توم براك وأحمد الشرع الرئيس السوري
“البوصلة”
كتبت مارلين خليفة:
لم تكن تصريحات الموفد الأميركي إلى سوريا ولبنان توم براك مجرّد تحذيرات عابرة أو قراءة «تقنية» للوضع الأمني والسياسي في لبنان. بل تكشف في عمقها مقاربة خطرة للغاية تمسّ صميم الكيان اللبناني وتضعه أمام خيار مصيري بالغ الحساسية: إمّا القبول بتغييرات جذرية في منظومة قوته الداخلية أو المخاطرة بفقدان سيادته وتحويله إلى ساحة مستباحة مجددًا.
التهديد المبطّن بتحويل لبنان إلى “بلاد الشام”
حين قال براك حرفيًا إن «لبنان سيصبح بلاد الشام مرة أخرى» إذا لم يتحرّك، بدا كمن يلوّح صراحة بإعادة وضعه تحت النفوذ السوري المباشر وهو تهديد فاضح للكيان اللبناني التاريخي وللاتفاقات التي أنهت الحرب الأهلية.
وإن كان قد نفى لاحقًا في منشور على «إكس» أن يكون ذلك تهديدًا فإن نفيه لا يقنع أحدًا. فباراك ليس هاويًا سياسيًا يخطئ في اختيار ألفاظه. إنه موفد رسمي اميركي يدير ملفات المنطقة من تركيا إلى سوريا فلبنان ويدرك تمامًا دلالة كل عبارة.
هذا التلويح بإعادة لبنان إلى «حضن» سوريا يذكّر اللبنانيين بأسوأ أيام الوصاية ويكشف أن ثمة خرائط جديدة ترسم في غرف التفاوض الدولية، وأن المسألة أبعد بكثير من سلاح حزب الله وحده.
أخطر ما في الطرح – التشكيك بقدرة الجيش اللبناني
في جزء بالغ الخطورة، يعلن براك بصراحة أنّ الجيش اللبناني رغم مصداقيته، عاجز عن القيام بدوره لأنه يعمل بميزانية «هزيلة» ويعاني من عتاد متهالك.
يقول حرفيًا: «ليس لدينا الجنود على الأرض لكي يتمكن الجيش اللبناني من القيام بذلك بعد، لأنهم لا يملكون المال. إنهم يستخدمون معدات عمرها 60 عامًا”.
وهو بهذا الكلام يوجّه ضربة قاسية إلى معنويات المؤسسة العسكرية والشعب الذي يعتبر الجيش صمام الأمان الأخير لوحدة البلاد.
أسوأ من ذلك أنه يقترح أن تقوم آلية «دولية» بمراقبة سلاح حزب الله، تضم الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل والجيش اللبناني نفسه. أي عمليًا تحويل مسألة سيادية حساسة إلى وصاية متعددة الجنسيات وحرمان الدولة اللبنانية من القرار الحر في أمنها.
وحين يقول: «بارك الله في اليونيفيل، لكنهم لا يملكون القيادة والسيطرة على الأمور الصعبة»، فهو يقرّ بأن حتى القوات الدولية عاجزة عن الحل، ويقدّم بالتالي المبرر الضمني لإعادة طرح “تلزيم لبنان” لقوة خارجية قادرة على «ضبطه» – تمامًا كما حدث بعد الطائف حين فُوّضت سوريا بالوصاية على لبنان.
نزع سلاح حزب الله شرطًا لبقاء لبنان؟
ما يزيد خطورة الطرح الأميركي هو ربطه الصريح بين بقاء لبنان كوطن مستقل و«حل مسألة سلاح حزب الله». فيختزل مشكلة لبنان الكيانية والمالية والسياسية والاجتماعية المعقّدة في مسألة سلاح طرف واحد – وكأنّ الفساد البنيوي، الانهيار الاقتصادي، الطائفية السياسية، والارتهان للخارج ليست قضايا يجب حلّها أيضًا.
بذلك، يجري تبرير أي خطة دولية أو وصاية جديدة بحجة «نزع السلاح»، فيما ما يُخطط له هو رسم خرائط جديدة تتجاوز لبنان نفسه.
