
ملصق بقناة العربية السعودية يظهر أهمية القمة الثلاثية التي تنعقد في جدة اليوم
تقرير دبلوماسي
مارلين خليفة
تشهد مدينة جدة اليوم الاثنين محطة مفصلية في مسار الحرب الروسية الأوكرانية مع انطلاق مباحثات رسمية بين وفدين من موسكو وكييف برعاية سعودية تهدف إلى كسر الجمود السياسي والدخول في مفاوضات حقيقية تمهّد لوقف القتال المستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات. اللقاء الذي يجري بعيدا من أروقة العواصم الغربية لا يحمل فقط أبعادا انسانية وسياسية تتعلّق بالحرب بل يترجم أيضا مسارا دبلوماسيا سعوديا جديدا يتعاظم حضوره على الساحة الدولية، ويعكس استراتيجية متكاملة تتماشى مع رؤية 2030 التي يتبناها ولي العهد السعودي ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان.
منذ اندلاع الحرب في فبراير 2022، حافظت المملكة العربية السعودية على موقف متوازن ومحايد لم ينزلق إلى اصطفاف مع أي طرف من أطراف الصراع. هذا الحياد لم يكن موقفًا سلبيًا أو هامشيا بل شكّل قاعدة انطلقت منها الرياض لتطرح نفسها كوسيط موثوق قادر على الحديث مع الطرفين ومنفتح على جميع الأطراف الدولية المعنية بما فيها الولايات المتحدة الاميركيةوأوروبا.
دبلوماسية بثقل استراتيجي
لا تُعد استضافة المملكة لهذه المباحثات حدثا عابرا أو مجرد مناسبة دبلوماسية. انها تتويج لمسار طويل من الاتصالات والمبادرات التي يقودها ولي العهد الامير محمد بن سلمان شخصيا ضمن سياسة خارجية سعودية باتت تعرَف بمرونتها وفاعليتها وتماشيها مع دينامية المشهد الدولي المتغيّر. ففي أكتوبر 2024، أعرب السفير السعودي عبد الرحمن الاحمد في موسكو صراحة عن استعداد المملكة للقيام بدور الوسيط وهو ما تبعه دعم سياسي من القيادة السعودية وتحركات ملموسة على أكثر من مستوى.
ولم يكن مستغربا أن يشير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في يوليو 2024 الى أن السعودية، إلى جانب الإمارات عرضتا التوسط في النزاع في إشارة واضحة إلى الثقة المتزايدة التي باتت تحظى بها الرياض في الأوساط الدولية حتى من قبل القوى الكبرى المتورطة مباشرة في النزاع.
وفي مارس 2025، استقبل الأمير محمد بن سلمان في الرياض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في زيارة اعتبرت نقلة نوعية في العلاقات الثنائية حيث جرى البحث في امكانات السلام وتعزيز التعاون الاقتصادي وخصوصا في مجالات الطاقة والبنية التحتية والصناعات الغذائية، بما يؤسس لعلاقات ما بعد الحرب وليس فقط هدنة مؤقتة.
الوساطة السعودية
المفاوضات التي تستضيفها المملكة اليوم لا تنفصل عن سجل دبلوماسي متنامٍ منذ بداية الأزمة فقد نجحت الرياض في سبتمبر 2022 في انجاز صفقة تبادل أسرى بين روسيا وأوكرانيا شملت عشرة مقاتلين أجانب وهو ما أثار إعجاب المجتمع الدولي وأعاد التأكيد على قدرة السعودية على التوفيق بين مصالح متعارضة.
كما استضافت مدينة جدة في أغسطس 2023 اجتماعا مهما لمستشاري الأمن القومي في عدد من الدول الكبرى، من ضمنها الولايات المتحدة والصين والهند وأوروبا لمناقشة مسارات الحل السلمي. كانت تلك الجلسة علامة على أن السعودية باتت منصة سياسية للبحث في أزمات كبرى وأنها لم تعد تكتفي بدور المتابع أو الراعي الرمزي بل أصبحت لاعبا حيويا ومؤثرا.
