء صغير من الجهد المجتمعيّ الذي نسعى من خلاله إلى أن يفهم المجتمع بشكلٍ أفضل رسالة القاضي، ومآزقه، وصعوبات مهمّته”.
أضاف الوزير نصار:” يجب أن تكون وسائل الإعلام شريكاً في هذا المسار المعقّد وهناك ممثّلون للإعلام بيننا اليوم. الإعلام مدعوّ لأن يكون شريكا في هذا الطريق الصعب لكن الجوهري. وسيظلّ جزءا مهم من هذا العمل يعتمد على وزارة العدل التي بحكم موقعها ودورها يجب أن تعمل في اتجاه ترسيخ استقلالية القضاء.

غير أنّ العبء الأكبر سيبقى على عاتق القاضي نفسه الذي سيتمكّن من كسب الثقة من خلال مثاليّة عمله ونزاهته. وهذه الثقة هشّة ومتقلّبة وخصوصا عندما ترتبط بالرأي العام. ومع ذلك، فإنّ الأرقام التي في حوزتنا تشير إلى أنّنا ما زلنا على الطريق الصحيح”.
واشار الوزير نصار:” هذه المعركة تخاض اليوم على أيدي قاضيين كبيرين يتحلّيان بقوّة النزاهة والاقتناع، وبعضهما موجود معنا في هذه القاعة. ولأنني شاركتُ معهما في رسم ملامح المرحلة الجديدة للقضاء، أستطيع أن أشهد بأنهما يستحقّان كلّ تقديرنا ودعمنا.
وعلى خلاف ما كان يحدث في السابق، فإنّ هذا الصراع لا يجري في قاعة محكمة، ولا في عالم السجون، بل في الميدان السياسيّ. وهنا، في هذا الميدان بالذات، تُطرَح مسألة الإفلات من العقاب. وليس من خلال أدوات هذا العالم نفسه يمكن معالجتها.
إنّ الفيلم يروي قصّة رجل سلطةٍ في أواخر عمره، لكنه قويّ بإيمانه ونزاهته، يتحدّى الطبقة السياسيّة ويواجه طموحاً يجد جذوره في التسويات. لن أقول أكثر من ذلك، ستشاهدون الفيلم.
إنّ هدف هذا الفيلم هو التذكير بأنّ الوقت قد حان لكي يدرك الجميع أنّ النضال من أجل قيام دولة القانون يتطلّب جهداً مشتركاً من الجميع.

هذه المعركة لا يمكن أن تكون شأن القضاة وحدهم، حتى وإن كانت تخصّهم قبل غيرهم بل يجب أن تكون قضية الجميع. علينا أن نوفّر للقضاة الوسائل التي تمكّنهم من أداء مهمّتهم وأن نعمل نحن أيضاً كلّ في مجاله، في اتجاه سيادة القانون.
كما ينبغي أن نعبّر عن تقديرنا للقضاة الذين، رغم ظروف العمل المزرية، يواصلون أداء واجبهم في مواجهة الضعف الذي أصاب الدولة. وقد قال مونتسكيو قولاً بليغاً: السبيل إلى تحقيق العدالة الكاملة هو أن نجعل منها عادةً نمارسها في الأمور الصغيرة، ونطبّقها في طريقة تفكيرنا”.
فيلم «الرئيس»… السياسة مرآة العدالة
الفيلم الختامي: “الرئيس” هو للمخرج الفرنسي هنري فيرنوي مقتبس من روايةٍ بالعنوان نفسه للكاتب جورج سيمنون.
الفيلم الذي أُنتج عام 1961 هو من كلاسيكيات السينما السياسية الفرنسية وبطولة العملاق جان غابان إلى جانب برنار بلييه ورينيه فور.
يقدّم العمل صورةً بليغة عن أخلاقيات السلطة والنزاهة السياسية، من خلال شخصية إميل بوڤور رجل الدولة المخضرم والرئيس السابق لمجلس الوزراء الذي يعيش في عزلةٍ بعد تقاعده، ويستعيد عبر مذكّراته أبرز محطات مسيرته السياسية. من خلال الاسترجاع الزمني، نكتشف ماضيه، وخيانته من أحد معاونيه الشبان في خضمّ أزمة مالية كبرى. ومع مرور الزمن يظهر ذلك الشاب نفسه — فيليب شالامون — وقد عاد إلى المسرح السياسي طامحاً إلى قيادة الحكومة.
يواجه بوڤور خيبات الماضي بشجاعة رجلٍ عاش السياسة بمعناها الأخلاقي لا كحرفةٍ للسلطة بل كمسؤولية تجاه الوطن. يرفض المساومة ويقف في وجه الطموح القائم على التسويات، ليصبح الفيلم تأمّلاً عميقاً في العلاقة بين العدالة والسياسة، بين النزاهة والمصالح، بين المثالية والواقعية.

يُبرز الفيلم الصراع بين جيلٍ قديمٍ من السياسيين الذين يرفعون شعار المصلحة العامة وجيلٍ جديدٍ يرى في السياسة سلّماً للنفوذ والمكاسب. ومن خلال الحوار الذكي الذي صاغه ميشال أوديار يرسم العمل لوحاتٍ من النقاشات البرلمانية والضمائر المهزوزة والمواقف البطولية.
وقد رأى النقاد في أداء جان غابان أحد أروع أدواره، إذ منح الشخصية عمقاً إنسانياً وكرامةً داخلية جعلت منها رمزاً للنزاهة في وجه الفساد. ومع مرور الوقت، تحوّل الفيلم إلى مرجعٍ كلاسيكيّ في السينما السياسية، يُستعاد كلّما احتدم النقاش حول القيم والأخلاق العامة في الحكم.