موقف “القوات اللبنانية” يوفّر الغطاء السياسي
يأتي بيان رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في هذا السياق ليمنح غطاءً غير مباشر لهذا المنطق، ولكي لا نظلم القوات اللبنانية كثيرا، فإن معادلة تغيير خرائط المنطقة ومن ضمنها لبنان تجاوزت موقفها بأشواط.
يقول الدكتور جعجع في بيانه من معراب بأن تصريحات براك «برسم السلطة اللبنانية»، ويقرّ ضمناً بأن الدولة اللبنانية عاجزة محذرًا من تكرار «تلزيم» لبنان لسوريا كما حدث بعد الطائف.
لكن ما لا يقوله البيان بوضوح هو أن هذا التلزيم الجديد قد لا يكون لسوريا وحدها بل لمجموعة قوى إقليمية ودولية ترسم خرائط مسبقة تتطلب شرطًا أساسياً: نزع سلاح حزب الله وإعادة هندسة التوازنات الداخلية بما يناسب مصالحها.
الأخطر أن البيان يضع سياقًا أو خلفية «تبريرية» لكلام باراك، وكأنه يقول للبنانيين: نعم، هذا هو الواقع، ويجب القبول به وإلا سيُترَك لبنان للفراغ.
لكن الحقيقة أن لبنان أكبر من أن يُختزل في سلاح حزب أو حدود نزاعية. لبنان قضية تاريخية، وهوية وطنية، وشعب له الحق الكامل في الدفاع عن أرضه بجيشه وسائر عناصر قوته.
من غير المجدي بعد كلام المبعوث الاميركي أن يُصوّر للجمهور المسيحي – أو لسائر اللبنانيين – أن نزع السلاح هو شرط مسبق لحماية الكيان من دون الاعتراف بأن ما يخطط له هو تقسيم المقسّم ورسم خرائط جديدة.
توم براك نفسه، في مقابلته مع الإعلامي ريكاردو كرم تحدث عن «سايكس بيكو» وكأنها لم تعد موجودة في تلميح إلى أن الحدود القائمة قد لا تبقى على ما هي عليه.
من يطالب بنزع السلاح اليوم عليه أن يشرح للناس أن الخرائط الجديدة تحتم ذلك لأنها معدّة مسبقًا في المفاوضات الدولية وأن ثمة خططًا لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا في المشرق كله.
التهديدات شمالًا وشرقًا ليست نظرية
ومن الترف اليوم التظاهر بأن لبنان محصّن، فعلى حدوده الشمالية والشرقية، لم تعد مجرد قوات نظامية سورية، بل فصائل متطرفة – بعضها يتبع بشكل مباشر للمدعو ابو احمد الجولاني الذي نصّب رئيسا لسوريا بإسم أحمد الشرع أو فصائل أخرى ذات توجهات متشددة، مرعية من قوى إقليمية.
فهل يقال للبنانيين ببساطة: تخلوا عن عنصر قوتكم الوحيد غير الرسمي، في ظل جيش يعاني من العوز ونقص العتاد، وراهنوا على «الآليات الدولية» والوعود الأميركية؟
حق اللبنانيين في الدفاع عن وطنهم
إن أي كلام عن نزع سلاح طرف لبناني يجب أن يكون جزءًا من حل شامل متكامل يعزز الجيش اللبناني ويضمن سيادته على كامل الأرض ويوقف العدوان الإسرائيلي ويعيد الحقوق اللبنانية في الأراضي المحتلة القديمة والحديثة بعد الحرب الاخيرة.
أما المطالبة بنزع السلاح تحت تهديد إعادة لبنان إلى «بلاد الشام» أو إغراقه في حرب أهلية، فهو ابتزاز سياسي غير مقبول.
اللبنانيون شعب له كرامته وتاريخه، وليسوا ساحة مقايضة أو ورقة تفاوض بين اللاعبين الدوليين.
ومن حقهم الكامل أن يدافعوا عن بلدهم بجيشهم وكل عناصر قوتهم المشروعة وأن يرفضوا أي محاولة لفرض وصاية جديدة عليهم مهما كانت «آلياتها» براقة، ومهما تجملت بلغة الدبلوماسية.