لا تقتصر الجهود السعودية على الجانب السياسي فحسب. ففي فبراير 2023، أعلنت المملكة عن حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 400 مليون دولار، منها 100 مليون مساعدات إنسانية عبر مركز الملك سلمان للإغاثة، و300 مليون دولار كتمويل مشتقات نفطية مقدمة من الصندوق السعودي للتنمية. هذه المبادرات تعكس التزاما سعوديا بمعايير إنسانية عالمية وتُظهر كيف يمكن للدبلوماسية أن تتقاطع مع العمل التنموي ضمن رؤية شاملة تخدم الاستقرار طويل الأمد.
هذا البعد الإنساني بات عنصرا أساسيا في الدبلوماسية السعودية الحديثة التي لا تكتفي بعقد اللقاءات والمفاوضات بل تسعى إلى خلق بيئات اقتصادية واجتماعية تساعد على إعادة البناء بعد انتهاء النزاعات.
رؤية 2030: السلام جزء من مشروع النهضة
تأتي هذه التحركات السعودية في إطار رؤية 2030 التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، والتي تتضمن في أحد محاورها البارزة إعادة تعريف دور المملكة على المستوى الدولي وتحويلها الى قوة استقرار لا غنى عنها في المعادلات الإقليمية والدولية.
الرؤية التي انطلقت بهدف تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط سرعان ما توسّعت لتشمل بناء نفوذ سياسي ناعم وفعّال. من خلال الوساطة، تقديم المساعدات، واستضافة الفعاليات الدولية تسعى المملكة إلى تثبيت موقعها كقوة دولية مسؤولة لا تبحث فقط عن مصالحها بل عن حلول للأزمات التي تعصف بالعالم.
وفي هذا السياق، تُعد محادثات جدة علامة على نضوج الرؤية السعودية الجديدة، التي تربط بين السياسة الخارجية والتنمية المستدامة ومكانة المملكة كقائد إقليمي ودولي مؤثر.
رغم الطابع الرمزي والمهم لاستضافة السعودية لهذه الجولة، فإن التحديات السياسية والعسكرية ما تزال قائمة. يصرّ الجانب الأوكراني على ضمانات أمنية غربية صلبة تشمل إمكانية بناء قواعد تدريب عسكري داخل البلاد، وهو ما ترفضه موسكو بشدة. كما أن مسألة الأراضي المحتلة تمثّل نقطة خلاف محورية، حيث ترفض كييف الاعتراف بسيطرة روسيا على حوالي 20 في المئة من أراضيها في حين تشير تسريبات الى امكانية مناقشة تثبيت خطوط المواجهة الحالية كحدود مؤقتة.
روسيا من جهتها تسعى لضمانات لحماية أسطولها في البحر الأسود وضمان استمرار تصدير الحبوب عبر ممرات آمنة في حين تصرّ كييف على وقف شامل للهجمات على البنية التحتية الحيوية، لا سيما منشآت الطاقة.
إلا أن اللافت في هذه الجولة من المفاوضات هو الحضور غير التقليدي من الجانب الروسي، حيث يشارك فيها مستشار جهاز الأمن الفيدرالي سيرغي بيسيدا إلى جانب عضو مجلس الاتحاد غريغوري كاراسين في إشارة إلى انفتاح موسكو على مقاربة غير رسمية قد تتيح فرصًا جديدة للتفاهم.
لم تتأخر ردود الفعل الدولية في الإشادة بالدور السعودي. فرنسا وبريطانيا أعربتا عن تقديرهما لاستضافة الرياض للمحادثات، ووصفتا الخطوة بأنها “اسهام بنّاء في مساعي الحل” فيما أكّد المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف أن بلاده ترى تقدّما حقيقيا وأن المفاوضات الجارية في جدة قد تمهّد لـ”لحظة اختراق سياسي” منتظرة.
في عالم يعج بالنزاعات والصراعات تبرز المملكة العربية السعودية اليوم كلاعب استثنائي يتقن لغة التوازن ويملك أدوات التأثير. لم تأت استضافة محادثات السلام الروسية الأوكرانية من فراغ، بل هي ثمرة سنوات من العمل الدبلوماسي الهادئ والنهج الواقعي الذي تتبناه القيادة السعودية والقدرة على نسج علاقات ثقة مع الجميع دون استثناء.