
“مصدر دبلوماسي”
لا شك أن كتاب “حزب الله: الفكرة والمسيرة” للدكتور قاسم قصير يندرج ضمن سلسلة المؤلفات التي تحاول تفكيك الظاهرة السياسية والعسكرية التي يمثلها حزب الله في لبنان والمنطقة، من خلال تتبع تاريخه ونشأته ومسيرته الممتدة من أوائل الثمانينات إلى اللحظة الراهنة. إلا أن هذا التوثيق لا يخلو من زوايا معتمة لم تقترب منها القراءة بما يكفي وخصوصا حين يتعلق الأمر بتموضع الحزب في البنية اللبنانية المعقدة، وتحوّلاته من مقاومة إلى قوة سلطوية واقتصادية، لها ما لها وعليها ما عليها.
ينطلق الكتاب من فرضية مركزية تعتبر أن فهم حزب الله يبدأ من بوابة التأثر المباشر بالثورة الإسلامية في إيران، وما رافق ذلك من تشكُّل لخطاب عقائدي يستبطن ولاية الفقيه كمرجعية شرعية مطلقة. وهذا المنطلق، وإن كان واقعيًا من حيث التأسيس الفكري للحزب، إلا أنه لا يناقَش من زاوية صدامه مع المجتمع اللبناني المدني التعددي، بل يُمرَّر كتحصيل حاصل دون مساءلة الأثر على الصيغة الوطنية الجامعة.
الكتاب يسرد، بدقة لافتة، مرحلة التأسيس، وما رافقها من انتقالات تنظيمية وهيكلية، وصولاً إلى تشكّل الذراع العسكرية، ثم التحول إلى حزب سياسي مشارك في السلطة. وهو في هذا السياق يبرع في تتبع المسارات، لكنه يفشل في استبطان التحولات الكبرى داخل الحزب نفسه: كيف تغيّرت لغته؟ كيف غيّر السلاح منطقه بعد التحرير؟ كيف أدار التناقض بين الدور المقاوم والدور المشارك في الدولة؟ لا نجد إجابات واضحة، بل نتابع تسلسلاً زمنياً يوحي بالتحليل، من دون الغوص في المآلات.
ربما الجزء الأقوى في الكتاب يتمثل في استعراضه لحروب الحزب مع العدو الإسرائيلي، وخصوصاً تحرير الجنوب عام 2000، ومن ثم حرب تموز 2006. يقدّم الكاتب هنا عرضًا دقيقًا وواقعيًا للمواجهة العسكرية، مع إشارات إلى تماسك الجبهة الداخلية، إلا أن السرد يبدو أقرب إلى الانتصار الرمزي منه إلى النقاش النقدي. فغياب المحاسبة أو التفكير في كلفة الحرب على المجتمع اللبناني، ولا سيما في بيئات غير منتمية للحزب، يحوّل النص من تحليل إلى رواية تقريريّة.
وفي معرض الحديث عن الدور الإعلامي للحزب، وخصوصا من خلال قناة “المنار”، لا يبتعد الكاتب كثيرًا عن الخطاب التعبوي الذي يمجّد قدرة الحزب على “بناء وعي جماهيري”، دون أن يطرح الأسئلة الصعبة: ما هو الثمن الثقافي لهذه الهيمنة الإعلامية؟ إلى أي مدى ساهمت في ترسيخ منطق الثنائية الحادة بين “خائن” و”مقاوم”؟ لا يحضر هنا سوى الثناء، ولو مغلفًا بلغة تحليلية.
كذلك، تتسم فصول الكتاب الأخيرة، التي تعالج علاقة الحزب بإيران وسوريا، بقدر من الحذر المفرط. يتم عرض هذه العلاقة بوصفها “استراتيجية” و”ضرورية” لمواجهة المشروع الأميركي-الإسرائيلي، لكن دون التوقف جدياً عند المساءلة السياسية: هل لا تزال هذه العلاقة في خدمة لبنان أم بات لبنان في خدمتها؟ وماذا عن التورّط في الحرب السورية؟ لا يخرج الخطاب هنا عن منطق التبرير، حتى حين يحاول أن يبدو توصيفيًا.
ومن الملاحظ أن النص، رغم محاولته التزام الحياد، يجنح أحيانًا إلى تقديم الحزب كصاحب مشروع متماسك ووحيد في ساحة تهتز بالتسويات. هذا الميل، وإن لم يكن فجًّا، يجعل من الرواية أقرب إلى داخلية حزبية منها إلى دراسة نقدية متحرّرة من الأجندات المضمَرة.
لكن لا يمكن إنكار القيمة التوثيقية العالية للكتاب. فالسرد متماسك، واللغة خالية من التهويل، والمنهجية تتبع خطاً أكاديمياً. كما أن المؤلف لا يقع في فخ التقديس المطلق، ولا في فخ التشويه، بل يترك فسحة للمتلقّي كي يكوّن حكمه. غير أن هذا التوازن الشكلي لا يعوّض النقص في استحضار أصوات مغايرة، أو حتى شخصيات من داخل الحزب خرجت أو تمردت على خطه، وهي كثيرة.
في النهاية، يبقى هذا الكتاب مرجعًا ضروريًا لفهم حزب الله من الداخل، لكنه لا يكفي وحده لمن يريد فهم الحزب في علاقته بالوطن، بالدولة، وبالناس. وهو كتاب يحتاج أن يُقرأ إلى جانب قراءات أخرى تتناول الأثر الاقتصادي، الثقافي، والمجتمعي لهذا الكيان السياسي-العسكري الذي تحوّل من مقاومة إلى مشروع يهيمن، بل ويعيد تشكيل معنى الوطن ذاته.