
الصورة الاخيرة للبابا فرنسيس مباركا حشود المؤمنين أمس في الفاتيكان بمناسبة عيد الفصح
“مصدر دبلوماسي”
كتبت مارلين خليفة
رحل البابا فرنسيس، الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية اليوم الإثنين في 21 نيسان أبريل 2025 عن عمر ناهز 88 عاما بعد صراع مع التهاب رئوي حاد ومضاعفات صحية متكررة. كان أول بابا ينتخب من أميركا اللاتينية وأول يسوعي يتولى هذا المنصب وقد تميّزت فترة حبريته التي امتدت على مدى اثني عشر عامًا بخيارات إصلاحية عميقة وبمواقف إنسانية وسياسية واضحة جعلته من أكثر الشخصيات الدينية تأثيرًا في القرن الحادي والعشرين.
في عظة عيد الفصح التي أُلقيت أمس الأحد 20 نيسان ابريل خصّ البابا فرنسيس فلسطين وغزة بجزء مهم من رسالته. ورغم أنه لم يتمكن من إلقاء العظة بنفسه بسبب وضعه الصحي، فقد قرأها أحد معاونيه من شرفة كاتدرائية القديس بطرس بينما ظهر البابا لفترة وجيزة لتحية الحشود.
في رسالته، أعرب عن قربه من معاناة المسيحيين في فلسطين وإسرائيل، ومن الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني. وأشار بشكل خاص إلى سكان غزة، ولا سيما المجتمع المسيحي هناك، حيث وصف النزاع المستمر بأنه “يولد الموت والدمار” ويتسبب في “وضع إنساني مروع ومشين”. كما دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، والإفراج عن الرهائن، وتقديم المساعدات للشعب الجائع الذي يتوق إلى مستقبل يسوده السلام.
بابا الإصلاحات العميقة
منذ انتخابه في آذار مارس 2013 أحدث البابا فرنسيس تحولًا جوهريًا في طريقة إدارة الكنيسة الكاثوليكية. تخلّى عن مظاهر الفخامة واختار الإقامة في بيت الضيافة بدلاً من القصر الرسولي، وفضّل ارتداء زي بسيط، مقدمًا صورة مختلفة عن السلطة البابوية تقوم على التواضع والقرب من الناس.
أطلق البابا إصلاحات جذرية في إدارة الفاتيكان، أبرزها إصدار الدستور الرسولي Praedicate Evangelium عام 2022، الذي أعاد هيكلة الكوريا الرومانية، وفتح المجال للعلمانيين والنساء لتولي مناصب قيادية داخل الفاتيكان، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الكنيسة.
كما سعى لتعزيز الشفافية المالية ومحاربة الفساد، وواجه عدة فضائح مالية داخل أروقة الكنيسة من خلال إحالة مسؤولين كبار إلى القضاء الكنسي، في إطار ما وصفه بـ”تطهير ضروري”.
وفي ميدان حقوق المرأة، كسر البابا بعض المحرّمات، وعيّن نساء في مناصب قيادية داخل المجامع البابوية، ما فتح نقاشًا واسعًا حول مستقبل دور النساء في الكنيسة.
معركة ضد البيدوفيليا
كان أحد أعمدة حبريته هو التصدّي الحازم لجرائم الاعتداء الجنسي داخل الكنيسة. في عام 2021، أصدر الدستور الرسولي Pascite gregem Dei الذي شدّد العقوبات على الجرائم الجنسية والمالية. وفتح البابا الباب أمام محاسبة علنية، وشجّع على تقديم الشكاوى، وواجه بشجاعة بعض المؤسسات الكنسية المتستّرة على الجناة.
واجه في هذا الملف ضغوطًا هائلة، لكنه أصرّ على موقفه القاطع، معتبرًا أن الاعتداء الجنسي على القُصّر “جريمة مقيتة” وأن الكنيسة يجب أن تكون “بيتًا آمنًا لا مكان فيه للمعتدين”.
مواقف سياسية بلا مواربة
عرف البابا فرنسيس بمواقفه السياسية الجريئة التي وضعته في مواجهة قوى كبرى. ففي الحرب الروسية الأوكرانية، طالب بوقف إطلاق النار مرارًا، وانتقد سباق التسلح، مؤكدًا أن “الحرب دائمًا فشل للإنسانية”. كما وصف النزاعات الحديثة بأنها “تجارة بالموت”، وخصّ المدنيين ضحايا الحرب بالدعاء والدعم المعنوي.
أما في ما يخص النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، فقد كان واضحًا في إدانته للعنف، خصوصًا ضد المدنيين في غزة. في إحدى عظاته، وصف قتل المدنيين المسيحيين في غزة بـ”الإرهاب”، ودعا إلى احترام الكرامة الإنسانية لكل إنسان، واعتبر حل الدولتين “السبيل الوحيد نحو سلام عادل ودائم”.
