خطاب مفصلي لعون أمس بمناسبة ذكرى شهداء الجيش اللبناني
“مصدر دبلوماسي”- “البوصلة”
كتبت مارلين خليفة:
لم يمرّ خطاب رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في عيد شهداء الجيش مرور الكرام، إذ استقطب اهتمام الدبلوماسيين العرب والأجانب الذين تابعوه بعناية. وقال أحد السفراء الأوروبيين لموقعنا:” المرة الأولى التي نستمع فيها إلى خطاب يتوسع فيه أحد أبرز اركان الدولة في أكثر من بند، مشدداً على أهمية الإصلاح باعتباره السبيل الأساسي لإعادة الإعمار وصرف الأموال في لبنان. لا أفهم كيف يمكن للبنانيين أن يتخيلوا أن دولاً مانحة ستدفع أموالاً في غياب نظام مصرفي سليم؟! هذا التعليق عكس صدى ما جاء في كلمة الرئيس عون التي تناولت حقوق المودعين والنظام المصرفي فحازت اهتماما وأثارت نقاشا حول جدية المسار الإصلاحي.
منذ توليه الرئاسة قبل ثمانية أشهر، أثبت العماد جوزاف عون الآتي من رحم المؤسسة العسكرية أنه ينوي نقل تجربة الانضباط والإصلاح التي رسّخها في الجيش الى مؤسسات الدولة قاطبة. وبدا خطابه أمس خريطة طريق شاملة تؤكد ثباته على ما تعهّد به في خطاب القسم وتضعه في موقع الرئيس الذي يواجه المزايدات بالوقائع والقرارات.
وضع عون السيادة في صدارة أولوياته مستخدما لغة صارمة لا تحتمل المساومة. قال بوضوح: علي أن أحافظ على سيادة لبنان، وحرمة حدوده، ووحدة شعبه، وسلامة أراضيه من حروب لا نريدها واعتداءات نرفضها». واستحضر تضحيات المؤسسة العسكرية من خلال المقداستشهاد المقدم محمد فرحات الذي اغتالته اسرائيل في الحرب الاخيرة ليذكّر بأن كل دم أريق في سبيل لبنان هو رصيد للأمة لا يجوز التفريط به.
عون لم يُخفِ أنه يمارس صلاحياته كاملة كقائد أعلى للقوات المسلحة، مشدداً على أن موقع الرئاسة ليس شكلياً بل مسؤولية دستورية مباشرة، قائلاً:”ديني للجيش كقائد أعلى للقوات المسلحة… أن أحافظ على هيبته وكرامته وقوته ودوره”.
وفي بعد ديبلوماسي دقيق، كشف عون تفاصيل الورقة التي قدّمها للجانب الأميركي بالتنسيق مع رئيس الحكومة نواف سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري، موضحاً أن المفاوضات تهدف الى فرض وقف إطلاق النار وانسحاب إسرائيل وحصر السلاح بيد الجيش. بهذا الموقف، بدا ثابتاً عند مصلحة لبنان غير آبه بحملات التشكيك التي انطلقت خبط عشواء بعد الخطاب المفصلي امس.
أما خطابه نحو بيئة المقاومة فحمل نبرة مسؤولية وطنية عالية إذ دعاهم إلى الرهان على الدولة وحدها حتى لا تذهب التضحيات سدى، مؤكداً أن «التجربة أثبتت أن سلاح الجيش هو الأمضى وقيادته هي الأضمن”. وهو بذلك عزز مرجعية الدولة الجامعة بعيدا من منطق الاقصاء والمحاور والانقسامات.
وبرز اعلاءه للدستور بوضوح حين شدد على أن صلاحيات التفاوض تمارس بالتنسيق مع رئيس الحكومة مع حفظ دور مجلس الوزراء في اتخاذ القرارات ما يرسّخ نهج الحكم التشاركي المؤسّساتي ويبعد اصوات النشاذ المقتاتة على زرع الشرخ بين الافرقاء.
ولم يغب الجانب الاقتصادي والمالي عن خطابه وهو ما كان مهما جدا للطقم الدبلوماسي العامل في لبنان، إذ أصرّ عون على طلب مليار دولار سنوياً ولمدة عشر سنوات لدعم الجيش والقوى الأمنية، معتبراً أن الاستقرار الأمني هو المدخل لأي انتعاش اقتصادي. كما وضع ضمن أولوياته حل أزمة النازحين السوريين وترسيم الحدود، مؤكداً أن أي استقرار دائم لا يقوم من دون معالجة هذه الملفات.
إعادة ثقة المجتمع الدولي والعربي بلبنان شكّلت محوراً آخر، حيث أشار عون إلى خطوات عملية أعادت فتح قنوات دبلوماسية وتفعيل الاتفاقيات مؤكداً أن لبنان عاد إلى الخريطة الإقليمية والدولية.
على الصعيد الداخلي، أطلق الرئيس إشارة انطلاق إصلاح قضائي نوعي معلناً أن “القضاء مطلق اليدين لمكافحة الفساد والمحاسبة…” ومشدداً على رفع الحصانات وملاحقة الفاسدين بلا كيدية.
ولم يغفل عون حقوق المودعين التي وصفها مراقبون بـ”جرس الإنذار الدولي”، مؤكداً إحالة مشاريع القوانين لضمان هذه الحقوق، بما في ذلك رفع السرية المصرفية وهيكلة المصارف الى جانب ورشة إصلاح إداري تشمل التعيينات والرقمنة لكبح الهدر وتعزيز الشفافية.
وفي الجانب التنموي، شدد على أولوية الإعمار، مذكّراً بأن خطط التمويل طرحت في جولاته الخارجية، بالتوازي مع إعادة تفعيل دور البلديات والدفع نحو إقرار قانون اللامركزية الإدارية. كما جدّد التزامه بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها لضمان استمرارية الحياة الديموقراطية.
عبر هذا الخطاب الذي اعتبره البعض “خطاب قسم ثان” قدّم جوزاف عون تصوراً متكاملاً لدور الرئاسة في المرحلة المقبلة، قائماً على معادلة واضحة: حصر السلاح بيد الدولة، وتفعيل المؤسسات والانطلاق بإصلاحات تعيد الثقة داخلياً وخارجياً. وقد رأت الأوساط اللبنانية والدبلوماسية أن الرئيس بعد ثمانية أشهر من توليه المنصب أراد أن يبعث برسالة مزدوجة: أولاً أنه لن يتراجع عن التزاماته الدستورية والسيادية وثانيا أن إنقاذ لبنان لا يمكن أن يتحقق من دون مشروع إصلاحي حقيقي يمس القضاء والاقتصاد والإدارة. وهكذا بدا خطابه بمثابة رسم لمسار سياسي واقتصادي طويل المدى يضع الدولة في قلب المعادلة ويواجه في الوقت نفسه حملات التشكيك والمزايدة.