علاقة البابا فرنسيس بلبنان: تعاطف عميق وزيارة مؤجلة
تميّزت علاقة البابا فرنسيس بلبنان بمواقف داعمة وثابتة، حيث عبّر مرارًا عن محبّته الخاصة لهذا البلد، واصفًا إيّاه في أكثر من مناسبة بأنه “رسالة” للعيش المشترك بين الأديان. وخلال ولاية الرئيس اللبناني السابق ميشال عون، كان البابا يزمع زيارة لبنان في إطار دعم مسيحييه ومساندة الشعب اللبناني في أزماته المتعددة، لا سيّما بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020. غير أن الزيارة تأجلت مرارًا ثم عُدِل عنها لاحقًا بسبب تعقيدات سياسية داخلية وصحية حالت دون تحقيقها.
رغم ذلك، ظلّ الفاتيكان في عهد البابا فرنسيس مهتمًا بالملف اللبناني، وأعرب الحبر الأعظم في أكثر من مناسبة عن قلقه من الانهيار الاقتصادي والسياسي، داعيًا القادة اللبنانيين إلى تغليب الصالح العام. وفي تموز 2021، استضاف البابا لقاءً روحيًا غير مسبوق لقادة الطوائف المسيحية اللبنانية في الفاتيكان، دعا خلاله إلى “حماية هوية لبنان التاريخية والدينية” والتمسّك بدوره كجسر بين الشرق والغرب.
زيارات البابا فرنسيس حول العالم: الامارات والعراق علامتان فارقتان
منذ انتخابه في 13 مارس 2013، أبدى البابا فرنسيس التزامًا كبيرًا بالحضور الميداني في مختلف أنحاء العالم، مجسّدًا بابويته عبر زيارات خارجية حملت رسائل سلام وحوار وتضامن. خلال اثني عشر عامًا، قام بأكثر من 40 رحلة دولية شملت نحو 60 دولة في مختلف القارات.
زار البابا بلدانًا أوروبية كألبانيا، البوسنة والهرسك، بولندا، فرنسا، السويد، هنغاريا، سلوفاكيا، والبرتغال. كما أولى أهمية كبرى للبلدان النامية وللمجتمعات المهمّشة، فزار كينيا وأوغندا وجمهورية إفريقيا الوسطى ومدغشقر، وجنوب السودان في واحدة من أكثر الزيارات الرمزية والتاريخية.
في العالم العربي، شكّلت زيارته إلى الإمارات العربية المتحدة عام 2019 محطة لافتة، حيث شارك في “لقاء الأخوّة الإنسانية” ووقّع “وثيقة الأخوّة” مع شيخ الأزهر. كما زار العراق في مارس 2021 في زيارة تاريخية شملت بغداد والنجف والموصل وأربيل، رغم التحديات الأمنية والصحية. وقد حظي لقاؤه بالمرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني بأهمية استثنائية، إذ عُدّ خطوة نادرة في تاريخ العلاقات الإسلامية–المسيحية، ورسالة قوية لدعم الحوار بين الأديان والمذاهب. وأكد الجانبان على أهمية التعايش السلمي ورفض العنف باسم الدين، ما انعكس إيجابًا على صورة الكنيسة في الشرق الأوسط، وفتح الباب أمام مزيد من المبادرات بين المرجعيات الدينية في المنطقة.
كما زار المغرب والبحرين، وكانت لكل زيارة أبعادها في تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات.
ولم يزر لبنان رغم رغبته بذلك، بينما زار الأراضي المقدسة عام 2014 حيث أقام قدّاسًا في بيت لحم، وزار القدس والناصرة، والتقى مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين.
رغم زيارته التاريخية إلى إسرائيل عام 2014، حيث التقى كبار المسؤولين وزار الأماكن المقدسة، فإن علاقته مع الدولة العبرية اتسمت بالتوتر في مراحل لاحقة بسبب انتقاداته المتكررة للسياسات الإسرائيلية وخصوصًا خلال الهجمات على غزة. ورغم تأكيده الدائم على حق إسرائيل في الوجود بسلام، فإنه لم يتردد في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، ما جعله شخصية مثيرة للجدل في الدوائر السياسية والدينية في الشرق الأوسط.
صحة متدهورة ووداع متأخر
عانى البابا فرنسيس في السنوات الأخيرة من مشاكل صحية متكررة، أبرزها آلام مزمنة في الركبة والظهر اضطرته لاستخدام الكرسي المتحرك منذ عام 2022. وفي يونيو 2023، خضع لجراحة دقيقة في البطن لإصلاح فتق جراحي. أما في فبراير 2025، فقد أُصيب بالتهاب رئوي حاد تطلب إدخاله المستشفى وهي الأزمة الصحية التي لم يتعافَ منها بشكل كامل، وأدت إلى وفاته اليوم.
برحيل البابا فرنسيس، يفقد العالم رجل دين استثنائي جمع بين التواضع والإصلاح والجرأة السياسية. ترك بصمته في إعادة تعريف دور الكنيسة في العصر الحديث، وجعلها أكثر قربًا من المهمّشين، وأكثر انخراطًا في قضايا العدالة والسلام. وبينما يبكيه الملايين حول العالم، يبقى إرثه حاضرًا في مؤسسات الكنيسة وفي ضمير الإنسانية.